العدوان الإسرائيلي على غزة يثير انقسامات سياسية في تايلاند.. ماذا حدث؟
مازالت عملية "طوفان الأقصى"، وما تبعها من عدوان إسرائيلي على قطاع غزة المُحاصَر، تُلقي بظلالها على المشهد العالمي، والسياسات الداخلية في بعض البلدان.
في هذا السياق، نشر معهد دراسات جنوب شرق آسيا (ISEAS) ورقة استعرض فيها مآلات العدوان الإسرائيلي ضد غزة على تايلاند، مشيرا إلى أنه كشف عن الانقسامات السياسية وعزز الاضطرابات داخل البلاد.
وادعى المعهد أنه "مثل معظم دول العالم، تواجه تايلاند تباينا في وجهات النظر بشأن القضية الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي المتواصل بحق الفلسطينيين".
وأوضح أن "الأهم من ذلك، أن هناك اختلافا ملحوظا في الرأي بين عموم السكان التايلانديين والمسلمين التايلانديين، وخاصة مسلمي الملايو في المقاطعات الواقعة أقصى جنوب البلاد".
ومن بين العوامل التي تؤثر على الرأي العام في تايلاند ككل أن العمال التايلانديين تضرروا من الهجوم الذي شنته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في 7 من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
فقد أعلنت وزارة العمل التايلاندية، في 21 أكتوبر/تشرين الأول، وفاة 31 عاملا تايلانديا، وإصابة 16 آخرين، بينما ظل 19 محتجزا لدى حماس.
وأكد المعهد أن "هذا الوضع أدى إلى زيادة الوعي بشكل كبير في تايلاند حول وجود عدد كبير من العمال التايلانديين في إسرائيل".
ونظام الحكم في تايلاند علماني، لكن يمكن عد "البوذية" دينها الرسمي، ويمثل المسلمون أقلية بنسبة 10 بالمئة، ويتمركزون في جنوب البلاد وترجع أصولهمم إلى المسلمين الأوائل من التجار العرب والهنود.
شرخ دبلوماسي
وأوضح المعهد أن السياسة الخارجية لتايلاند تتبع تقليديا نهج "دبلوماسية الخيزران"، الذي يتميز بالمرونة والقدرة على التكيف مع الديناميكيات الدولية المتغيرة.
وبوصفها عضوا في الأمم المتحدة، فقد اعترفت تايلاند بكل من دولة فلسطين، وإسرائيل، كما تحتفظ بعلاقات دبلوماسية قوية مع إيران.
وهذا النهج من شأنه أن يمكّن تايلاند من الإبحار عبر الأزمة الحالية، من خلال إستراتيجية مرنة في التعامل مع إسرائيل، وفلسطين، وإيران.
وعلى الرغم من الضغوط التي يمارسها المدافعون عن كل من فلسطين وإسرائيل على الحكومة التايلاندية للانحياز إلى أحد الجانبين، فقد اختارت أن تظل محايدة وصامتة من أجل الحفاظ على علاقاتها الدبلوماسية الإيجابية مع جميع الأطراف.
ومع ذلك، فور ظهور الأخبار عن وجود أسرى تايلانديين لدى حماس، أدان رئيس الوزراء التايلاندي سريثا تافيسين حماس علنا.
وردا عليه، انتقد الباحثون التايلانديون "سريثا"، قائلين إن الحذر ضروري لأن الرهائن التايلانديين مازالوا رهن الاحتجاز.
وقال المعهد: نظرا للوضع الحساس، وتعقيدات السياسة الخارجية في الشرق الأوسط وتورط القوى العالمية الكبرى، ربما تكون تصرفات "سريثا" المتسرعة أدخلت تايلاند في وضع دبلوماسي معقد.
وعلى الرغم من أن الحكومة التايلاندية صوتت لصالح وقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في 12 ديسمبر/كانون الأول، إلا أن بعض الناشطين التايلانديين أعربوا عن وجهات نظر معارضة على وسائل التواصل الاجتماعي.
فالمحادثات مع مسؤولين من المنظمات الدولية في تايلاند كشفت أن عددا كبيرا ممن يعملون في السلطات التايلاندية التي تتواصل معهم أظهر تضامنه مع الجيش الإسرائيلي.
ومن اللافت أن بعض مؤيدي "حزب التقدم" (MFP) المعارض، الذين عادة ما يكونون من المدافعين عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، يدعمون علنا العقاب الجماعي الذي تفرضه الحكومة الإسرائيلية في غزة، والذي وصفه البعض بأنه إبادة جماعية.
علاوة على ذلك، ذكر المعهد أن العديد من المؤثرين التايلانديين على وسائل التواصل الاجتماعي يستمدون أخبارهم وتحليلاتهم من حسابات الجيش الإسرائيلي على منصات "إكس" و"انستغرام".
مسلمو تايلاند
وأفاد المعهد بأن الخبراء والأكاديميين الذين شاركوا رؤاهم حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني واجهوا رد فعل عنيفا، تضمن افتراءات وتعليقات مهينة على وسائل التواصل الاجتماعي.
وتعرض الأكاديميون والخبراء المسلمون التايلانديون، على وجه الخصوص، لتعليقات متحيزة، وصُنفوا على أنهم مؤيدون لجانب بعينه ووُصفوا بأنهم متحدثون باسم حماس.
