انقسام يعمق الخلافات.. إلى أين يسير المشهد السياسي في كردستان العراق؟

شبح التسعينيات يهدد وحدة إقليم كردستان العراق
في مشهد يعيد إلى الأذهان حالة الانقسام السياسي التي عاشها إقليم كردستان العراق قبل عام 2003، وصلت التفاهمات بين الحزبين الكرديين الرئيسين، الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، إلى طريق مسدود، على خلفية الخلافات المتعلقة بتشكيل حكومة الإقليم، وتقاسم المناصب المخصصة للمكوّن الكردي في الحكومة الاتحادية العراقية.
ورغم إجراء انتخابات برلمان إقليم كردستان في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024، فإن البرلمان لم يعقد سوى جلسة واحدة، فشل خلالها في انتخاب رئيسه أو الشروع في تشكيل الحكومة الجديدة، بسبب استمرار الخلافات السياسية بين القوتين الرئيستين.
وزاد من تعقيد المشهد السياسي أن الانتخابات البرلمانية العراقية التي جرت بعد عام كامل من انتخابات الإقليم، أفرزت نتائج متقاربة إلى حد كبير من حيث الأحجام الانتخابية للقوى الكردية الرئيسة، ما أعاد إنتاج حالة الجمود ذاتها، وأضعف فرص التوصل إلى تسوية سياسية سريعة تنهي حالة الفراغ في مؤسسات إقليم كردستان.

انتخابات مبكرة
في ظل الأزمة السياسية المتواصلة التي يشهدها إقليم كردستان العراق بين أكبر حزبين كرديين، يتصاعد الحديث في الأوساط الإعلامية والسياسية عن وجود توجّه لدى رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني نحو حلّ برلمان الإقليم والدعوة إلى انتخابات مبكرة، بعد وصول حزبه، الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى ما يصفه بحالة من اليأس من مرونة الاتحاد الوطني الكردستاني في ملف تشكيل حكومة جديدة.
وفي هذا السياق، أفادت صحيفة “العالم الجديد” العراقية، في تقرير نشرته بتاريخ 10 مايو/أيار، بأن الحزب الديمقراطي لا يرغب في ترك أي هامش مناورة أو مساومة للاتحاد الوطني، لا سيما فيما يتعلق بتقاسم السلطة داخل الإقليم أو في المفاوضات المرتقبة مع بغداد. وذكرت الصحيفة أن الحزب يرى في خيار حلّ البرلمان وسيلة للذهاب إلى المفاوضات الاتحادية من موقع أكثر قوة، خاصة أن منصبي رئاسة الإقليم ورئاسة الحكومة لا يزالان بيد الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني.
وبحسب النظام الداخلي لبرلمان إقليم كردستان، يتعيّن على رئيس الإقليم توجيه الدعوة لانعقاد الجلسة الأولى للبرلمان خلال مدة لا تتجاوز عشرة أيام من تاريخ المصادقة على نتائج الانتخابات. وفي حال عدم توجيه الدعوة خلال هذه المدة، يحق لأعضاء البرلمان عقد الجلسة في اليوم الحادي عشر، على أن يترأسها العضو الأكبر سنا إلى حين انتخاب رئيس للمجلس.
وفي هذا الإطار، نقلت الصحيفة عن ريبين سلام، عضو الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني، قوله: إن حزبه “تعرّض للمساومة والابتزاز من قبل الشركاء في الإقليم، وفي مقدمتهم الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة بافل الطالباني”. ويرى أن هذه الممارسات كانت السبب الرئيس في تأخر تشكيل حكومة الإقليم.
وأكد سلام أن “برلمان كردستان هو خيار الشعب وصوته الحقيقي، ومن الواجب احترام هذه الإرادة عبر عقد جلسات البرلمان، والمضي في تشكيل حكومة جديدة وفق الاستحقاقات الانتخابية التي أفرزتها صناديق الاقتراع”.
