الصراع على أموال إعادة الإعمار.. كيف أجل إخراج درنة الليبية من نكبتها؟
رغم حجم الكارثة الإنسانية التي حلت بمدينة درنة الليبية، وأسفرت عن مصرع آلاف الضحايا بين قتيل ومفقود وعشرات الآلاف من المهجرين، لازال الخلاف السياسي في ليبيا يلقي بآثاره السلبية على المدينة.
وتحوّل ملف إعادة الإعمار إلى محور خلاف جديد بين الحكومتين المتنازعتين، ما أدّى إلى إطلاق رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي تصريحات رأى فيها أن الدعم الدولي في كل مراحله يحتاج إلى مؤسسة وطنية مختصة وموحدة تحظى بثقة المتضررين.
وفي ليبيا حكومتان متنافستان، الأولى مكلفة من مجلس النواب برئاسة أسامة حماد والثانية حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة الذي يرفض تسليم السلطة إلّا لحكومة تكلف من برلمان جديد منتخب.
وفي 10 سبتمبر/ أيلول 2023، اجتاح إعصار "دانيال" مناطق عدة شرقي ليبيا، بسرعة بلغت 180 كيلومترا في الساعة مع كميات قياسية من المياه، ما أسفر عن انهيار سدين يعود تاريخهما إلى السبعينيات، وإطلاق ملايين الأمتار المكعبة من المياه، فخلف دمارا كبيرا وأسفر عن سقوط آلاف القتلى والمصابين والمفقودين.
مبادرة الدبيبة
بدأ التحركات من قبل حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة بطلب رسمي للبنك الدولي للمساعدة في مجال إعمار المناطق المنكوبة جراء الفيضانات التي اجتاحت شرق ليبيا.
وتقدم وزير المالية خالد المبروك بطلب إلى الممثلة المقيمة لمجموعة البنك الدولي في ليبيا، هنرييت فون كالتنبورن-ستاتشاو، يوم 12 سبتمبر/أيلول 2023، داعيا المؤسسة الدولية إلى "تقديم الدعم الفوري للشعب الليبي وخاصة أولئك الذين يعيشون في الجزء الشرقي من البلاد الذين تضرروا بشدة من الكارثة الأخيرة التي سببتها العاصفة دانيال".
وتعد مدينة درنة والمناطق المتضررة خارج السيطرة العسكرية والإدارية لحكومة الوحدة الوطنية التي تتخذ من العاصمة طرابلس مقرا لها.
وتسيطر على المدينة منذ العام 2018 مليشيا الانقلابي خليفة حفتر وتديرها الحكومة المكلفة من البرلمان الذي يتخذ من طبرق (شرق ليبيا) مقرا له، برئاسة أسامة حماد.
وكشفت تقارير صحفية إمكانية اتجاه حكومة الدبيبة لطلب رفع التجميد عن الأرصدة الليبية الموجودة في المصارف الخارجية في ظل نقص الموارد المالية الكافية لإعادة الإعمار والتي قدرها الخبراء بما يتراوح بين 7 و12 مليار دولار.
في المقابل، حاول رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي تلافي هذه الوضعية، التي من المرجح أن تفتح صراعا جديدا بين الحكومتين المتنازعتين وبين الفرقاء السياسيين في ليبيا من الذين يرون أن حكومة الدبيبة قد فقدت شرعيتها بعد تأجيل الانتخابات التي كان من المقرر تنظيمها نهاية العام 2021.
وقال المنفي إن "السلطات المنتخبة وفق الدستور هي المخولة وحدها بالتصرف بالأموال الليبية المجمدة في الخارج والدعم الدولي في كل مراحله يحتاج إلى مؤسسة ليبية مختصة وموحدة تحظى بثقة المتضررين".
تراكم الفشل
ولا يخفي الكثير من الليبيين خشيتهم من سوء إدارة ملف إعادة الإعمار واستغلاله للحصول على مكاسب سياسية في وقت تعيش فيه البلاد وضعا صعبا فاقم الانقسام السياسي والعسكري من نتائجه.
ويحمّل الليبيون الحكومتين المتنازعتين مسؤولية الوضع المتردي في ليبيا عموما، كما يحملون الحكومة الموالية للواء المتقاعد خليفة حفتر مسؤولية الكارثة الحاصلة في درنة.
وقالت صحيفة "واشنطن بوست" في تقرير نشرته في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إن "الإهمال الحكومي والسياسات الخاطئة رمت ليبيا في وسط فيضان دامٍ أدى إلى مقتل الآلاف".
وأشارت إلى أن "المسؤولين في الحكومتين المتنافستين في ليبيا كانوا على علم منذ أيام قبل حدوث العاصفة بقدومها، وكانت السدود فوق درنة متضررة ومعرضة لخطر الانهيار منذ سنوات، ومع ذلك، يبدو أن المسؤولين الموالين لحفتر، لم يفكروا أبدا في هذا التهديد، معتقدين بدلا من ذلك أن أسوأ الفيضانات ستأتي من البحر".
