من "الوراق" إلى "طوسون".. هكذا يدير المصريون معركتهم مع التهجير القسري

"ما يحدث في طوسون ليس واقعة معزولة، بل جزء من نمط متكرر للتهجير القسري مارسته الدولة"
"لن نترك منازلنا".. بهذه العبارة يستقبل أهالي طوسون بمحافظة الإسكندرية كل من يسألهم عن قرار نزع الملكية الذي حرَّكه المحافظ الفريق أحمد خالد حسن سعيد، في 27 أغسطس/ آب 2025، ويهدد بيوتهم وحياتهم.
فخلف الأبواب والشرفات، تختبئ قصص عائلات عاشت لعقود في المنطقة، دفعت ضرائب ورسوم مرافق وتصالحات مع الدولة، ومع ذلك تجد نفسها اليوم أمام قرار يقتلعها من جذورها باسم "التطوير".
قصة طوسون ليست استثناء، من الإسكندرية إلى القاهرة والجيزة، وصولا إلى صعيد مصر، أصبح نزع الملكية منهجية واضحة لنظام عبد الفتاح السيسي، تتكرر في مشروعات الدولة، لتنال آلاف الأسر وتثير موجات من الغضب والاعتصامات والشكاوى.
لكن خلف هذه القرارات يقف تناقض صارخ مع نصوص الدستور ذاته، فالمادة (35) تؤكد أن "الملكية الخاصة مصونة، تؤدّي وظيفتها الاجتماعية في خدمة الاقتصاد الوطني دون انحراف أو استغلال، وحق الإرث فيها مكفول، ولا يجوز فرض الحراسة عليها إلا في الأحوال المبينة في القانون وبحكم قضائي، ولا تنزع الملكية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل".
وبينما يفترض أن يكون الدستور هو الضمانة العليا لحقوق المواطنين، يكشف الواقع عن ممارسة مغايرة؛ حيث تتحول مشاريع الطرق والكباري والتطوير العمراني إلى أدوات لانتزاع المنازل من أصحابها، في ظل تعويضات يعدها الأهالي غير عادلة، وبدائل لا تراعي البعد الاجتماعي ولا تحترم نسيج المجتمعات المحلية.
أزمة طوسون
في شرق مدينة الإسكندرية، وتحديدا في منطقة طوسون، يعيش آلاف السكان حالة من القلق والرفض بعد أن فوجئوا بقرارات حكومية تهدف إلى إزالة منازلهم لصالح مشروع تطوير جديد.
القضية التي تمسُّ أكثر من 6 آلاف نسمة، أعادت إلى الواجهة ملف نزع الملكية والتهجير القسري في مصر، وما يثيره من جدل اجتماعي وقانوني واقتصادي.
تعود تفاصيل الأزمة إلى أبريل/ نيسان 2025، حين قرَّر محافظ الإسكندرية تشكيل لجنة مشتركة برئاسة رئيس حي المنتزه ثانٍ، تضم ممثلين عن الأجهزة التنفيذية، والمساحة، والإصلاح الزراعي، وحماية أملاك الدولة، إلى جانب مهندسين عسكريين.
مهمة اللجنة كانت حصر التعارضات مع مسار الطريق الدائري الجديد بطول 23 كيلومترا، ضمن مشروع تطوير شرق الإسكندرية.
المسار شمل ثلاث مراحل رئيسة، امتدت من مزلقان الشرطة العسكرية حتى كوبري 25، مرورا بعزبة الكوبانية، ثم من الأكاديمية البحرية إلى أراضي القوات المسلحة، وصولا إلى الكتلة السكانية في مزلقان 25.
لكن الصدمة جاءت مع إعلان قرارات نزع الملكية؛ إذ شمل الحصر 260 منزلا، إلى جانب أربعة مساجد وكنيسة واحدة تخدم المنطقة بأكملها.
الأهالي لم يقفوا مكتوفي الأيدي، فقد تقدّموا بشكاوى رسمية إلى رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة، ووزير النقل، ومحافظ الإسكندرية، كما سعوا لمقابلة المحافظ لعرض مسار بديل للطريق.
وبالفعل، استعانوا بمكتب استشاري هندسي، توصل إلى مقترح بديل لا يتطلب هدم المنازل، وسلموه للمسؤولين، كما عقد بعض الأهالي لقاء مع وزير النقل كامل الوزير، الذي وَعَد ببحث الأمر مع المحافظ، وهو ما لم يحدث، بل تطور الوضع إلى الأسوأ.

أزمة مجتمعية
وفي مطلع سبتمبر/ أيلول 2025، قدم السكان تظلما رسميا طالبوا فيه بسحب قرار الحصر أو تعديله، خاصة أن الأزمة لا تقف عند حدود المنازل فقط، فالمنطقة تضم مدارس ومستوصفات طبية، وجمعيات خيرية وخدمية، الأهالي يؤكدون أن إزالة هذه المنشآت ستؤدي إلى تفكيك نسيج اجتماعي متماسك منذ عقود.
الملف أعاد إلى الأذهان محاولة سابقة في 2008 حين حاول المحافظ الأسبق اللواء عادل لبيب الاستيلاء على الأرض وتحويلها إلى كمبوند استثماري، آنذاك، خاض السكان اعتصاما استمر ستة أشهر، انتهى بحكم قضائي أوقف القرار.
لاحقا، أعاد الأهالي بناء منازلهم، وأدخلوا المرافق الأساسية، وحصلوا على تصالحات رسمية ورصف للمنطقة، ما منحهم شعورا بالاستقرار والشرعية.
ومع ذلك فإن من أبرز ما يثير الغضب مسألة التعويضات، الأهالي يقولون: إن سعر المنزل الواحد يتجاوز 4 ملايين جنيه في السوق العقارية الحالية، بينما أي تعويض حكومي لن يعوض خسائرهم المادية ولا الاجتماعية.
بعض العمارات تضم أكثر من 35 شقة، والمنطقة متصلة بالمرافق الأساسية كافة (كهرباء، غاز، مياه، صرف صحي، تليفون أرضي)، فضلا عن حصول معظم العقارات على قرارات تصالح رسمية.

