الضربات الإيرانية الدقيقة.. هكذا وقعت إسرائيل في مصيدة الإغراق الناري

قالت القناة 13 الإسرائيلية: لقد بدا المشهد وكأنه يوم القيامة
قبة متصدعة، وسهم يرتعش، ودرع بدا من بعيد فولاذيا لكنه تهاوى تحت وابل صواريخ طهران.. هكذا تستيقظ إسرائيل منذ بدء حربها مع إيران في 13 يونيو/ حزيران 2025 على واقع مغاير لما روَّجت له طيلة سنوات.
فقد فشلت منظومة الدفاع الجوي متعددة الطبقات، التي تضمّ "القبة الحديدية" و"مقلاع داوود" و"آرو" بمستوياته المختلفة، إضافة إلى دعم نظام "ثاد" الأميركي في صد العديد من الصواريخ الإيرانية على تل أبيب.
وقد أظهرت مشاهد الفيديو القادمة من قلب المدينة، اختراق عشرات الرؤوس المتفجرة خطوط الاعتراض لتوقع قتلى وجرحى وتتسبب في دمار واسع، ومعها تفجر سؤال عن جدوى هذه الشبكة الباهظة إذا كانت تنهار عند أول اختبار شامل؟
وما أبرز التداعيات على مفهوم الردع الإسرائيلي، وسط تساؤلات داخلية ودولية حول مدى قدرة تل أبيب على حماية جبهتها الداخلية في أي مواجهة أوسع قادمة.
الشبكة الإسرائيلية
في قلب منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية تقف أربعة أنظمة رئيسة تشكل ما يعرف بـ"الدرع متعدد الطبقات"، وتبدأ بالقبة الحديدية (Iron Dome).
وهو نظام دفاع قصير المدى، صُمِّم لاعتراض الصواريخ البدائية وقذائف الهاون التي تطلق من غزة ولبنان، وطوِّر بعد حرب 2006 (مع لبنان) بالتعاون بين شركة "رافائيل" الإسرائيلية وشركة الصناعات الجوية، بتمويل أميركي جزئي، ثم دخل الخدمة عام 2011.
يغطي مدى يصل إلى 70 كم، ويعتمد على رادارات تحدّد مسار القذائف. ولا يتم إطلاق صاروخ اعتراضي إلا إذا تبيَّن أن المقذوف سيصيب هدفا حيويا.
والنظام الثاني هو مقلاع داوود (David’s Sling)، متوسط المدى يصل إلى 300 كم، يُعرَف أيضا بـ"العصا السحرية".
وقد طور لمواجهة صواريخ أكثر تطورا، مثل "فاتح 110" الإيرانية، ويعتمد على صاروخ "ستانر" ورادار ELM-2084.
بدأ تطويره عام 2006 ودخل الخدمة عام 2017، وعلى الرغم من دقة راداره وقدرته على تتبع مئات الأهداف، فقد أظهر صعوبة في التمييز بين التهديدات المتزامنة خلال الهجمات الإيرانية الأخيرة.
كذلك نظام آرو أو السهم “Arrow-2” و"Arrow-3" الذي يشكل خط الدفاع ضد الصواريخ الباليستية بعيدة المدى، وجرى تطويره بالتعاون مع واشنطن.
ويعمل آرو-2 على ارتفاعات متوسطة، بينما آرو-3 يعترض الرؤوس الحربية خارج الغلاف الجوي، بمدى يتجاوز 2400 كم.
ودخل النظام الخدمة عام 2017، ويعد أحد أكثر الأنظمة تطورا نظريا، لكنه لم يختبر بشكل كامل في مواجهة كثافة نيران حقيقية مشابهة لما واجهته تل أبيب أخيرا.
ثم يأتي نظام ثاد الأميركي (THAAD)، وقد دخل على خط الدفاع الإسرائيلي في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، وتديره قوات أميركية.
