أسطول تنقيب يعيد رسم خريطة النفوذ.. هل تصل تركيا للاستقلال الطاقي؟

منذ ١٦ ساعة

12

طباعة

مشاركة

في خطوة تُعدّ من أهم إنجازات رؤيتها الإستراتيجية في مجال الطاقة أعلنت تركيا في 18 يوليو/تموز 2025 عن تعزيز أسطولها البحري، وذلك بإضافة سفينتين من الجيل السابع للتنقيب في أعماق البحار.

هذه الإضافة لا تقتصر على الجانب التقني، بل تمثل قفزة نوعية نحو تحقيق هدف "تركيا المستقلة في الطاقة"، وهو شعار يرفعه الرئيس رجب طيب أردوغان منذ سنوات.

الاستقلال الطاقي

وفي هذا السياق، قال مركز أنقرة لدراسة الأزمات والسياسات - أنكاسام‏ إن السفينتين الجديدتين، القادرتين على الحفر حتى عمق 12 ألف متر، ستدخلان الخدمة تحت إدارة شركة النفط التركية الوطنية "TPAO"، ومن المقرر أن تبدآ عملياتهما مطلع عام 2026. 

وبهذا، يرتفع عدد سفن التنقيب العميق التي تملكها تركيا إلى ست سفن، والتي تشمل أيضاً "فاتح"، و "ياووز"، و "القانوني"، و "عبد الحميد خان"، ما يضع البلاد بين أول أربع دول في العالم تمتلك أسطولاً بهذا المستوى من الحداثة والكفاءة.

ووفق بيان لوزارة الطاقة، صدر في 18 يوليو، عززت تركيا أسطولها بسفينتين بهدف زيادة الإنتاج وتمهيد الطريق لاكتشافات جديدة.

واستدركت الكاتبة التركية "أيبوكي فريسكالا" أن هذه الخطوة تتجاوز كونها استثماراً في البنية التحتية؛ فهي تعكس توجّهاً إستراتيجياً يعيد تعريف مكانة تركيا في موازين الطاقة العالمية، ويقلل من اعتمادها على واردات الطاقة التي لطالما مثّلت عبئاً على الاقتصاد التركي.

وأضافت: منذ اكتشاف احتياطيات ضخمة في حقل صقاريا بالبحر الأسود عام 2020، والذي يحتوي على نحو 710 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي، بدأت تركيا ترجمة طموحاتها إلى أفعال.

 فالإنتاج الأولي من هذا الحقل انطلق في 2023، ويبلغ حالياً 9.5 ملايين متر مكعب يومياً من 12 بئراً، والتي تُغذي نحو 4 ملايين منزل. 

وتخطّط الحكومة للوصول إلى طاقة إنتاجية كاملة في هذا الحقل بحلول عام 2029، بما يغطي قرابة 30 بالمئة من الاستهلاك السنوي المحلي للغاز.

وبينت أن ما يلفت الانتباه في هذه الاستراتيجية هو تحوّل البحر الأسود إلى مركز ثقل طاقي جديد. 

فبينما كانت تركيا تُعد تقليدياً دولة عبور للطاقة بين الشرق والغرب، ها هي اليوم تتحول إلى منتج فعلي ومزوّد للبنية التحتية، خاصة مع تنامي التعاون مع دول مثل رومانيا وبلغاريا. 

وهذا التوجه يعزز من مكانة تركيا كمحور جديد في شبكة الطاقة الأوروبية، ويوازي في الوقت ذاته مساعي الاتحاد الأوروبي لتقليل اعتماده على الغاز الروسي، وفق تقديرها.

إضافة إلى ذلك، فإن موقع البحر الأسود الجيوسياسي، في ظل تصاعد التوترات بين الناتو (حلف شمال الأطلسي) وروسيا، يمنح تركيا مساحة إضافية للمناورة الدبلوماسية والاقتصادية، ويحوّل استثمارات الطاقة إلى أدوات فاعلة في تشكيل التوازنات الإقليمية.

وأردفت الكاتبة: إن شراء سفن الجيل السابع لا يهدف فقط إلى استغلال الاحتياطيات في المياه التركية، بل يُمهد لامتداد النفوذ التركي إلى مناطق أخرى مثل ليبيا والصومال وشرق البحر المتوسط. 

وبهذا، فإن تركيا تضع لنفسها أسس "دبلوماسية طاقية" متعدّدة الأبعاد، حيث لا تكتفي بالاستهلاك أو الإنتاج، بل تفرض نفسها كفاعل إقليمي يمتلك التكنولوجيا والقدرة على المشاركة في رسم سياسات الطاقة في محيطه الحيوي.

فوفق التوقعات، قد تتمكن تركيا خلال السنوات الخمس المقبلة من مضاعفة إنتاجها في البحر الأسود ثلاث مرات، لتصل إلى تغطية نحو 50 بالمئة من حاجتها المحلية للغاز. 

وهذا الإنجاز من شأنه أن يوفّر للخزينة التركية ما بين 15 و20 مليار دولار سنوياً، وهو رقم كفيل بإحداث تحسن كبير في ميزان المدفوعات وتقليص العجز المالي.

كما أن هذه القدرات الإنتاجية تمنح تركيا ورقة ضغط إضافية في تعاملها مع دول البلقان والقوقاز وأوروبا الوسطى.

إذ يمكن أن تتحول صادرات الغاز أو الشراكات الطاقية إلى أدوات تأثير ناعمة تعزز من النفوذ التركي في تلك المناطق.

