الإسلام والمسيحية والشواذ.. هل يحسم بابا الفاتيكان الجديد معارك الكنيسة؟

“البابا الجديد ينتظر جملة من التحديات الداخلية والخارجية”
رغم أن الراحل بابا الفاتيكان فرانسيس الأول، يُحسب له أنه من أكثر الباباوات انتقادا لمجازر إسرائيل في فلسطين، وتقاربه مع العالم الإسلامي، إلا أن وفاته في 21 أبريل/نيسان 2025، ربما تُدخل الكنيسة الكاثوليكية في صراع حول توجهاته، يُتوقع أن يحسمه البابا الجديد.
فقد اشتهر البابا الراحل بتساهله في قضايا عقدية تتعلق بالتسامح مع الشواذ، والمطلقات، ما أثار خلافات كان يتحكم فيها، ويتوقع عودة الجدل حولها بعد وفاته، مع تولي "الجديد" رئاسة الفاتيكان.
أيضا حرص فرانسيس على علاقة جيدة مع العالم الإسلامي وشجع حوار الأديان، ما خلق صداقة بينه وبين شيخ الأزهر، أحمد الطيب، الذي نعى، في بيان للمشيخة يوم وفاته، "أخاه في الإنسانية"، وأشاد بآرائه "تجاه العدوان على غزة والتصدي للإسلاموفوبيا المقيتة".
لكن هناك مخاوف من تجدد الصراع الذي كان يقوده باباوات سابقون، مع العالم الإسلامي، حال تولي بابا جديد معاد للإسلام.
لذا يتوقع أن تكون أبرز القضايا الشائكة، و"معارك الكنيسة" القادمة، التي سيواجهها البابا الجديد، خاصة بعلاقته مع العالم الإسلامي، وهل يتبع سياسية فرانسيس بالتقارب أم التباعد؟.
وكذا، تفجر قضية الشذوذ والشواذ مجددا بقوة في أروقة الكنيسة الكاثوليكية في روما، إضافة للسعي إلى معالجة أسباب تراجع الكنيسة في الغرب خصوصا والعزوف عنها.
فهل يتسرب دخان خلافات الكرادلة حول سياسات فرانسيس الدينية، مع الدخان الأبيض الذي سيخرج من مدخنة البابوية، ليعلن عن اسم الحبر الأعظم الجديد.
صراع “الكونكلاف”
تمثل وفاة البابا فرانسيس، الذي انتُخب في مارس/آذار 2013، ليكون البابا رقم 266، نهاية حقبة للكنيسة الكاثوليكية، وتمهد الطريق لأحد أكثر الأحداث غموضا وسرية في تاريخ الكنيسة، وهو انتخاب بابا جديد.
فبعد وفاة رئيس الفاتيكان، تبدأ طقوس تجمع 252 كاردينالا من كل العالم الكاثوليكي، في "الكونكلاف" (Conclave) أو "المجلس" أو "المجمع المغلق"، بمن لهم حق التصويت (كانوا 135 وأصبحوا 120)، لاختيار البابا رقم 267.
يتم عزلهم، وسط عالم غامض سري، وصفته أفلام، أشهرها فيلمي"conclave" و"the tow popes" بـ"ساحة مؤامرات وتربيطات"، حتى يختاروا البابا الجديد، وفق مجلة "يو إس إيه توداي" الأميركية في 21 أبريل 2025.
وينعقد "الكونكلاف البابوي" في غضون 15 إلى 20 يوما من الوفاة، وفيه يجتمع الكرادلة المؤهلون (تحت سن الثمانين) داخل كنيسة سيستين، لاختيار واحد منهم يقود الفاتيكان.
ويُجرى التصويت بسرية تامة وبحد أقصى أربع جولات يوميا، ويُشترط حصول المرشح على ثلثي الأصوات لإعلانه بابا جديدا، وفقا للقواعد الانتخابية.
وشهدت فترة حبرية البابا فرانسيس، صراعات مع مجموعة كبيرة من الكرادلة لأنه قادم مما يُسمى "الجنوب العالمي"، وقام بتمزيق كتاب القواعد القديم (غير المكتوب) الذي جعل لأساقفة إيطاليا وأوروبا والولايات المتحدة نفوذا كبيرا.