وصُمِّم خصّيصا لاعتراض الصواريخ الباليستية على ارتفاعات عالية وبعيدة؛ إذ يستخدم تقنية "القتل الحركي" من دون رأس حربي، بسرعة تفوق 8 ماخ (وحدة قياس سرعة الصاروخ).
ويتألف من قاذفات مثبتة على شاحنات، ورادارات متقدمة ومراكز قيادة متنقلة، ورغم فعاليته النظرية، لم يمنع اختراق عدد من الصواريخ الإيرانية للمجال الإسرائيلي.
لذلك فإن هذه الأنظمة، رغم تكلفتها الباهظة ودعمها الأميركي، كشفت عن ثغرات خطيرة عندما وضعت تحت ضغط ضربات مركزة، ما أضعف الثقة بقدرتها على حماية الجبهة الإسرائيلية.

عجز غير مسبوق
وفي تحليل نشره موقع "إنسايد أوفر" الإيطالي، في 16 يونيو، لفت الصحفي جوزيبي غاليانو إلى أن ما يثير الدهشة في الجولة الحالية من الصراع ليس الهجوم الإسرائيلي على إيران، بل العجز غير المسبوق لمنظومة الدفاع الإسرائيلية عن حماية الداخل، في ظل تجاهل غربي شبه كامل لهذه الهشاشة.
فمنذ نشأة الدولة العبرية لم يبدُ أمنها الداخلي عرضة للخطر كما هو اليوم، غير أن الخطاب الإعلامي الغربي لا يزال يلمع "الدرع التكنولوجي" الإسرائيلي.
ويشير غاليانو إلى أن "القبة الحديدية"، التي روَّج لها كإنجاز فريد منذ دخولها الخدمة عام 2011، صمّمت لاعتراض قذائف قصيرة المدى ذات مسارات متوقعة، لكنها ليست مُجَهَّزة لصدّ صواريخ باليستية أو كروز أو فرط صوتية عالية المناورة.
ورغم بناء إسرائيل شبكة دفاع متعددة الطبقات تضم "مقلاع داوود" و"آرو-2" و"آرو-3" بدعم أميركي واسع، فإن الهجوم الإيراني الأخير بطائرات "شاهد" المسيرة وصواريخ باليستية وجوالة كشف حدود هذه الشبكة.
فبعض المقذوفات أسقط بدعم حاسم من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، لكن اخترقت أخرى الحماية وأصابت أهدافا مدنية وبنى تحتية حساسة.
وبالنسبة لغاليانو، تكمُن الأزمة الحقيقية في "التواطؤ الإعلامي" الذي يواصل تغذية وهم الحصن المنيع، وهو الوهم نفسه الذي سبق أن ضخم قدرات كييف أمام موسكو.
معهد وايزمان
ونجحت الصواريخ الإيرانية في اختراق هذه الدروع، متجاوزة الرادارات والمنصات الاعتراضية، لتضرب قلب إسرائيل في أكثر من منطقة، متسببة في خسائر بشرية ومادية فادحة، وشلل جزئي في بعض المنشآت الحيوية.
فقد تعرض معهد وايزمان للعلوم في مدينة رحوفوت جنوب تل أبيب لضربة مباشرة بصاروخ باليستي تكتيكي من طراز "قاسم بصير".
وهو صاروخ يتميز بوقود صلب، ومدى يتجاوز 1200 كيلومتر، ورأس حربي يراوح بين 500 إلى 1000 كغم.
الصاروخ أصاب مختبر كيمياء عضوية ومخزن غازات بحثية داخل الحرم الجامعي، ما أدّى إلى اندلاع حريق كبير وتوقف العمل في مرافق بحثية عالية الدقة.
وتقدر الخسائر بحسب وسائل الإعلام الإسرائيلية بملايين الدولارات، وسيستغرق إعادة تأهيل المنشآت المتضررة شهورا، نظرا لطبيعة المعدات الدقيقة المستخدمة.