من التنقيب إلى الشراكة

وأردفت الكاتبة: من منظور جيوسياسي فإن تنفيذ تركيا أنشطة تنقيب مستقلة في البحر الأسود باستخدام سفنها الخاصة سيمنحهها هامش حرية واسع في ظل التنافس بين روسيا والغرب على مصادر الطاقة. 

فتركيا لن تكون مضطرة للخضوع لا لمسار يرسمه الغرب بشكل كامل، ولا لنموذج تفرضه روسيا. 

بل على العكس، ستصبح دولة تُنتج طاقتها بنفسها، وتبحث عنها بسفنها الخاصة، وتبني شبكة طاقة تتقاسمها مع دول ثالثة، لتصبح بذلك "بانية شبكات طاقة" إقليمية.

إنّ هذا التحول سيسرّع أيضاً من تدويل مصادر الطاقة في البحر الأسود. ويُتوقع أن تبدأ تركيا بدءا من عام 2027 أنشطة تنقيب مشتركة مع دول مثل رومانيا وبلغاريا، بل وربما تتوجه نحو مناطق احتياطية جديدة في شرق البحر الأسود عبر جورجيا. 

وبفضل هذه القدرات التقنية، قد تتمكن تركيا أيضاً من اتخاذ مواقف أكثر طموحاً في شرق المتوسط، ما قد يؤدي إلى تعاون في مجال الطاقة مع مصر وإسرائيل في إطار العلاقات المعاد هيكلتها بين الأطراف، وفق الكاتبة.

وتعتقد أنه على المدى البعيد، لن تقتصر هذه الاستثمارات على هدف تحقيق الاستقلال الطاقي، بل ستشكّل نقطة تحول إستراتيجية تُمكن تركيا من تعزيز بنيتها التحتية التكنولوجية، وإعادة تعريف مسؤولياتها البيئية، والمساهمة في مبادرات السلام الإقليمي من خلال دبلوماسية قائمة على الطاقة. 

فاستثمارات التكنولوجيا العالية مثل سفن التنقيب في أعماق البحار، ستمنح تركيا فرصة لتطوير قدراتها ليس فقط في إنتاج الطاقة، بل أيضاً في مجالات الهندسة الطاقية، وتكنولوجيا الملاحة البحرية، وأنظمة المراقبة الرقمية. 

كما يمكن أن تؤدي هذه العملية إلى تحولات هيكلية عبر تعزيز التعاون بين الجامعات والقطاع الصناعي، وتطوير التكنولوجيا المحلية، وإضفاء الطابع المؤسسي على نقل المعرفة.

علاوة على ذلك، فإننا ندخل مرحلة جديدة تتشابك فيها دبلوماسية الطاقة مع التحول البيئي والتنمية الإقليمية، وليس فقط مع التنافس على النفوذ، بحسب تقديرها.

وتابعت: "فمن الممكن دمج إستراتيجية الطاقة التركية المعتمدة على الهيدروكربونات مع مصادر الطاقة المتجددة في نموذج هجين، وبذلك يمكن لتركيا أن يوفّر توازناً حاسماً في طريق الوصول إلى هدف الحياد الكربوني". 

بالتالي يمكن لتركيا أن تصبح نموذجاً يُحتذى به من حيث التزامات المناخ وأمن إمدادات الطاقة، خصوصاً إذا ما تم تطوير مشاريع الرياح والطاقة الشمسية والهيدروجين بالتوازي مع إنتاج الغاز الطبيعي من البحر الأسود.

وبذلك يمكن لتركيا، في المرحلة ما بعد مؤتمر المناخ، أن تلعب دوراً فاعلاً ليس فقط في خفض الانبعاثات، بل أيضاً في تمويل المناخ، وتبادل التكنولوجيا، ومنصات التحول في قطاع الطاقة.

وأضافت: تتجه تركيا إلى صياغة دبلوماسية طاقة جديدة، لا تقتصر على التنافس والهيمنة، بل ترتكز على التنمية الإقليمية والتعاون. فرؤية أنقرة تقوم على تقدير الطاقة أداة للسلام، ومحرّكاً للتنمية الاقتصادية، وجسراً للدبلوماسية الفاعلة. 

ومن هنا، يمكن لغاز البحر الأسود أن يكوّن قاعدة لشراكات جديدة مع دول البلقان والقوقاز ووسط أوروبا، بحيث تقوم على البنية التحتية المشتركة، والتدريب الفني، وتبادل التكنولوجيا.

ولا تقتصر الرؤية التركية على حدود الجوار المباشر فحسب، بل يمكن أن تدعم دبلوماسية الطاقة التركية الانفتاح على القارة الإفريقية وآسيا الوسطى. 

فعلى سبيل المثال، يمكن لسفن التنقيب التركية تقديم الدعم الفني على السواحل الإفريقية، أو توفير التدريب والمساندة الهندسية لدول آسيا الوسطى.

وهكذا، فإن توسيع أسطول التنقيب التركي لا يعني فقط الوصول إلى احتياطيات في أعماق البحار، بل يفتح الباب أيضاً أمام مجالات إستراتيجية مثل دبلوماسية الطاقة متعددة الأبعاد، وتحمّل المسؤولية البيئية، وتصدير التكنولوجيا. 

ويمثل هذا التطور بداية مرحلة جديدة، تتحول فيها تركيا من مجرد مستهلك تقليدي للطاقة إلى قوة إقليمية فاعلة تسهم في رسم معالم النظام الطاقي في محيطها الجيوسياسي، وفق الكاتبة.