توحيد العملة ووقف التعامل مع أشهر 6 مصارف.. ماذا وراء أزمة اليمن المالية؟
"تفجير الصراع من جديد قد يكون لصالح الحكومة في فرض واقع جديد"
متغيرات متسارعة يشهدها اليمن بعد قرارات للبنك المركزي في عدن تتعلق بتوحيد العملة الوطنية وإنهاء الانقسام المالي واحتواء الأزمة المالية الحادة التي أفرزتها طبيعة الصراع منذ انقلاب الحوثيين في سبتمبر/ أيلول 2014.
وفي 30/ مايو 2024، أعلن البنك المركزي اليمني بعدن وقف التعامل مع أشهر ستة من المصارف اليمنية التي لم تقم بنقل مقراتها الرئيسة من صنعاء إلى العاصمة المؤقتة عدن، جنوبي البلاد بعد انتهاء المدة المقررة 60 يوما.
وهذه البنوك هي: بنك التضامن، بنك اليمن والكويت، بنك الأمل للتمويل الأصغر، بنك الكريمي للتمويل الأصغر، وبنك اليمن الدولي، مصرف اليمن والبحرين الشامل.
وبرر البنك القرار بما تتعرض له البنوك والمصارف من إجراءات غير قانونية من قبل مليشيا الحوثي، الأمر الذي من شأنه أن يعرض المصارف –في حالة التأخير- لمخاطر تجميد حساباتها وإيقاف التعامل معها داخليا وخارجيا.
وجاءت هذه القرارات بعد سلسلة إجراءات قام بها البنك تجاه المصارف في محاولة لاحتواء الأزمة المالية المتفاقمة وتخفيف آثارها على الاقتصاد الوطني بشكل عام ومناطق الحكومة الشرعية بشكل خاص.
وعلى غرار الانقسام السياسي والعسكري، يشهد اليمن انقساما نقديا، إذ يوجد بنكان مركزيان أحدهما تديره الحكومة المعترف بها دوليا في مدينة عدن، جنوبي البلاد، ويتعامل بأوراق مالية حديثة، قيمة الدولار الأميركي فيها 1760 ريالا.
والآخر في العاصمة صنعاء تديره مليشيا الحوثي، ويتعامل بأوراق مالية أقدم، قيمة الدولار الأميركي فيها 531 ريالا.
جذور الأزمة
تعود جذور الأزمة المالية لدى الحكومة الشرعية بعد هجمات الحوثيين بالطيران المسير منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2022، ما أدى إلى وقف تصدير النفط من موانئ حضرموت وشبوة، ما جعل الحكومة تخسر أهم مواردها بالعملة الصعبة.
ورغم الإمكانات اللوجستية والعسكرية الكبيرة لدى السعودية والإمارات في مواجهة منع الحوثيين لتصدير النفط إلا أنهما تباطآتا تماما في حماية الموانئ اليمنية، ما أسهم في استفحال الأزمة الاقتصادية وزيادة الضغوط على الحكومة يوما بعد آخر.
وحسب تقديرات مسؤولين حكوميين ومهتمين، تكبدت الحكومة اليمنية خسائر تقدر 500 مليون دولار بحلول مطلع يناير/ كانون الثاني 2023 نتيجة تلك الهجمات. وارتفعت نسبة الخسائر إلى ملياري دولار حتى مطلع يناير/ كانون الثاني 2024.
وأقرت الحكومة الشرعية طباعة عملة محلية جديدة في عام 2017 لمواجهة أزمة التمويل، وقوبلت تلك الخطوة برفض مطلق من مليشيا الحوثي، بل عاقبت كل من يتداول العملة الجديدة في مناطق سيطرتها.
ونتج عن هذا الرفض سحب العملة من السوق في مناطق سيطرتها، نتج عنه تباين في سعر الصرف والذي توسع تدريجيا حتى أصبح هناك أشبه بالنظامين الاقتصاديين بعملتين: جديدة وقديمة وبنكين مستقلين في صنعاء وآخر في عدن.
وبنفس الخطوة أصدرت مليشيا الحوثي أواخر مارس/ أذار 202، عملة معدنية جديدة من فئة 100، عدها البنك المركزي في عدن انتهاكا خطيرا في حق الاقتصاد الوطني، ودعا المواطنين إلى عدم التعاطي معها وعدها عملة مزيفة.