وأشار إلى أن حزبه “ما زال حتى الآن يطالب بعودة المفاوضات، ولكن على أساس احترام خيار الأغلبية”. موضحًا أن خيار حلّ البرلمان لم يُتخذ بعد، لكنه يبقى مطروحًا على الطاولة في حال استمرار حالة الانسداد السياسي، وعدم التوصل إلى تفاهمات تفضي إلى تشكيل الحكومة، ما قد يدفع باتجاه الذهاب إلى انتخابات مبكرة.
وكان برلمان إقليم كردستان، في دورته السادسة، قد عقد جلسته الأولى مطلع ديسمبر/كانون الأول 2024، والتي خُصصت لأداء اليمين القانونية من قبل أعضائه، قبل أن تُترك الجلسة مفتوحة بسبب الخلافات حول حسم المناصب الرئيسة في الإقليم، وعلى رأسها رئاسة البرلمان وتشكيل الحكومة.
وأسفرت انتخابات برلمان الإقليم عن تقدم الحزب الديمقراطي الكردستاني بحصوله على 39 مقعدًا من أصل 100 مقعد، في حين حلّ الاتحاد الوطني ثانيًا بـ23 مقعدًا، وجاءت حركة الجيل الجديد في المرتبة الثالثة بـ15 مقعدًا، فيما توزعت المقاعد المتبقية على بقية القوى والأحزاب السياسية بنسب متفاوتة.
أما على المستوى الاتحادي فقد أفرزت نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية التي جرت في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، فوز الحزب الديمقراطي الكردستاني بنحو 30 مقعدًا، مقابل 18 مقعدًا فقط للاتحاد الوطني الكردستاني، وهو ما عزز موقع الحزب الديمقراطي بوصفه صاحب الأغلبية الكردية داخل البرلمان العراقي، وأعاد خلط الأوراق في مشهد التفاوض السياسي بين أربيل وبغداد.

سيناريو جديد
في المقابل، كشف النائب السابق عن الاتحاد الوطني الكردستاني، شيروان ميرزا، عن استئناف الاجتماعات بين الحزبين الكرديين الرئيسين في 16 ديسمبر/كانون الأول، في محاولة لحسم ملفات تقاسم المناصب في إقليم كردستان وبغداد ضمن سلة واحدة، بما يشمل تشكيل حكومة الإقليم، وتوزيع منصب رئيس جمهورية العراق، إضافة إلى الحقائب الوزارية المخصصة للمكوّن الكردي في الحكومة الاتحادية.
وأكد ميرزا، في حديثه لـ“الاستقلال”، أن “تأخر تشكيل حكومة إقليم كردستان لم يكن بلا أسباب، بل يعود إلى وجود عقبات حقيقية ينبغي معالجتها، وإلا لما استمر هذا التأخير طوال هذه المدة”. مضيفًا أن “هناك اليوم قناعة لدى الطرفين بضرورة حلّ هذه الإشكالات، وعدم المضي في سياسة التأجيل إلى ما لا نهاية”.
وأعرب ميرزا عن اعتقاده بوجود سيناريو جديد قد يفضي إلى التوصل لاتفاق شامل يحسم مناصب الإقليم وبغداد في آن واحد. مشيرًا إلى أن هناك محاولات جدية لتقريب وجهات النظر بين الحزبين، وتجاوز آثار الخطابات المتشنجة التي سادت خلال مرحلة الحملات الانتخابية للانتخابات البرلمانية العراقية.
وفي السياق ذاته، أكدت صحيفة “العالم الجديد” العراقية أن استئناف الاجتماعات بين الحزبين جاء نتيجة ضغوط دولية، وتحديدًا من الولايات المتحدة الأميركية، دفعت الحزبين الكرديين إلى إعادة تفعيل اجتماعات اللجنة التفاوضية، بعد فترة من التوقف شبه التام بسبب عمق الخلافات السياسية بينهما.
وأشارت الصحيفة إلى أن الحزب الديمقراطي الكردستاني أبدى مرونة ملحوظة في ملف رئاسة الجمهورية، عقب الضغوط الأميركية، معربًا عن استعداده للتنازل عن المنصب، مقابل الإسراع في تشكيل حكومة إقليم كردستان. وفقًا لشروطه ومطالبه السياسية.