ورأى المحلل السياسي الليبي، عصام الزبير، أن "الصراع القائم بين حكومتي الدبيبة وبرلمان (طبرق) حول ملف إعادة الإعمار يعود لرغبة حكومة البرلمان استغلال هذه الأزمة للحصول على اعتراف دولي والسيطرة على كلّ جوانب إعادة الإعمار وإغاثة المتضررين بوصفها حكومة أمر واقع في المنطقة الشرقية".
وأضاف الزبير لـ"الاستقلال": "لكن هذه الحكومة ورغم سيطرتها العسكرية على منطقة درنة والمناطق المنكوبة إلا أنها لا تمتلك المال ولا تمتلك الطاقات البشرية ولا الاعتراف الدولي، مما جعل كل الدول والمنظمات الداعمة تأتي بالمساعدات والطواقم الإغاثية لمطار معيتيقة ثم تذهب للمنطقة الشرقية".
وأكد أن "الإرباك ظاهر جدا من قبل حكومة حماد من خلال تقييمها لحجم الأضرار وتحديد أولويات الحاجات العاجلة للمناطق المنكوبة، وهذه الحكومة يجمع الليبيون على فشلها حتى في إدارة الملفات الخدمية الطبيعية فكيف بمعالجة آثار كارثة بحجم إعصار دانيال".
ورأى الزبير أن "جلّ الجهود التي بذلت في أعقاب الإعصار كانت جهودا شعبية ومدنية، فحكومة حمّاد كانت عاجزة وحكومة الدبيبة منعت من الدخول للقيام بواجبها، لكن أغلب الإدارات الحكومية التي عملت كانت من المنطقة الغربية وتابعة لحكومة الوحدة الوطنية".
وأكد المحلل السياسي الليبي أن "حكومة الشرق تريد أن تسلّم ملف إعادة الإعمار إلى الشركات المصرية وهو على عكس رغبة عموم الليبيين الذي يبحثون عن شركات متطورة وحديثة ولها شفافية ومصداقية وباع كبير في البناء وإعادة التعمير".
انتقادات واسعة
وأثارت المبادرات العديدة التي تطلقها الأطراف المتصارعة في ليبيا لإعادة إعمار درنة والمدن التي دمرها إعصار "دانيال"، انتقادات واسعة، وسط مطالب بضرورة تبني آلية موحدة لإدارة هذا الملف.
وكانت حكومة الشرق قد أعلنت عن "مؤتمر دولي" لإعادة إعمار درنة في 10 أكتوبر 2023، قبل أن تضطر إلى تأجيله حتى مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، وسط تشكيك من قبل المجتمع الدولي لكونها حكومة غير معترف بها من قبل الأمم المتحدة.
وأعرب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا عبد الله باتيلي، عن قلقه إزاء ظهور مبادرات محلية " أحادية ومتضاربة"، لإعادة إعمار مدينة درنة والمدن المتضررة من الإعصار.
جاء ذلك وفق بيان البعثة الأممية،"في أعقاب زيارة باتيلي إلى درنة في 16 سبتمبر 2023، وتفاعله مع العديد من أهالي المناطق المتضررة شرقي ليبيا، والسلطات المحلية والوطنية وشركاء ليبيا الدوليين".
وأوضح باتيلي أن "من شأن هذه الجهود الأحادية، أن تعطي نتائج عكسية وتعمق الانقسامات القائمة في البلاد وتعرقل جهود إعادة الإعمار".
وأكد أن ذلك "يتعارض مع هبَة التضامن والدعم والوحدة الوطنية التي أظهرها الشعب الليبي من جميع أنحاء البلاد استجابة للأزمة".
من جهتها، أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، مطلع أكتوبر 2023، تأييد دعوة المبعوث الأممي باتيلي، إلى إنشاء آلية ليبية موحدة للتنسيق في ملف إعادة إعمار المناطق المتضررة من الإعصار.
جاء ذلك في بيان مشترك صدر عن رؤساء البعثات الدبلوماسية للدول الخمس، نشره الحساب الرسمي للسفارة الأميركية لدى ليبيا عبر منصة "إكس".
وقالت الدول الخمس في بيانها "ندعم دعوة باتيلي إلى إرساء آلية وطنية ليبية موحدة، بالتنسيق مع الشركاء المحليين والوطنيين والدوليين".
تلك الآلية، وفق البيان "تكون قادرة على تقديم إغاثة شفافة وخاضعة للمساءلة تتجاوب مع احتياجات إعادة الإعمار إثر كارثة الإعصار".
وأمام حجم الصراع والتنافس الداخلي في ليبيا والرفض الدولي لتسليم أي دعم مادي للحكومتين دون وجود اتفاق يحدد إطار صرف أموال إعادة الإعمار، لا يبدو أن أزمة درنة والمناطق المتضررة سيتم معالجتها في وقت قريب.
وتظهر كلّ المؤشرات أن كل أزمات ليبيا المتراكمة منذ 12 عاما متوقفة على اتفاق الفرقاء السياسيين على إنجاز انتخابات تشريعية ورئاسية تنهي حالة الانقسام وتفتح الباب لوضع مؤسسات سيادية مستقرة، وهي المهمة الصعبة والمؤجلة منذ سنوات.