التآمر والتخابر.. هكذا يصفي قيس سعيد حساباته مع معارضيه السياسيين

منذ ٩ ساعات

12

طباعة

مشاركة

تواصل السلطات التونسية حربها على معارضيها ومنتقدي الرئيس قيس سعيد، وذلك باستعمال القضاء كأداة لتصفية الحسابات السياسية، وسط انتقادات حقوقية محلية ودولية.

حيث شهدت العاصمة تونس يوم 4 مارس/آذار 2025، جلسة محاكمة عشرات الأشخاص من مسؤولين في أحزاب سياسية ومحامين وشخصيات في مجال الأعمال ووسائل الإعلام، بتهمة "التآمر على أمن الدولة".

محاكمة عن بُعد

ومع انطلاق الجلسة، ردد أفراد عائلات الموقوفين من داخل القاعة شعارات "حرّيات.. حرّيات يا قضاء التعليمات" رافعين صورا لذويهم.

وقررت السلطات القضائية أن يمثل المتهمون الموجودون رهن الحجز عن بُعد عبر تقنية الفيديو. 

ولم يُنقلوا إلى المحكمة حسب هيئة الدفاع، فيما أن بعضهم غير موقوفين والبعض الآخر موجود خارج البلاد.

وتعد هذه المحاكمة استثنائية؛ كونها تضم عددا كبيرا من المتهمين من الوجوه السياسية الحزبية البارزة، إضافة إلى حقوقيين ومحامين.

ومن بين المتهمين، القيادي بجهة الخلاص جوهر بن مبارك، والقيادي بحركة النهضة عبد الحميد الجلاصي، والأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي، والناشط السياسي خيام التركي، والحقوقية شيماء عيسى، ورجل الأعمال كمال اللطيف، والنائبة السابقة والناشطة النسوية بشرى بلحاج حميدة، الموجودة في فرنسا، وآخرون.

وبالمناسبة، نظمت جبهة الخلاص المعارضة، وقفة تضامنية مع "المحالين ظلما على القضاء في قضيّة "التآمر" المزعوم أمام المحكمة الابتدائية بتونس".

ومنذ قرّر الرئيس قيس سعيد احتكار السلطات في البلاد في تموز/يوليو 2021، يدين المدافعون عن حقوق الإنسان والمعارضين باستمرار تراجع الحقوق والحريات في هذا البلد الذي أطلق شرارة "الربيع العربي" عام 2011.

وأوقف الكثير من المتهمين أثناء حملة مداهمات في صفوف المعارضة في العام 2023، ويواجه نحو أربعين شخصا اتهامات بـ"التآمر على الأمن الداخلي والخارجي للدولة" و"الانضمام إلى تنظيمات إرهابية".

وصدرت في الفترة الأخيرة أحكام سجن قاسية على معارضين وشخصيات سياسية أخرى بينهم راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة والرئيس السابق للبرلمان، الذي حُكم عليه بالسجن 22 عاما بتهمة "الإضرار بأمن الدولة".

مهزلة قضائية

وتفاعلا مع المحاكمة، وصف الرئيس التونسي الأسبق محمد المنصف المرزوقي، هذه المحاكمة بـ "المهزلة القضائية التي تُعَدّ غدا لإدانةٍ مسبقة لخيرة رجالات تونس".

ورأى المرزوقي في منشور عبر فيسبوك، في 3 مارس، أن المحاكمة تعكس ولع سعيد بما يتسم به كل مستبد، من محاكمات صورية ومؤامرات وهمية، وتجنيد القضاء للتعامل مع ''مؤامرات'' الديمقراطيين واليساريين والإسلاميين.

وأشار المرزوقي إلى أن هذا النهج جربه الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي قبل أن يطرده شبان من قصر قرطاج لم ينخرطوا يوما في التنظيمات غير المرخص بها التي كانت في فكره وكر المتآمرين عليه.

وشدد على أن سعيد يجنّد منذ انقلابه الغادر القضاء المرتزق للتعامل مع ''مؤامرات'' لم توجد إلا في خياله المريض بينما مصيره المحتوم بصدد التفاوض في أماكن وبين أشخاص لم يسمع بهم يوما، ومفتاح باب السجن الذي ينتظره بين أيادي من لا يتوقع منهم إلا السمع والطاعة.

وخلص للقول: "صدق من قال إن الغباء أو الهوس ليس أن تفعل فعلا خاطئا ينتهي بكارثة، وإنما أن تكرر نفس الفعل متوقعا نتيجة أخرى".

