انفجار جيل "زد" في نيبال.. هكذا زلزل عرش السياسة وأسقط الحكومة

داود علي | منذ ٣ ساعات

12

طباعة

مشاركة

من قلب جبال الهملايا الشاهقة، حيث تقبع نيبال عادة في الهامش البعيد للتاريخ والجغرافيا، اندلع مشهد غير مسبوق قلب الموازين. 

هذه الدولة الصغيرة، المحاصرة بين العملاقين الهند والصين، والتي عرفت لعقود بأنها منسية وسط صراعاتها الداخلية وأزماتها الاقتصادية، وجدت نفسها فجأة في صدارة الأخبار العالمية.

ما أشعل الشرارة لم يكن حربا ولا انقلابا، بل قرارا حكوميا بدا في ظاهره إجرائيا، حظر منصات التواصل الاجتماعي. 

لكن بالنسبة إلى جيل "زد"، أبناء العصر الرقمي والاتصال الفوري، كان ذلك مساسا بجوهر وجودهم، لم يتعاملوا معه كقرار إداري، بل كإعلان مواجهة. 

وفي غضون أيام قليلة تحول الغضب من خلف الشاشات إلى موجة عارمة في الشوارع، انتهت بإسقاط الحكومة وإدخال البلاد إلى فصل جديد من الفوضى.

ما حدث في نيبال ليس مجرد احتجاج عابر، بل علامة فارقة على أن جيل "زد" لم يعد جيلا يتلقى التعليمات، بل قوة اجتماعية وسياسية قادرة على قلب موازين السلطة وإعادة رسم المشهد. 

وهنا يطل السؤال الكبير، هل تصبح نيبال النموذج الأول لأنماط التغيير القادمة في العالم، حيث يقف جيل "زد" في طليعة موجات الغضب والتحول السياسي؟

إعلان حرب

ولطالما عانت نيبال من عزلة سياسية واقتصادية، فمن الحروب الأهلية الطويلة إلى الديون الثقيلة وملفات الفساد، ظل هذا البلد الصغير محكوما بأنظمة هشة غير قادرة على معالجة أزماته. 

ورغم أن سكان نيبال البالغ عددهم نحو 35 مليون نسمة، ينتمون إلى خليط عرقي ممتد من التبت والهند وبورما وحتى يوننان الصينية، إلا أنهم توحدوا خلف صرخة واحدة: "كفى".

في الخامس من سبتمبر/ أيلول 2025، صعدت الحكومة النيبالية الأزمة التي بدأت بتظاهرات محدودة ضد الفساد، بقرار إغلاق 26 منصة تواصل اجتماعي دفعة واحدة، بينها فيسبوك، تيك توك، واتساب ويوتيوب، بذريعة "عدم التسجيل القانوني". 

القرار بدا كأنه إعلان حرب على جيل "زد" الذي لا يعرف الحياة خارج هذه التطبيقات، فجأة وجد ملايين الشباب أنفسهم محرومين من أدواتهم الأساسية للتعبير والتنظيم، وحتى العمل. 

لم يستسلم جيل "زد"، فبعد ساعات قليلة من الحظر، لجأ الناشطون إلى الشبكات المشفرة وVPN، ونظموا لقاءات سرية تحولت إلى مسيرات صاخبة في شوارع العاصمة كاتماندو. 

ومع اتساع رقعة الغضب، خرج عشرات الآلاف يهتفون ضد الفساد وضد طبقة سياسية تعيش حياة مترفة بينما يرزح الشعب تحت الفقر والبطالة التي بلغت 20 بالمئة بين الشباب العام الماضي.

الشرطة واجهت المتظاهرين بالقمع، وأطلقت الغاز والرصاص المطاطي، لكن الحشود لم تتراجع، سقط 19 قتيلا وأكثر من 100 جريح، إلا أن الشارع ازداد اشتعالا. 

وبلغت اللحظة الحاسمة حين أعلن رئيس الوزراء النيبالي، كيه. بي. شارما أولي استقالته قائلا: "نظرا للوضع المتأزم، أستقيل اليوم لتسهيل الحل وفق الدستور".

لم تكن استقالة أولي نهاية المشهد، المتظاهرون اقتحموا البرلمان وأشعلوا النار في أجزاء منه، فيما لجأت الحكومة إلى فرض حظر تجوال واستدعاء الجيش. 

