من التنقيب إلى التصدير.. كيف تعيد تركيا رسم خريطة الطاقة الإقليمية؟

منذ ٦ أيام

12

طباعة

مشاركة

لم تعد تركيا تنظر إلى الطاقة كمجرد أداة لتأمين احتياجاتها المحلية، بل أصبحت توظف هذا الملف الحيوي كرافعة لتعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي إقليميا ودوليا. 

وهنا تبرز مصر بوصفها إحدى المحطات المهمة في الحسابات التركية، سواء من خلال مشاريع التعاون في البنية التحتية، أو عبر ترتيبات الغاز الطبيعي المسال. 

في هذا السياق، نشر مركز "سيتا" التركي للأبحاث والدراسات مقالا للباحثة في العلاقات الدولية، بشرى زينب أوزدمير، شرحت فيه كيف تستثمر أنقرة ملف الطاقة في علاقاتها الخارجية.

وقالت الباحثة: "لا تزال الطاقة واحدة من الركائز الأساسية للنمو الاقتصادي المستدام، فقبل قرن من الزمان، هيمن الوقود الأحفوري -كالنفط والفحم والغاز الطبيعي- على الخريطة العالمية لمصادرها".

واليوم، تتصدر الطاقة مجددا الأجندات السياسية الخارجية، ويعود ذلك إلى الانتشار السريع لتقنياتها النظيفة، وتزايد الطلب على المعادن الحيوية، إضافة إلى الأهمية الإستراتيجية للعناصر الأرضية النادرة.

هذا الواقع، مع ترابط الأسواق العالمية، دفع الدول المصدّرة والمستوردة للطاقة إلى اتباع نهج أكثر حذرا في علاقاتها الدولية.

تصاعد الاستهلاك التركي

وقالت الباحثة: إن "تنامي دبلوماسية الطاقة التركية، المدفوعة بشراكات إستراتيجية واستثمارات في مجالي الإنتاج والبنية التحتية، يعزز موقع أنقرة كقوة إقليمية وطرف فاعل في أمن الطاقة العالمي".

وأضافت أن استهلاك تركيا من الطاقة شهد نموا مطردا بالتوازي مع زيادة عدد سكانها وتوسع اقتصادها، لافتة إلى أنها تفوقت على العديد من الدول المماثلة في تنويع مزيج منها.

وتابعت: "لأكثر من عقدين، استفادت أنقرة من موقعها الجغرافي الفريد وعلاقاتها التاريخية الراسخة لاتباع سياسة دبلوماسية طاقة استباقية ومتعددة الأبعاد".

ومن خلال تنويع ليس فقط أنواع الطاقة التي تستهلكها، بل أيضا طرق العبور التي تستوردها من خلالها، أعادت تركيا تدريجيا صياغة ما كان يُعرف سابقا بـ"الاعتماد الأحادي" على جيرانها الأغنياء بالهيدروكربونات، ليتحول إلى إطار من "الاعتماد المتبادل".

وقد عززت الاستثمارات الإستراتيجية في البنية التحتية للغاز الطبيعي -بدءا من شبكات الأنابيب ووصولا إلى القدرة على استيراد الغاز الطبيعي المسال- أمن الطاقة في تركيا.

وأشارت إلى أن منشأتي تركيا لإعادة تحويل الغاز المسال إلى حالته الغازية، إلى جانب ثلاث وحدات عائمة للتخزين وإعادة التحويل (FSRUs)، منحت البلاد قدرة تفاوضية أكبر في إبرام اتفاقيات استيراد الغاز.

ورأت أن تركيا لا تكتفي بتنويع مصادر وارداتها من الطاقة، بل تسعى أيضا إلى تقليص اعتمادها الخارجي من خلال التحول إلى منتِج ومستهلك في آن واحد.

وأضافت أن أنقرة أطلقت خلال العقد الماضي جهودا طموحة للتنقيب عن الهيدروكربونات، سواء في البر أو في المياه التابعة لها، مستندة إلى أسطول متكامل من سفن الاستكشاف والحفر في أعماق البحار، ما يضعها ضمن دائرة محدودة من الدول التي تمتلك مثل هذه القدرات.

وأردفت أن هذا الأسطول لا يقتصر دوره على تلبية الاحتياجات المحلية، بل إن تركيا تسعى من خلاله إلى الإسهام في أمن الطاقة في محيطها الإقليمي الأوسع، بما يعزز مكانتها كقوة إقليمية ذات طموحات عالمية في هذا القطاع.

وقالت الباحثة: إن مقاربة تركيا الريادية في السياسة الخارجية عززت حضورها الإقليمي، وأصبحت دبلوماسية الطاقة عنصرا محوريا في هذه المقاربة.

وأضافت أن الزيارات والاجتماعات رفيعة المستوى غالبا ما تشمل وزير الطاقة والموارد الطبيعية إلى جانب وزير الخارجية.

وهو أمر رمزي في ظاهره، لكنه يعكس بوضوح تنامي أهمية ملف الطاقة في تحركات أنقرة الدبلوماسية.

شراكات خارجية

وأشارت إلى أن تركيا أصبحت طرفا فاعلا في مشاريع التنقيب والإنتاج في الخارج، عبر شراكات رسمية ومشاركة مباشرة لشركة النفط الوطنية "مؤسسة البترول التركية" (TPAO)، وشملت هذه الأنشطة دولا مثل أذربيجان وروسيا والعراق وأفغانستان.