من جانبه، كتب وزير الخارجية الأسبق، رفيق عبد السلام: "ما كنا نقوله منذ بداية الانقلاب بكون تونس محكومة بالكذب والخداع والتدجيل على الشعب تحت غطاء الصدق والنزاهة والأمانة، للتغطية على سطو مسلح على السلطة وتركيز نظام حكم دكتاتوري فردي، بات أمرا جليا للجميع".

وأضاف عبد السلام في تدوينة عبر فيسبوك، في 3 مارس 2025، "بل وأصبح يجرى على كل لسان وفي كل بيت، من الكبار والصغار والإناث والذكور والمثقف وغير المثقف".

وتابع: "فهل هناك أحد يمكن أن يصدق بأن قيس سعيد لا يتدخل في شؤون القضاء، وهو في الواقع من يشرف على محاكمة خصومه ويوزع الأحكام عبر تعليماته".

بدوره، قال بسام الطريفي، رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان: "باختصار شديد ويتأكد ذلك كل ما تقرأ ورقة من ورقات ملف قضية ما يسمى التآمر أننا أمام أكبر المهازل والفضائح القضائية، ومن أشد المظالم التي شهدها تاريخ تونس".

وتابع الطريفي عبر فيسبوك: "ستنشر حيثيات المحاضر والاستنطاقات وسيكون الرأي العام شاهدا على المظالم التي ترتكبون والمهازل التي تحيكون".

محاكمة سياسية

فيما قال أحمد نجيب الشابي، رئيس "جبهة الخلاص الوطني" وهو أحد المتهمين (غير موقوف)، إنه بالنظر إلى طبيعة التهم والعقوبات المنصوص عليها والإجراءات الاستثنائية المحيطة بهذه المحاكمة، فهي لا تنذر بالخير.

وأضاف الشابي لفرانس بريس، في 4 مارس: "أنا أنتظر أحكاما ثقيلة للغاية في مهزلة قضائية؛ حيث إن هذه هي الطريقة الوحيدة لوصف هذه المحاكمة التي تهدف فقط إلى سلب الحقوق السياسية من التونسيين".

واسترسل: "ليس أنا فحسب، بل حرمان التونسيين كافة من حقهم الأساسي في ممارسة العمل السياسي المشروع والسلمي".

ونبَّه الشابي إلى أن "المتهمين هم صفوة النخبة السياسية للبلد، نساء ورجال معروفون منذ عقود باستقامتهم وشرعيتهم، وبوطنيتهم ​​وبأنهم تصرفوا دوما بشفافية وبالطريقة الأكثر سلمية. اليوم، هم يخشون ألا تتجمع المعارضة، وألا تشكل قوة في وجه السلطة".

وأردف: "المتهمون ليسوا هم الإرهابيين. لكن هناك إرادة لترهيب التونسيين لثنيهم عن ممارسة حقوقهم السياسية الأساسية. هذا هو جوهر هذه المحاكمة".

وفي تصريحات إعلامية، أكد المحامي عن هيئة الدفاع سمير ديلو أن القضية "مؤامرة السلطة ضد المعارضة".

كما طلب المحامي عبد العزيز الصيد من القاضي خلال الجلسة "وقف الجنون والعبث الإجرامي"، مؤكدا أن "لا أحد من المحامين اطلع على ملف القضية كاملا".

ورأى المحامي الفرنسي كريستيان شارير-بورنازل الذي يرافع عن بعض المتهمين، أن الملف "مفاجئ"، مبينا "لا يوجد عنصر يبرر وجود مؤامرة ضد أمن الدولة".

كما انتقدت "النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين" "التعاطي غير المهني والمنافي لأخلاقيات المهنة الصحفية بعدد من وسائل الإعلام التونسية العمومية منها والخاصة في التعامل مع القضية".

ومن ذلك، تقول النقابة في بيان، الثلاثاء 04 مارس، "عدم احترام مبدأ أساسيٍّ من مبادئ العمل الصحفي الذي يتمثل في احترام قرينة البراءة، والتي تمثل مبدأ أساسيا من مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان".

وأضافت، وكذا "الإخلال بمبدأ التوازن وحق الجمهور في الاطلاع على كل المعلومات والآراء المتنوعة والمختلفة"، و"المحاكمة الإعلامية في اتجاه واحد"، و"تحول القنوات الإذاعية والتلفزيونية إلى محاكم تنتصب كما تشاء ومتى تشاء".