هاجم المحتجون من جيل "زد" مقرات الحزب الشيوعي النيبالي، بصفته الحزب الحاكم، وسط هتافات الغضب التي امتزجت بالدماء والدخان، بينما فر وزراء بمروحيات عسكرية إلى أماكن آمنة، تاركين وراءهم زوجاتهم وأقاربهم.

بعدها تداول ناشطون مقاطع فيديو تظهر هجوم متظاهرين على زعيم حزب المؤتمر شير بهادور ديوبا وزوجته وزيرة الخارجية أرزو رانا ديوبا. 

وعلى تويتر وإنستغرام، تحولت وسوم مثل "#NepalProtests" إلى ساحة عالمية لمتابعة الأحداث، ووجدت القضية صدى واسعا في الإعلام العربي والدولي.

التحليل الأعمق يكشف أن الحظر لم يكن سوى الشرارة، كما يقول براتيك برادان، رئيس تحرير موقع "بهارخاري" النيبالي المستقل: "ما جرى لم يكن بسبب وسائل التواصل فحسب، الاحتجاجات على الحظر كانت مجرد حافز، الغضب الحقيقي سببه الطريقة التي تدار بها البلاد منذ عقود".

وفي رسالة إلكترونية وصلت إلى وكالة "رويترز"، وقعها أحد المشاركين باسم "مواطن نيبالي قلق"، جاء التأكيد بأن الهدف الأساسي من هذه المظاهرات هو مواجهة الفساد العميق داخل مؤسسات الدولة.

الرسالة أوضحت أن قرار الحكومة بحجب منصات التواصل الاجتماعي جاء بعدما تحولت تلك المنصات إلى مساحة لكشف التفاوت الصارخ بين حياة أبناء السياسيين المترفة وواقع غالبية الشعب الغارق في الفقر. 

فالشباب كانوا يتداولون صورا ومقاطع تكشف حياة البذخ التي يعيشها أبناء النخبة، وهو ما عدته السلطات تهديدا لهيبتها.

ولم يكن الإحباط بين شباب نيبال وليد اللحظة، بل نتاج سنوات طويلة من انسداد الأفق دفعت بملايين منهم للهجرة إلى الشرق الأوسط وماليزيا وكوريا الجنوبية، للعمل في مواقع البناء وأعمال شاقة، وإرسال الأموال إلى عائلاتهم في الوطن. هذه المفارقة القاسية، شباب يكدحون في الخارج بينما أبناء الطبقة السياسية يستعرضون ثراءهم في الداخل، كانت الوقود الحقيقي لثورة جيل "زد".

ففي الأسابيع السابقة، قبل الثورة كانت صور أبناء السياسيين وهم يستعرضون سيارات فارهة وممتلكات فاخرة تنتشر على المنصات، في بلد لا يتجاوز فيه دخل الفرد 1400 دولار سنويا. 

ومع تفشي قضايا فساد كبرى لم يجرؤ أحد على محاسبتها، بدا أن صبر الشباب أو جيل "زد" في نيبال قد نفد.

مجموعة “هامي نيبال”

لم يقف الأمر بعد الانتفاضة العارمة على نجاح جيل "زد" في الإطاحة بالحكومة، فخلال أقل من 48 ساعة، وجد نفسه أمام سؤال أكبر، من يقود المرحلة المقبلة؟ 

وبدل اللجوء إلى الآليات السياسية التقليدية، اختار الشباب طريقا غير مسبوق، وهو الاعتماد على الذكاء الاصطناعي كأداة لترسيم مستقبل البلاد.

وبحسب تقرير لصحيفة التايمز البريطانية، برزت مجموعة شبابية تدعى "هامي نيبال" كأحد أبرز محركات الانتفاضة. 

فقد لعبت دور "غرفة العمليات الرقمية"، مستفيدة من منصات مثل ديسكورد، حيث أطلقت قناة بعنوان "شباب ضد الفساد" تحولت إلى ساحة للنقاش، التنسيق، واتخاذ القرار.

في تلك النقاشات، استعان الأعضاء بتطبيق "شات جي بي تي" لتوليد قائمة من الشخصيات المرشحة لقيادة المرحلة الانتقالية، مع تحليل لمزايا كل مرشح ونقاط ضعفه. 

وتضمنت القائمة الرئيسة السابقة للمحكمة العليا سوشيلا كاركي (73 عاما)، عمدة العاصمة كاتماندو بالين شاه، المهندس ساغار داكال، والسياسية سومانا شريستا.