وذكرت أن الاجتماع يُعقد على مستوى اللجنة التفاوضية المشتركة بين الحزبين، برئاسة هوشيار زيباري عن الحزب الديمقراطي الكردستاني، وقوباد الطالباني عن الاتحاد الوطني الكردستاني، بهدف التوصل إلى تفاهم بشأن اختيار رئيس الجمهورية، وتشكيل وفد كردي موحّد يتوجه إلى بغداد للتفاوض مع القوى السياسية العراقية الأخرى.
ومنذ تثبيت معادلة تقاسم السلطة في العراق بعد عام 2003، ترسّخ عرف سياسي يقضي بأن يكون منصب رئاسة الجمهورية من حصة الأكراد، وأن يذهب في الغالب إلى شخصية من الاتحاد الوطني الكردستاني. ومع مرور الوقت، شكّل هذا الترتيب رصيدًا سياسيًا ورمزيًا للاتحاد الوطني في بغداد، وأسهم في ترسيخ توازن دقيق بين القوتين الكرديتين الرئيستين داخل إقليم كردستان.
غير أن صعود الحزب الديمقراطي الكردستاني في الانتخابات الأخيرة، وتحوله إلى القوة الكردية الأولى بفارق مريح عن منافسيه، دفع قياداته إلى إعادة طرح مطلب الحصول على منصب رئاسة الجمهورية، انطلاقًا من كونه الحزب صاحب الكتلة الأكبر، والأوسع تمثيلًا للشارع الكردي.
ولا ينفصل هذا الجدل عن واقع سياسي معقد تعيشه كل من أربيل والسليمانية؛ إذ يتزامن الصراع على أعلى منصب سيادي في الدولة الاتحادية مع استمرار تعطّل تشكيل حكومة إقليم كردستان، وعدم انتخاب رئيس لبرلمان الإقليم، ما يضع الأكراد في موقف تفاوضي بالغ الحساسية، حيث يسعون لحسم موقع رئاسة الجمهورية في بغداد، بينما يعاني بيتهم السياسي الداخلي من حالة انقسام وعدم استقرار.

جولة حساسة
على صعيد تداعيات الخلاف المتفاقم بين الحزبين الكرديين الرئيسين، أكدت وسائل إعلام عراقية وكردية أن البيت الكردي يدخل واحدة من أكثر جولاته السياسية حساسية منذ عام 2003، وهو في حالة غير مسبوقة من الانقسام والضعف الداخلي، ما أعاد إلى الواجهة مجددًا “شبح تسعينيات القرن الماضي” بكل ما يحمله من دلالات سياسية واقتصادية واجتماعية.
وبحسب ما أوردته وكالة “شفق نيوز” في تقرير نشرته بتاريخ 9 ديسمبر/كانون الأول، فإن المشهد الراهن في إقليم كردستان العراق لم يعد يقتصر على أزمة سياسية بين حزبين متنافسين، بل بات يعكس شبكة معقدة من الاختناقات تمتد من غرف التفاهمات المغلقة بين القيادات السياسية، وصولًا إلى طوابير الموظفين والمتقاعدين أمام المصارف بانتظار رواتبهم المتأخرة.
وأشارت الوكالة إلى أن الانقسام الكردي الذي تعمّق منذ تسعينيات القرن الماضي، تحوّل مع مرور الزمن إلى خلل بنيوي مزمن، لا يلبث أن ينعكس اقتصاديًا واجتماعيًا مع كل أزمة سياسية جديدة، ما يجعل الأكراد يخوضون واحدة من أكثر المراحل خطورة منذ عام 2003، وهم في أضعف حالاتهم من حيث التماسك الداخلي ووحدة القرار.