أما الإعلامي التونسي بقناة الجزيرة محمد كريشان، فوصف المحاكمة بأنها "أغرب محاكمة سياسية عرفتها البلاد منذ استقلالها عام 1956".

واسترسل كريشان في مقال رأي نشره عبر القدس العربي، في 4 مارس، "كثيرة هي المحاكمات التي شهدتها تونس في العقود الماضية سواء تعلقت بمجموعات يسارية، أو وزراء سابقين أو نقابيين أو قوميين موالين لليبيا رفعوا السلاح ضد الدولة أو إسلاميين، لكنها المرة الأولى التي تجمع فيها محاكمة واحدة كل هذه المثالب جميعها".

وشدد على أن "المحاكمة تجرى، بشهادة كل المحامين، بملف فارغ بالكامل لا يعتدّ به في "مؤامرة ضد أمن الدولة الداخلي والخارجي" فلا وجود لمخطط لتغيير هيئة الدولة بالقوة أو جمع سلاح أو محاولات اختراق للمؤسستين العسكرية والأمنية ولا تخابر مع الخارج".

وأردف: "الحقيقة أن الأمر لا يتعدّى مجموعة لقاءات علنية بين شخصيات معارضة تبحث عن سبل لتوحيد صفوفها وتقديم نفسها بديلا، أي هو عمل سياسي شرعي لا معنى لتجريمه أبدا".

وذكر كريشان أن "المحاكمة تجرى لِزُهاء الأربعين شخصية من مشارب مختلفة، وقد تصل العقوبة فيها إلى الإعدام، بملف مثقل بعيوب لا تغتفر أبدا في أي عرف قضائي سليم. ظل المتهمون رهن الإيقاف لأكثر من عامين، لم يُستجوب فيهما أحد، ولم تجر أية مكافحة لهم مع من اتهموهم بالتآمر".

وقال: إن "حاكم التحقيق الذي أعد قرار ختم البحث، هارب الآن خارج تونس وملاحق بتهمة «التآمر (هكذا)!!. أما مدير الشرطة العدلية الذي أوقف المتهمين فهو في السجن، فيما يقبع شاهد رئيس في القضية في السجن منذ 2017. وكل ما سبق كفيل وحده بإسقاط القضية لانعدام الذمة الأخلاقية والمهنية لكل من سبق ذكرهم".

ورأى الكاتب أن "المحاكمة تجرى في وضع يعيش فيه القضاء وضعية كارثية تتعمق يوما بعد يوم، وسنة بعد أخرى، خاصة بعد نزع كل ضمانات الاستقلالية عنه، كما ورد في بيان أخير لجمعية القضاة التونسيين".

وأضاف، كما "تجرى في أجواء تهديد واضحة من رئيس الدولة شخصيا، فقد وصف قيس سعيد قادة المعارضة المتهمين بعد أيام قليلة من اعتقالهم بأنهم "إرهابيون" بل ورأى أن من "يبرّئهم فهو شريك لهم" في نسف كامل ومسبق لمقومات المحاكمة العادلة".

قرارات غير شرعية

وفي بيان لهيئة الدفاع، رأت أن "الوظيفة القضائية" قرّرت عقد أولى جلسات القضية في طورها الحكمي والمبرمجة بعد أكثر من سنتين من إيقاف المعتقلين، عن بُعد، وهو ما يؤكد الإمعان في نسف ضمانات المحاكمة العادلة وتقييد حق المعتقلين في الدفاع والمواجهة.

وشددت على أنها "لا تستغرب هذا القرار التعسفي، الذي يأتي استمرارا لسلسلة من القرارات غير الشرعية والعبثية، ومنها منع التداول الإعلامي في الملف، فهي تؤكد رفضه بصفة مطلقة؛ لما يُمثله من تضييق في إعمال الضمانات الممنوحة للمتهم والمحامي على حد السواء، دون أن يؤكد انعدام النية لتأمين إطار حقيقي دافع لكشف الحقيقة والتي طالما دفعت من جهتها هيئة الدفاع الجهات القضائية لاستجلائها".

وأضافت أن "تَعِلّة الخطر الحقيقي التي تأسس عليها القرار غير الشرعي، مردود عليها ليس فقط بعدم تبيان وجه هذا الخطر المزعوم إلا إن تم اعتبار أن المعتقلين السياسيين يمثلون خطرا أمنيا شديدا عند نقلهم للمحكمة لحضور الجلسة العلنية التي طالما انتظروها، وهم الذين لم يقابلوا أي قاضٍ منذ استنطاقهم قبل أكثر من سنتين".