وبعد جولات مطولة من النقاشات الرقمية، استقر اختيار النشطاء على كاركي لتمثيلهم في التفاوض مع الجيش والإشراف على الحكومة المؤقتة. 

وأشارت التايمز إلى أن الذكاء الاصطناعي شدد على سمعتها في النزاهة، معتبرا أنها مؤهلة لاجتياز حاجز الثقة بين القوى المتصارعة وقيادة عملية إصلاحات واسعة وصولا إلى انتخابات نزيهة.

وقد حظي هذا الاختيار بتأييد شخصيات بارزة، بينها عمدة كاتماندو، الذي نشر على فيسبوك أن "مهمة الحكومة الانتقالية هي قيادة البلاد نحو اتجاه جديد"، مشيدا بشجاعة جيل "زد" وحماسته للتغيير.

ومع ذلك لم يتوقف الأمر عند الانتفاضة أو اختيار الزعيمة بهذه الطريقة، بل اكتسبت طابعا ثقافيا فريدا، أضفاه جيل "زد" ليكون إيذانا بمرحلة جديدة، فمثلا تبنى المتظاهرون شعار الجمجمة والعظمتين المستوحى من أنيمي "ون بيس"، معتبرينه رمزا للحرية والتمرد. 

إلى جانب ذلك، بثت مجموعة "هامي نيبال" الشبابية جلسات نقاش مباشرة على يوتيوب تناولت قضايا دستورية حساسة، واستقطبت آلاف المتابعين من داخل البلاد وخارجها، في مزيج غير مألوف بين السياسة، الثقافة الشعبية، والتكنولوجيا الحديثة.

مع ذلك، لم يخل المسار من انتقادات، فقد رأى بعض النيباليين أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في اختيار القيادة يفتقر إلى الشرعية، وأن السياسة لا يمكن أن تُختزل في تصويت افتراضي على منصات رقمية. 

وكتب أحد المشاركين على ديسكورد: "تغيير القوانين يتطلب دراسة ومصداقية وتفويضا شعبيا، لا مجرد استشارة خوارزمية.. إذا استغلت هذه الأداة من أطراف خارجية، ستكون النتيجة كارثية".

كما وجه نقدا مباشرا لمجموعة "هامي نيبال"، قائلا: "أنتم لا تمثلون جيل زد بالكامل، فكرتكم مبتكرة، لكن أسسها ضعيفة".

ومع ذلك فإن أحلام جيل "زد" الوردية في نيبال تصطدم بواقع شرس، وهو ما أشارت إليه صحيفة "التايمز" البريطانية، من أن مجموعة "شباب ضد الفساد" واجهت فوضى داخلية وانقسامات حادة. 

بعض الأعضاء تم حظرهم بدعوى مخالفة سياسات المشرفين مجهولي الهوية، فيما اتهم آخرون القيادة الرقمية بقمع الآراء المخالفة. 

لكن التقرير رأى أن هذه الفوضى بحد ذاتها تعكس طبيعة جيل "زد"، ديناميكية غير منظمة بالكامل، لكنها قادرة على تحويل التكنولوجيا والثقافة الشعبية إلى أدوات فعل سياسي.

وتكشف تجربة نيبال عن مشهد غير تقليدي في السياسة العالمية، فما حدث لم يكن مجرد انتفاضة ضد الفساد أو حظر المنصات، بل نموذج جديد لكيف يمكن لجيل "زد" أن يستخدم أدواته الرقمية، من الذكاء الاصطناعي إلى الثقافة الشعبية، لإعادة تشكيل معادلة السلطة بتعقيداتها. 

جيل "زد" 

وقال رائد الأعمال بسام شحادات؛ إن التاريخ اعتاد أن يصف الثورات بأنها "ثورة الجياع" أو "ثورة العمال" أو "ثورة الفلاحين"، وتابع عبر منصة "إكس" لكن ما جرى في نيبال أخيرا أدخل قاموسا جديدا في وصف الحركات الاحتجاجية، إذ يمكن تسميته بـ"ثورة جيل زد".

فيما قال الناشط الكويتي ناصر محمد الأربش، عبر حسابه بمنصة "إكس": إن ما جرى في نيبال يمثل رسالة عالمية تعلن بداية حقبة جديدة من صراع الأجيال في المجتمعات البشرية. 