وفي موازاة ذلك، ينظر الأكاديمي الكردي أرسلان محمد إلى المشهد من زاوية مؤسساتية أوسع، محذرًا من أن تعطّل ترتيبات الحكم داخل إقليم كردستان ينعكس تلقائيًا وبصورة مباشرة على قدرة الأكراد التفاوضية مع الحكومة الاتحادية في بغداد.
ووصف محمد، وفق ما نقلته وكالة “شفق نيوز”، مرور أكثر من عام على انتخابات برلمان إقليم كردستان دون تشكيل حكومة جديدة أو انتخاب الرئاسات الأساسية في الإقليم، بأنه ليس تعثرًا عابرًا أو أزمة مؤقتة، بل يمثل قصورًا سياسيًا بنيويًا، يمتد تأثيره إلى طاولة المفاوضات مع بغداد، ويضعف الموقف الكردي في الملفات الإستراتيجية.
وأكد الخبير الكردي أن القوى السياسية التي تعجز عن ترتيب بيتها الداخلي، تجد نفسها في موقع تفاوضي أضعف عندما تطالب بحقوق تتعلق برواتب الموظفين، وحصة الإقليم من الموازنات الاتحادية، وتطبيق المادة 140 من الدستور، وغيرها من الملفات الخلافية التي تتطلب خطابًا كرديًا موحدًا وموقفًا سياسيًا متماسكًا.
وحذر محمد من أن غياب الرؤية المشتركة لا يهدد فقط مسار الرواتب والموازنات، بل يمتد اليوم ليطال موقع الأكراد في معادلة الرئاسات الثلاث على مستوى الدولة العراقية، لا سيما في ظل الخلاف العلني بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني حول أحقية كل منهما في منصب رئاسة الجمهورية.
وخلص الأكاديمي الكردي إلى أن “المواطن الكردي هو من يدفع الثمن أولًا”، في ظل أزمة رواتب مستمرة، واختناقات اقتصادية متراكمة، وخدمات متعثرة، تجعل الصراع على المناصب السيادية في بغداد يبدو منفصلًا عن الضغوط اليومية القاسية التي يعيشها الشارع الكردي.
ويأتي تصاعد المخاوف من تكرار تجربة تسعينيات القرن العشرين، في ظل ما شهدته تلك المرحلة من حروب داخلية دامية بين الحزبين الكرديين الرئيسين، عقب إعلان السلطات العراقية عام 1991 منح مناطق شمال العراق، ذات الغالبية الكردية، حكمًا ذاتيًا في أعقاب حرب الخليج الثانية.
وفي عام 1992، انتخب الأكراد أول برلمان لهم وشكّلوا حكومة إقليمية، غير أن مؤسسات إقليم كردستان العراق دخلت حالة من الشلل شبه التام بين عامي 1994 و1998، نتيجة نزاع مسلح عنيف بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني.
وأفضت تلك الصراعات إلى نشوء سلطتين إداريتين منفصلتين داخل الإقليم، الأولى في أربيل ودهوك بقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني، والثانية في السليمانية بإدارة الاتحاد الوطني الكردستاني، ما عمّق الانقسام السياسي والجغرافي والاجتماعي في الإقليم.
ومع الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، ساند الحزبان الكرديان القوات الأميركية في مسعاها لإسقاط نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، قبل أن يعلنا لاحقًا تشكيل إدارة موحدة تحت مسمى إقليم كردستان العراق، وفقًا للدستور العراقي الجديد الذي صُودق عليه عام 2005، على أن تكون أربيل عاصمة للإقليم.
المصادر
- برلمان كردستان يواجه الحل.. والديمقراطي يعدّه خطوة أخيرة لتجاوز «الابتزاز»
- انفراجة سياسية.. الحزبان الكرديان يعودان للمفاوضات مجددا بضغط أمريكي
- انقسام كوردي يربك الحسابات ويعيد أشباح التسعينيات إلى الواجهة
- السليمانية وأربيل.. عنوان أزمة تتصاعد بكردستان العراق وتهدد بتقسيم الإقليم
- اقليم كردستان العراق يحظى بحكم ذاتي منذ 1991