وأردفت أن تركيا بدأت أخيرا إجراء دراسات زلزالية في المياه الصومالية بهدف استكشاف مكامن محتملة للهيدروكربونات.

وفي أبريل/نيسان 2025، وقّعت أنقرة ومقديشو اتفاقا يسمح لـ "مؤسسة البترول التركية" بالعمل في مناطق برية أيضا، في خطوة تعكس عمق الثقة المتبادلة وتعزز العلاقات الثنائية.

وترى أن هذا التعاون قد يشكل نموذجا قابلا للتكرار في منطقة القرن الإفريقي وما بعدها.

وبينت أن الشراكة التركية مع الصومال ليست حالة استثنائية، بل تأتي في سياق دبلوماسي نشط تتبناه أنقرة منذ سنوات لتوسيع تعاونها في مجال الطاقة مع الدول الصديقة والحليفة.

وأشارت إلى أن اتفاق ترسيم الحدود البحرية الموقع مع ليبيا عام 2019 يمثل أحد أبرز الأمثلة على ذلك؛ إذ يتضمن بنودا تتيح لتركيا التنقيب عن الهيدروكربونات في المياه الليبية، رغم أن الاتفاق لا يزال في انتظار التنفيذ الكامل.

وأضافت أن هذه الجهود تتجاوز حدود القارة الإفريقية، ففي عام 2024 وحده، عقدت تركيا حوارات إستراتيجية ووقّعت اتفاقيات طاقة مع فنزويلا، بصفتها قوة نفطية كبرى.

كما وقعت اتفاقيات مع النيجر كدولة ناشئة في تصدير الغاز المسال، إضافة إلى الجزائر بوصفها شريكا تقليديا في مجال الطاقة.

وأيضا مع كل من الصين والولايات المتحدة، بصفتهما أكبر مستهلك ومنتج للطاقة على التوالي.

وأردفت الباحثة أن الأشهر الخمسة الأولى من عام 2025 شهدت زخما كبيرا في دبلوماسية الطاقة التركية؛ إذ أبرمت أنقرة اتفاقا مع واشنطن لتطوير احتياطيات النفط والغاز غير التقليدية، في خطوة تعكس التزامها بخفض اعتمادها على واردات الطاقة.

وتسمح الاتفاقيات المنفصلة التي وقعتها "مؤسسة البترول التركية" مع المجر وباكستان بإجراء عمليات الاستكشاف والإنتاج في الخارج، مما يعزز مصداقية تركيا وخبرتها في هذا القطاع.

وقالت الباحثة: إن الاتفاق على نقل إدارة إحدى وحدات التخزين العائمة وإعادة تحويل الغاز المسال (FSRU) التركية لمصر، التي كانت تاريخيا من مصادر واردات الغاز المسال، يعكس رغبة أنقرة في استخدام بنيتها التحتية الحيوية لدعم أمن الطاقة لدى حلفائها.

وأضافت أنّ هذه الخطوة تعزز الفكرة القائلة بأن الطاقة، إذا ما استُغلت بحكمة، يمكن أن تصبح جسرا بين الدول.

مركز للحوار العالمي

وبالتوازي مع جهودها الدبلوماسية، رسّخت تركيا مكانتها كقوة جاذبة للحوار في مجال الطاقة.

وقد جمع "منتدى إسطنبول للطاقة"، في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، وزراء الطاقة والموارد الطبيعية من روسيا وأذربيجان وبلغاريا وجورجيا والمجر وليبيا ومولدوفا وصربيا وأوزبكستان.

وشارك فيه أيضا مسؤولون تنفيذيون من شركة النفط والغاز الوطنية الأذربيجانية (سوكار)، وشركة عُمان للغاز الطبيعي المسال.

ونتج عن المنتدى التزامات بالتعاون في مجالات متعددة، من الهيدروكربونات والطاقات المتجددة إلى التعدين والطاقة النووية.

وفي الآونة الأخيرة، جمعت قمة إسطنبول للموارد الطبيعية، في مايو/أيار 2025، تحت شعار "تأمين الموارد.. إعادة بناء المستقبل"، وزراء من دول عديدة.

وفي الجلسة الوزارية الأولى، ناقش وزير الطاقة التركي، ألب أرسلان بيرقدار، أمن المعادن في مرحلة انتقال الطاقة مع نظرائه من المجر والصومال والنيجر وليبيا والسعودية.

أما الجلسة الثانية، فقد جمعت وزراء من ليبيا ورومانيا والعراق وأذربيجان وسوريا وبلغاريا ومولدوفا لمناقشة أمن الطاقة في ظل المخاطر العالمية الناشئة.

وأكدت الاتفاقيات الثنائية المتعددة التي وُقعت خلال القمة مكانة تركيا المتنامية كفاعل محوري في حوكمة الطاقة العالمية.

وأوضحت الباحثة أن "الخطوات الأخيرة التي اتخذتها تركيا في مجال دبلوماسية الطاقة لا تضمن مصالحها الوطنية فحسب، بل تُرسّخ مكانتها كقوة استقرار إقليمية وشريك عالمي".

وختمت أنه “في عالم تتزايد فيه التحولات الطاقية وتتصاعد حالة الغموض الجيوسياسي، يشكل النشاط الطاقي لأنقرة نموذجا مقنعا للانخراط الاستراتيجي، والاستعداد التكنولوجي، والقيادة التعاونية”.