واسترسلت: "كما يتبين العبث بتنظيم الجلسة عن بعد بالنسبة للمعتقلين المحتجزين قسرا فيما تكون حضورية لبقية المتهمين المحالين بحالة سراح، والحال أنهم جميعا يواجهون نفس التهم، وبما يدحض، في الواقع، تعلة وجود أي خطر خاصة في نقل المعتقلين من سجن إيقافهم لمقر المحكمة".

وعليه، تقول الهيئة: لا ريب أن الخطر الحقيقي المؤسس للقرار الجائر ليس إلا الخطر الذي استشفته السلطات من عقد جلسة حضورية وعلنية، بحضور المراقبين ووسائل الإعلام وهو ما نتمسك به؛ لأنه حينها سيتبيّن، بشكل واضح، أن "التآمر" لم يكن إلا على سياسيين مارسوا حريات التعبير والاجتماع، في ملف انطلقت التتبعات القضائية فيه بقرار سياسي معلن".

دعوات حقوقية

من جهتها، دعت منظمة “هيومن رايتس ووتش” السلطات التونسية إلى "الإفراج فورا عن جميع الأشخاص المحتجزين تعسفيا منذ أكثر من عامين في القضية... ووضع حد لهذه المهزلة القضائية".

ودعت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان السلطات التونسية إلى "وقف جميع أشكال اضطهاد المعارضين السياسيين، وإلى احترام الحق في حرية الرأي والتعبير" داعية إلى "الإفراج الفوري لأسباب إنسانية عمن هم في سن متقدمة وعن الذين يعانون مشاكل صحية".

وردا على ذلك، أعربت تونس عن "بالغ الاستغراب" لهذه الانتقادات، مؤكدة أن الأشخاص الذين أشارت إليهم الأمم المتحدة قد أُحيلوا على المحاكم "من أجل جرائم حق عام لا علاقة لها بنشاطهم الحزبي والسياسي أو الإعلامي أو بممارسة حرية الرأي والتعبير".

وأكدت وزارة الخارجية التونسية أن "تونس يمكن في هذا الإطار أن تُعطي دروسا لمن يعتقد أنه في موقع يُتيح توجيه بيانات أو دروس".

وتعليقا على المشهد، شددت الناشطة الحقوقية والسياسية دليلة بن مبارك مصدق، على أن قضية التآمر ليست سوى واحدة من عشرات الملفات الملفقة التي اختلقتها سلطة 25 يوليو/تموز لتبرير حملتها ضد المعارضين.

وأوضحت لـ "الاستقلال"، أن "قضية بهذا الحجم تتحدث عن مؤامرة داخلية وخارجية ضد الدولة التونسية من قبل عشرات المعارضين للرئيس سعيد، كان يفترض أن تكون مبنية على عمل أمني واستخباراتي واستعلاماتي".

وأضافت: "لكنها في واقع الأمر ارتكزت على "وشايات مخبرين اثنين أحدهما في السجن"، بينما لم يتضمن الملف سوى ورقة أمنية يتيمة تحتوي على سطر ونصف السطر مفادها أن الأمن بلغ إلى علمه أن هناك مؤامرة تحاك ضد الشعب التونسي".

وذكرت المحامية أن "السلطة الحالية في محاولة لإخفاء زيف هذه الادعاءات فرضت تعتيما إعلاميا صارما، ومنعت أي حديث عن تفاصيل القضية".

ورأت أن "قرار المحكمة بإجراء المحاكمة عن بعد محاولة لعزل المتهمين عن الرأي العام وتقييد قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم".

وشددت على أن هذه المحاكمة "جائرة من أجل تصفية المعارضين"، مؤكدة أن ملف الإدانة خالٍ من أي أدلة وأن السلطة تدخّلت بشكل سافر في القضاء؛ لاستخدامه كأداة للانتقام السياسي.

ونبَّهت المتحدثة ذاتها إلى أن القضاة يتعرضون لضغوط هائلة لإصدار أحكام قاسية بحق المعتقلين السياسيين، في محاكمات تفتقر لأبسط معايير العدالة.

واتهمت الرئيس سعيد بمواصلة التفرد بالحكم وإحكام قبضته على مفاصل الدولة؛ لتكميم أي صوت معارض، مشددة أن هذا أصبح أمرا واقعا ولا يحتاج إلى برهان.