جعلوه عبرة
ومع ذلك فإن مأساة طوسون لم تقف عند ذلك الحد، فلم يكن عبد الله محمد السيد، الشاب ذو التسعة والعشرين عاما، يتوقع أن يصبح اسمه مرتبطا بتهم "الإرهاب" لمجرد تمسكه بمنزله الوحيد في طوسون.
ففي صباح 11 سبتمبر، وبينما كان يؤدي عمله في إحدى الشركات بمنطقة برج العرب، ألقت قوات الأمن القبض عليه دون إنذار.
اختفى عبد الله يومين كاملين قبل أن يظهر أمام نيابة أمن الدولة العليا متهما بالانضمام لجماعة إرهابية وتمويلها ونشر أخبار كاذبة.
لكن المفارقة أن هاتفه المحمول وصفحاته الشخصية لم تحوِ أي منشور أو دليل على تلك التهم.
كل ما وجد كان مقطع فيديو قصير صوره بهاتفه، يظهر أحد الجيران وهو يزيل لافتة علقها الأهالي على جدار تحمل عبارة: "لا نترك منازلنا"، لافتة بسيطة تحوّلت إلى قرينة اتهام ثقيلة.
المبادرة المصرية للحقوق الشخصية التي تبنت قضيته، أكَّدت في بيان صدر يوم 15 سبتمبر أن عبد الله لم يرتكب جريمة تستوجب العقاب، بل مارس حقه الدستوري في التعبير عن رأيه، شأنه شأن مئات من سكان طوسون.
إلا أن السلطات، بحسب وصف نشطاء حقوقيين، أرادت أن تجعل من قصته "عبرة" لبقية الأهالي في طوسون، رسالة صامتة مفادها أن الاعتراض قد يقود من البيت إلى الزنزانة.
تغول صارخ
وقال كريم اليعقوبي، المستشار القانوني والمحامي بالنقض: إن ما يتعرض له سكان طوسون في الإسكندرية لا يمكن النظر إليه بمعزل عن الإطار الدستوري والقانوني الحاكم في مصر.
فإجلاء الأهالي قبل صدور حكم قضائي نهائي، بحسب وصفه، يمثل انتهاكا صارخا للمادة (63) من الدستور التي تنص بوضوح على حظر التهجير القسري التعسفي للمواطنين بصوره وأشكاله كافة، وتؤكد أن مخالفته جريمة لا تسقط بالتقادم.
وأضاف اليعقوبي في حديثه "للاستقلال" أن الدستور لم يكتف بحماية الملكية الخاصة في مادته (35)، بل إن القانون المدني ذاته، في مادته (18)، يمنع أي طرف إداري من تعديل أو إنهاء العلاقة التعاقدية بشكل منفرد طالما أنها قائمة بين أطراف طبيعية أو اعتبارية.
وهو ما ينطبق على حالة أهالي طوسون الذين يملكون عقود بيع وانتفاع رسمية مع المحافظة، تجعلهم في مركز قانوني ثابت لا يجوز تجاوزه بقرارات إدارية.
وأكّد في حديثه أن ما يحدث في طوسون ليس واقعة معزولة، بل جزء من نمط متكرر للتهجير القسري مارسته الدولة في السنوات الأخيرة تحت غطاء التطوير العمراني أو التقديرات الأمنية.
واستشهد بعدة أمثلة، من بينها محاولات إجلاء سكان السيدة زينب، وتهجير أهالي رأس الحكمة لصالح مشروعات استثمارية كبرى، فضلا عن الصراع الممتد في جزيرة الوراق، وما شهده سكان إمبابة من إزالات في شارع المطار وترسا وخاتم المرسلين، وأهالي نزلة السمان وترعة الزمر، وصولا إلى سكان محيط الطريق الدائري الذين فقدوا منازلهم دون تعويضات عادلة.
وأشار كذلك إلى أن محافظات أخرى لم تكن بمنأى عن هذه السياسات، مثل عزبة الصيد في الإسكندرية، والتهجير الأوسع والأكثر قسوة في رفح المصرية والشيخ زويد بشمال سيناء؛ حيث جرى اقتلاع السكان من أراضيهم بالكامل تحت مسمى "العمليات الأمنية".
واختتم اليعقوبي حديثه بقوله: "ما يجرى هو تغول على الحقوق الدستورية للمواطنين باسم التنمية، إن تنفيذ الإخلاء دون انتظار أحكام نهائية، ودون تقديم تعويضات عادلة وشفافة، لا يمثل فقط مخالفة صريحة للقانون المصري، بل يتعارض مع المواثيق الدولية التي صادقت عليها مصر والتزمت بها".
المصادر
- «خطة تطوير».. طريق جديد يهدد بإزالة مناطق سكنية في «طوسون» بالإسكندرية
- حبس عبد الله السيد من أهالي طوسون بتهم "الإرهاب" بعد رفضه خسارة منزله الوحيد بالإسكندرية
- مصر: ظهور المتحدث باسم أهالي طوسون في نيابة أمن الدولة بعد أيام من اعتقاله
- "لن نترك منازلنا".. أهالي طوسون في مواجهة "نزع الملكية"
- أزمة سكان منطقة طوسون في الإسكندرية وظهور المتحدث باسمهم بعد اعتقاله
