وأوضح أن جيل "زد"، المعروف بجيل الإنترنت والهواتف الذكية، نجح في قلب الطاولة على النظام السياسي التقليدي هناك، مستخدما أدوات رقمية غير مألوفة في السياسة التقليدية.

وأضاف الأربش أن منصة "ديسكورد"، التي أنشئت أساسا للألعاب والدردشة الإلكترونية، تحولت إلى ما يشبه "برلمانا رقميا" يضم أكثر من 130 ألف شاب. وقد فتحت عبرها قنوات للنقاش، وتبادل الأخبار، وكشف الشائعات، وإجراء التصويتات، وهو ما مكن آلاف المشاركين من اختيار القاضية سوشيلا كاركي كأول امرأة تتولى رئاسة الحكومة المؤقتة في البلاد.

وأشار إلى أن ما يحدث اليوم يثبت أن القوة لم تعد حكرا على البرلمانات أو المؤسسات السياسية التقليدية المرتبطة بجيل الكبار، بل إن جيل زد بقوته الرقمية وطاقته الشبابية يفرض نفسه تدريجيا كلاعب رئيس في المشهدين السياسي والاجتماعي.

وختم الأربش بالقول: إن الخطوة التي بدأت من نيبال قد تكون إيذانا بدخول العالم رسميا تحت تأثير هذا الجيل الجديد، الذي لن يتردد في مواجهة كل ما يعرقل طموحاته أو يكبح قدراته على التنمية والتطوير.

ما حدث في "نيبال" يلقي الضوء أكثر على سمات جيل "زد"، فمع بزوغ عصر التكنولوجيا الرقمية، نشأ جيل جديد مختلف تماما عن أسلافه. جيل ولد والهاتف الذكي في متناول يده منذ سنواته الأولى، والإنترنت جزء من تكوينه النفسي والاجتماعي، ما جعله الأكثر اطلاعا وتعليما، والأشد ذكاء، لكنه في الوقت ذاته الأكثر عرضة للقلق والإرهاق النفسي. 

وكما وصفته مجلة الإيكونوميست البريطانية عام 2016، بأنه جيل يعيش على الحافة بين الطموح والاكتئاب.

وقد أوصلنا تسلسل الأجيال عبر العقود إليهم، فبعد "الجيل الصامت" و"طفرة ما بعد الحرب"، ثم "الجيل إكس" و"جيل الألفية"، جاء جيل "زد"، وهم مواليد 1997 إلى 2012. 

وهو الجيل الذي سرعان ما صار أكبر الأجيال الحية عددا، بما يقارب ملياري نسمة حول العالم بحسب تقرير اليونسكو للعام 2022، وأكثر من 165 مليونا في العالم العربي وحده، وسيصبح قريبا في مواقع القيادة وصناعة القرار، وبيده، كما يرى باحثون، ستصاغ ملامح المستقبل. 

وفي مايو/ أيار 2021، رصدت فوربس الأميركية أبرز سمات هذا الجيل، شباب قلقون بشأن المستقبل، كثير منهم يعانون الوحدة والاكتئاب، 22 بالمئة منهم بلا صديق في العمل، وقرابة نصفهم غير قادرين على الاستقلال الاقتصادي عن عائلاتهم.

لكن في المقابل، تصف دراسات أخرى، مثل بحث صادر عن جامعة "ستانفورد البريطانية"، جيل زد بأنه متعاون، واقعي، قادر على الاعتماد على ذاته، وأكثر انفتاحًا على العالم من أي جيل سابق.

فهم أبناء الإنترنت والذكاء الاصطناعي، يختارون وظائفهم عبر المنصات الرقمية، ويعدون الاقتصاد الرقمي ساحة حياتهم الطبيعية. 

مهاراتهم متعددة، تعلمهم ذاتي، وهم أكثر إصرارا على الجمع بين العمل والشغف الشخصي، ووفق مؤسسة "Global Leadership Network" الأميركية، فإنهم الأكثر تفوقا وشغفا بالتكنولوجيا وتطبيقاتها مقارنة بأي جيل آخر.

وبحسب مؤسسة بيزنيس وير الأميركية، فإن 58 بالمئة من شباب هذا الجيل لا يستطيعون الابتعاد عن الإنترنت أكثر من أربع ساعات من دون الشعور بالانزعاج.