أما عن العملة الوطنية فقد استمر الريال اليمني في التراجع أمام العملات الصعبة في المناطق المحررة بفعل الانقسام المالي الحاد متخطيا حاجز 1730 ريالا للدولار الواحد مع مطلع يونيو/ حزيران 2024.
انعكاسات الأزمة
لم يكن قرار البنك المركزي في عدن باستبدال العملة القديمة الصادرة قبل عام 2016، بعد نقل البنك سوى تحصيل حاصل؛ كون معظم العملة القديمة تم سحبها من مناطق الشرعية بسبب منع الحوثيين التعامل بالعملة الجديدة.
وقد دفع القرار في حينه، البنوك والصرافين والتجار إلى تهريب العملة إلى مناطق سيطرة الحوثين بصنعاء وصرفها بما يساوي ثلاثة أضعاف قيمتها في عدن، هروبا من الخسائر المحتملة حسب ما يؤكد الخبير الاقتصادي "مطهر العباسي".
وسارت الإجراءات الاقتصادية التي اتخذها الحوثيون منذ بداية الحرب نحو فرض سياسة نقدية جديدة يتحكمون من خلالها بمختلف التعاملات المالية، بما في ذلك تحديد أسعار العملات الأجنبية في مناطق سيطرتهم، وهو فعليا ما ألحق الضرر بالاقتصاد المحلي والقطاعات التجارية والمصرفية الأخرى.
وخلال فترة وجيزة من الحرب أصبحت مليشيا الحوثي تستحوذ فعليا على سوق المال والأعمال في المناطق الخاضعة لسيطرتها، بل وتمتد أذرع نشاطها التجاري نحو تغذية السوق المحلي في المناطق الخاضعة للحكومة الشرعية بالسلع الاستهلاكية المحلية والمستوردة أيضا.
وتمكنت المليشيا من السيطرة على موارد الدولة، عبر إنشاء مؤسسات إيرادية وصناديق معززة لذلك لتصبح تلك المؤسسات إحدى أدواتها المالية في الانفاق على الحرب، وإحكام السيطرة الأمنية على المناطق الواقعة تحت نفوذها.
كما عملت المليشيا، على إنشاء ودعم واجهات تجارية واستثمارية جديدة بمسميات مختلفة على حساب واجهات تجارية وطنية، واستحدثت لها بيئة تشريعية ملائمة ودعمتها بكامل مقومات النجاح والسيطرة، من مصارف وبنوك وشركات.
بالقدر الذي كانت مليشيا الحوثي توسع من نفوذها الاقتصادي يوما بعد آخر، خاصة أنها ليست ملتزمة أخلاقيا تجاه المواطنين في صرف الرواتب وتحسين أوضاعهم؛ فقد كانت التبعات تتحملها الحكومة منفردة وكلما طالت الأزمة يؤثر ذلك على سمعتها داخليا وخارجيا.
وبسبب هذا الصراع المرير فقد خسرت العملة الوطنية حوالي 190 بالمئة من قيمتها أمام العملات الأجنبية، خلال سنوات الحرب التسع الماضية مما أسهم في صعود حاد للأسعار وتدهور مستوى المعيشة وانخفاض متوسط دخل الفرد بحوالي 60 بالمئة.
خسائر محتملة
تتخوف مليشيا الحوثي من تداعيات قرارات البنك المركزي في عدن، وأولها الخسائر المحتملة التي ستلحق بميناء الحديدة الخاضع لسيطرتهم، وذلك بعد تجميد عمليات البنوك من التعامل داخليا وخارجيا.
وبالتالي سينتقل الثقل الاقتصادي إلى ميناء عدن بسبب التعاملات المالية للبنوك الملتزمة بقرار الحكومة أمام البنوك العالمية في الاستيراد من الخارج، وهذا من شأنه أن يضعف حركة ميناء الحديدة ويضربه في مقتل كونه الشريان الرئيس لمليشيا الحوثي، وهذا القرار سيدفع المليشيا للحوار أو الحرب.
وتكمن أزمة البنوك بأن التوقيف سيؤدي في مرحلة لاحقة إلى منعهم من استخدام شبكة التحويلات المالية الدولية المعتمدة لدى البنك المركزي في عدن، مثل نظام سويفت (SWIFT) وأيبان (IBAN) وكذلك حرمانهم من استخدام شبكة التحويلات المالية المحلية الموحدة (UNMONY)، وهذا سيسبب خسائر فادحة.