خاصة أن معهد وايزمان، يشتهر بتطويره لمواد نانوية وحساسات دفاعية ضمن مشاريع مشتركة مع وزارة الدفاع وشركة "إلبيت" للصناعات العسكرية.
ويصنف ضمن قائمة "الأهداف المزدوجة" التي تحمل طابعا مدنيا وعسكريا في آنٍ واحد، وهو ما يفسر استهدافه الواضح من الجانب الإيراني، في رسالة تقول: إن "الرد" ليس عشوائيا بل مركزا وممنهجا.
الضربات لم تتوقف عند وايزمان، بل امتدت إلى مناطق مأهولة؛ حيث سقطت صواريخ في تل أبيب ورمات غان وبيتاح تكفا وبات يام وريشون لتسيون، ما أسفر عن مقتل وجرح عدد من الإسرائيليين.
وأصابت إحدى الضربات ملجأ محصنا في بيتاح تكفا كان مخصصا لمواجهة الهجمات النووية، وأدى انهياره إلى مقتل أربع شخصيات لم تكشف هوياتها بعد، وسط تكتم أمني شديد.

يوم القيامة
وفي شمال الأراضي المحتلة، تلقت مدينة حيفا واحدة من أكثر الضربات خطورة؛ حيث استهدف صاروخ باليستي “بازان” أكبر مجمع لتكرير النفط والبتروكيماويات في إسرائيل، والذي ينتج أكثر من 200 ألف برميل يوميا ويعد مزودا رئيسا للطاقة لدول أوروبية.
تلك الضربة أوقفت الإنتاج مؤقتا، وأثارت مخاوف حقيقية من كارثة بيئية وصناعية في حال تكرار الاستهداف.
وفي وصف صادم، قالت القناة 13 الإسرائيلية: "لقد بدا المشهد وكأنه يوم القيامة"، فيما نقلت وسائل إعلام أخرى عن مسؤولين قولهم: إن "الصواريخ لم تضرب فقط البنية التحتية، بل ضربت ثقة المجتمع الإسرائيلي في قدرة دولته على الحماية والردع".
والنتيجة، تمثلت في عطب إستراتيجي وتصدع نفسي في آن واحد، يعكس حجم الاختراق الصاروخي الإيراني للعمق الإسرائيلي.
لا سيما أنه مع استمرار التصعيد هددت إيران في 18 يونيو بشن ضربات جديدة تستهدف تسعة مواقع حساسة داخل تل أبيب، وصفتها بأنها "مقار عسكرية واستخباراتية مشروعة".
وضمن رسالة واضحة بأن الرد القادم قد يكون أكثر دقة وإيلاما، نشرت طهران مقطع فيديو عبر منصات التواصل الاجتماعي يظهر جولة افتراضية ثلاثية الأبعاد لتلك المواقع بعد تحديد إحداثياتها بدقة.
وتضمنت القائمة كلا من مركز "رابين" للأمن العسكري، ومركز قيادة العمليات الجوية الإسرائيلية، ومركز الأبحاث التابع لجهاز الاستخبارات "أمان".
ومديرية العمليات المركزية، ومبنى القيادة الجوية، إلى جانب مركز تصدير الأسلحة المعروف باسم "سيبات".
كذلك مركز أبحاث الجيش، ومركز قيادة القوات البرية للدعم التقني، ومركز الاتصالات والتحكم.
ذلك التهديد الإيراني يضع إسرائيل أمام واقع أمني أكثر هشاشة، ويعكس تحولا في قواعد الاشتباك؛ حيث لم تعد طهران تكتفي بالردود الموضعية، بل باتت توجه رسائل إلى عمق البنية العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية.

التكتيك الإيراني
وفي تقرير نشره موقع "يورو نيوز" الأوروبي، في 18 يونيو، أورد فيه أن الضربة الإيرانية الأخيرة لم تكن عملا عشوائيا بل خطوة محسوبة وفق ثلاث غايات رئيسة.