وكانت بعض التعليقات متطرفة ومهينة، مثل: "طبعا أنت مسلم، لذا تدعمهم" و"أنت تبدو كمتحدث باسم حماس"، و"يجب أن نرمي الفلسطينيين بالخنازير انتقاما"، والكثير من التعليقات الشبيهة.
وزعمت العديد من التعليقات أيضا أن هؤلاء الأكاديميين والخبراء يخونون تايلاند.
ورأى هؤلاء المعلقون أنه إذا قتلت حماس تايلانديين، فإن أولئك الذين عبروا عن تعاطفهم مع الفلسطينيين لا ينبغي اعتبارهم تايلانديين بعد الآن.
ووسط التوترات المتزايدة في المنطقة، تجمع أكثر من 300 مسلم تايلاندي وفلسطيني، في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2023، عند السفارة الإسرائيلية في بانكوك؛ للتضامن مع الفلسطينيين والدعوة لوقف الحرب.
وفي 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، تجمع أكثر من 4 آلاف مسلم لأداء صلاة الحاجة أمام مسجد باتاني المركزي.
وفي 17 ديسمبر/كانون الأول 2023، نظم مسلمو الملايو في مقاطعة باتاني مسيرة ثانية تحت شعار "هذا عهدي"، حيث تعهد المتظاهرون بمواصلة دعم الفلسطينيين في غزة.
ووفق تقييم معهد دراسات جنوب شرق آسيا، فعلى الرغم من المسيرات العالمية الداعمة لفلسطين، لم يُحشد في تايلاند سوى عدد صغير من المسلمين التايلانديين والماليزيين.
وقال المعهد: في خضم هذه الاضطرابات الداخلية، كانت إدانة رئيس الوزراء "سريثا" القاسية لحماس بمثابة تحول حاد في الشؤون الخارجية.
كما بدأ حينها رئيس مجلس النواب، وان محمد نور، إلى جانب فريقه، التواصل مع الطائفة الشيعية التايلاندية للتواصل مع إيران وحماس؛ والتفاوض بشأن إطلاق سراح المحتجزين التايلانديين.
وفي الوقت نفسه، سعت مجموعة متميزة من الوسطاء، تتألف من مسؤولين تايلانديين من وزارة الخارجية والجيش، إلى توسيع قنواتهم الدبلوماسية، من خلال دول مثل تركيا وماليزيا وقطر ومصر والسعودية.
وأوضح المعهد أن كثيرين، وخاصة أقارب المحتجزين، ينظرون إلى هذه الجهود باعتبارها متأخرة.
وفي 30 أكتوبر/تشرين الأول 2023، عندما أعيد 17 محتجزا تايلانديا إلى البلاد، كانوا يرتدون قمصانا تحمل العلمين الإسرائيلي والتايلندي، وقلادات مكتوبا عليها بالعبرية والإنجليزية عبارة "أطلقوا سراحهم الآن".
وأكد المعهد أنه "بينما تحاول الحكومة الحفاظ على موقف محايد، فإن القمصان المزينة بالعلم الإسرائيلي تشير إلى خلاف ذلك".
افتقار إلى البصيرة
من جانبه، قال المفاوض الرئيسي لإطلاق سراح الرهائن من حماس وزعيم الطائفة الشيعية في تايلاند، سيد سليمان الحسيني، إنه أكد لحماس خلال المفاوضات أن تايلاند لا تدعم إسرائيل.
لكن يؤكد المعهد أن "وجود العلمين، الإسرائيلي والتايلندي، على القمصان التي كان يرتديها المحتجزون التايلانديون المفرج عنهم ربما يتعارض مع تصريحه".
وأفاد بأن "الحكومة التايلاندية تواجه انتقادات شديدة من الطائفة المسلمة التايلاندية والماليزية؛ بسبب عدم حساسيتها، وافتقارها إلى البصيرة فيما يتعلق بالعواقب السلبية المحتملة على المحتجزين التايلانديين الذين ما زالوا في الأسر".
وأضاف: "حتى لو أُطلق سراح جميع المحتجزين، فإن من المستبعد أن يُحدث هذا رأبا للصدع الذي طال أمده، بين الدولة التايلاندية من جهة والمنطقة ذات الأغلبية المسلمة في جنوب تايلاند من جهة أخرى".
وتابع: "بينما يرحب سكان جنوب تايلاند بلا شك بالإفراج عن المحتجزين، فإن هذا لا يحل أو يقلل من التوترات القائمة؛ والسبب هو أن معظم المحتجزين هم من شمال شرق تايلاند (يسان)".
وأكد المعهد أن هذا الواقع يدلل "على الفجوة بين الأقاليم الثلاثة الواقعة في أقصى جنوب تايلاند وبقية البلاد".
وهذا الوضع يسلط الضوء على الانقسام في الميول السياسية بين الطائفة المسلمة وعامة الشعب التايلاندي، ما يؤدي إلى انقسامات على المستويين المحلي والدولي.
ويرى المعهد أن الحكومة التايلاندية تحتاج إلى ممارسة قدر أكبر من الحساسية في سياستها الخارجية تجاه إسرائيل، مع الأخذ في الاعتبار الاضطرابات المستمرة في المقاطعات الواقعة أقصى جنوب تايلاند.
وشدد على أن "أهمية أن تتجنب الحكومة التصرفات التي يمكن أن تثير استياء مسلمي الملايو". وختم بالقول: "يتعين على التايلانديين أن يدركوا أن التعبير عن التعاطف مع فلسطين لا يعني عدم الولاء لتايلاند".