وتعقيبا على هذه القرارات، قال زعيم مليشيا الحوثي عبدالملك الحوثي في خطاب له: "إن الإقدام على الضغط على البنوك في صنعاء يأتي ضمن الخطوات الأميركية دعما للكيان الإسرائيلي، ويرى أن ذلك "عدوانا على المجال الاقتصادي وخطوة عدوانية ولعبة خطيرة".
وتتخذ المليشيا حاليا من البنوك الكبيرة في صنعاء دروعا اقتصادية في مواجهة إجراءات البنك المركزي في عدن، وقد يدفعها ذلك للاستيلاء على أصول البنوك في حالة الاستجابة للحكومة في نقل مقراتها الرئيسة إلى عدن.
خذلان المجتمع الدولي
خلال العامين الماضيين (2022 – 2023) فشلت جميع المقترحات الأممية لغرض تجديد الهدنة وتوسيعها والاتفاق على خطوات منسقة لصرف رواتب موظفي القطاع الحكومي المتوقفة رواتبهم منذ العام 2016.
وفي هذا السياق، يرى المحل السياسي "علي البكالي" أن أزمة البنوك اليمنية يعود جذورها الأولية التي نشأت مع سيطرة مليشيا الحوثي على العاصمة صنعاء في 2014، ونهبها للاحتياطي النقدي في البنك المركزي البالغ حينها 4.7 مليارات دولار.
وأضاف لـ"الاستقلال"، أن ذلك أدى مباشرة إلى انهيار العملة بشكل متدرج، ثم تلا ذلك تلاعب الحوثيين في الودائع العامة ونهب المرتبات والتلاعب بالمساعدات الدولية وهو ما استدعى الحكومة لنقل البنك المركزي إلى العاصمة عدن.
وتابع أن البنك المركزي في عدن حاول معالجة أزمة انعدام السيولة بطبع عملة جديدة لتغطية احتياج السوق، لكن الحوثيين قاموا بمنع تداولها في مناطق سيطرتهم وبذلك انقسم الاقتصاد الوطني، وصار بنك صنعاء يعارض بنك عدن دون أن يعمل المجتمع الدولي في وقف هذا الصراع.
ويقول "البكالي" إن الحوثيين مارسوا ضغوطا كبيرة على البنوك التجارية للبقاء في صنعاء وعدم نقل مقراتها ومعاملاتها إلى عدن، لكن بعد القرارات الأخيرة للحكومة بالتزامن مع تململ الولايات المتحدة من حماية المليشيا بسبب هجمات البحر الأحمر سيغير الوضع لصالح البلاد عبر إنهاء هذا الانقسام المالي في البلاد.
من جانبه، الناشط الاقتصادي يرى أنس المليكي أن قرارات البنك المركزي التصحيحية الأخيرة قد تدفع مليشيا الحوثي إلى خطوات انتقامية كرد فعل لهذه القرارات بما فيها تفجير الحرب العسكرية.
وأضاف لـ"الاستقلال"، أن نجاح هذه القرارات التصعيدية يعتمد على صمود الحكومة في حماية هذه القرارات في المقام الأول وتنفيذها كاملة، وعلى مدى تفهم دول التحالف، خاصة السعودية في دعم الشرعية من خلال مواصلة دعم البنك والتنسيق في الجانب العسكري فيما لو عاد الحوثي إلى خيار الحرب.
وأكد أن خيار الحرب وارد جدا كون الخيارات المتاحة أمامها في هذه الأزمة تبدو قليلة وأن تفجير الصراع من جديد قد يكون لصالح الحكومة في فرض واقع جديد والاستفادة من الواقع الدولي تجاه المليشيا فيما يخص البحر الأحمر.
وتحت ستار "التضامن مع غزة" التي تواجه حربا إسرائيلية مدمرة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 بدعم أميركي، يستهدف الحوثيون بصواريخ ومسيّرات سفن شحن إسرائيلية أو مرتبطة بها في البحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي.
ومنذ مطلع 2024، يشن تحالف تقوده الولايات المتحدة غارات يقول إنها تستهدف "مواقع للحوثيين" في مناطق مختلفة من اليمن، ردا على هجماتها البحرية، وهو ما قوبل برد من المليشيا من حين لآخر.
ومع تدخل واشنطن ولندن واتخاذ التوتر منحى تصعيديا في يناير/ كانون الثاني، أعلنت مليشيا الحوثي أنها باتت تعد السفن الأميركية والبريطانية كافة ضمن أهدافها العسكرية.