وهي إثبات قدرة طهران على قصف العمق الإسرائيلي مباشرة من دون الاعتماد على وكلائها الإقليميين، واختبار منظومة الدفاع الإسرائيلية تحت ضغط كثيف، ورفع سقف الردع من جانب إيران عبر الإشارة إلى أن قواعد اللعبة القديمة لم تعد مقبولة.
وأكد أن أي عملية من هذا النوع لا تنفّذ إلا بعد دراسة مفصلة لطبيعة الدفاعات المقابلة ورصد ثغراتها المحتملة، وهو ما نجحت طهران في فعله بدقة.
وتوقف عند منظومة "القبة الحديدية"، موضحة أنها مصمّمة لاعتراض الصواريخ القصيرة المدى وقذائف الهاون (بين 5 و70 كم).
في حين أن الصواريخ الإيرانية من طرازي "فاتح-313" و"قيام-1" تنتمي إلى فئة باليستية أسرع بأضعاف سرعة الصوت، تخرج إلى حدود الغلاف الجوي ثم تعود بمسار غير خطي يصعب التنبؤ به، ما يقلص كثيرا من فاعلية الرادارات الاعتراضية.
وعلى عكس الانطباع السائد، فإن القبة الحديدية لا تعمل منفردة، فهي تحتاج إلى تكامل لحظي مع أنظمة أعلى مثل "مقلاع داود" و"آرو"، الأمر الذي لم ينجح كاملا تحت وطأة الهجوم المتزامن.
ووفق التقرير، كان العامل الحاسم هو تكتيك "الإغراق الناري" الذي اعتمدته طهران.
ويتمثل في إطلاق متزامن لعشرات الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، مع توقيت محسوب لإرباك الإنذار المبكر، وخلط مقصود بين أهداف عالية السرعة وأخرى بطيئة لتحييد قدرة إسرائيل على ترتيب أولويات الاعتراض.
ومع أن كل بطارية من القبة الحديدية تحمل ستين صاروخا اعتراضيا بحد أقصى، ولدى إسرائيل نحو عشر بطاريات نشطة، فإن الهجوم تخطى قدرتها اللحظية على التعامل مع جميع الأهداف، وترك فراغات نفذت منها المقذوفات إلى تل أبيب وحيفا ومراكز حيوية أخرى.
وخلص إلى أن الرسالة الأعمق لا تقاس بعدد الصواريخ التي عبرت، بل في إظهار هشاشة الافتراض الإسرائيلي القائل: إن التكنولوجيا وحدها قادرة على ضمان الحماية.
فإيران أثبتت أن صواريخها صارت أدق وأسرع، بينما باتت منظومات الاعتراض بحاجة ماسّة إلى مراجعة تكتيكية تواكب تحديات "الإغراق الناري" والتهديدات المتعددة المصادر.
وبذلك تكون طهران قد دشنت مرحلة جديدة في حروب الشرق الأوسط؛ حيث لا يكفي التفوق التقني ما لم يتكامل مع إستراتيجية مرنة، وتوزيع ذكي للكم والنيران، وحسن اختيار التوقيت.
المصادر
- Antiaerea sotto pressione in Israele: Tel Aviv missili e navi Usa in aiuto contro i raid iraniani
- مشاهد الدمار تتزايد مع استهداف إيران للمدن الإسرائيلية رغم نشر منصات الصواريخ الاعتراضية
- لماذا فشلت القبة الحديدية في اعتراض الصواريخ الإيرانية؟
- وول ستريت جورنال: إسرائيل تواجه نقصا في الصواريخ الدفاعية الاعتراضية وأمريكا تسارع للمساعدة
- الدفاع الجوي الإسرائيلي.. منظومة متعددة الطبقات تفشل في اعتراض صواريخ إيران
- إيران تهدد 9 أهداف إسرائيلية.. هذا ما نعرفه عن ثلاثة مواقع منها