فقد اتخذ هؤلاء المعارضون لسياساته الدينية، خطوات تحدوا بها البابا علنا لأنه سمح بـ"التناول" للكاثوليك المطلقين، والمتزوجين مرة أخرى، بينما الطلاق مُحرم في الكاثوليكية، ولا يعترف القانون الكنسي به.
ودفع هذا مجموعة من رجال الدين المحافظين إلى اتهام البابا بـ"الهرطقة"، في سبتمبر/ أيلول 2017، ونُشرت مذكرات، مجهولة المصدر، من كرادلة مجهولين، انتقدوا فيها فرانسيس بشدة، بحسب صحيفة "الغارديان" البريطانية في 22 أبريل 2025.
"الرسالة الأولى" جاءت تحت اسم مستعار "ديموس"، وتبين لاحقا أنها من تأليف الكاردينال الأسترالي جورج بيل، الذي عينه فرانسيس أمينا لخزانة الفاتيكان، وفق شبكة "سي إن إن" في 23 أبريل 2025، وتضمنت انتقادا حادا لفرانسيس.
واتهمت "الرسالة الثانية"، باسم "ديموس الثاني"، البابا الراحل بالحكم الاستبدادي، وقالت: إن على البابا القادم العمل على "استعادة الحقائق التي طُمست أو فُقدت تدريجيا بين كثير من المسيحيين، وإعادة ترسيخها".
أيضا اتهم كهنة وعلماء بارزون البابا السابق بتهمة "البدعة" في رسالة مفتوحة من 20 صفحة، عام 2019، وقعوا عليها.
لذا رجحت صحيفة “الغارديان”، أن يكون هناك صراع على السلطة في الفاتيكان، "وقد يخرج بابا مضاد لفرانسيس" من المجمع (الكونكلاف)، وفق تعبيرها.
وأوضحت أن وفاة البابا ستسلط الضوء بشكل واضح على الصراع الداخلي على السلطة، والذي كان سمة مميزة لبابويته، متوقعة "معركة شرسة من أجل مستقبل الكنيسة داخل كنيسة سيستين".
وهناك قوى كثيرة في الكنيسة تسعى للتأثير على التصويت، وكثير منها يتمتع بتمويل جيد وتنظيم جيد، وله علاقات بالولايات المتحدة، بحسب شبكة "سي إن إن".
والأسماء البارزة المطروحة لخلافة فرانسيس، وفق صحف غربية، تشمل الكاردينال بيترو بارولين (إيطاليا)، سكرتير الدولة الفاتيكانية، والكاردينال لويس أنطونيو تاغلي (الفلبين)، مسؤول العلاقات التبشيرية.
والكاردينال ماتيو زوبي (إيطاليا)، رئيس أساقفة بولونيا، والكاردينال روبرت سارا (غينيا)، المحافظ السابق لمجمع العبادة الإلهية، و"بيتر توركسون"، من غانا، مسؤول دوائر العدالة الاجتماعية بالكنيسة.
وكذا الكاردينال بيتر إردو، وهو من أشد المدافعين عن التعاليم والعقائد الكاثوليكية التقليدية والأرثوذكسية اللاهوتية، ومن الساعين لإلغاء إرث فرانسيس، والعودة إلى النهج المحافظ الذي انتهجه البابا يوحنا بولس الثاني والبابا بنديكتوس السادس عشر.
والكاردينال "مارك أويليت"، والذي طُرح مرتين من قبل كمرشح لمنصب البابا، عامي 2005 و2013، وكان لسنوات عديدة مسؤولا عن إدارة مجمع الأساقفة في الفاتيكان، الذي يختار المرشحين لمنصب الأساقفة في العالم.
ولقرون، هيمن الإيطاليون على البابوية، قبل أن يبدأ اختيار غير الإيطاليين في سنوات لاحقه، فمن بين 266 بابا حتى الآن، كان هناك 217 إيطاليا.
قنبلة موقوتة
ينتظر البابا الجديد جملة من التحديات الداخلية والخارجية، بدءا باستكمال إصلاحات الكنيسة التي أطلقها سلفه، والتي أدى بعضها، مثل الاعتراف بالشذوذ، والطلاق، مرورا بإدارة القضايا الأخلاقية والمالية.
والأهم تعزيز حضور الكنيسة في العالم وأوروبا في ظل العزوف عنها، وتراجع الإيمان بالمسيحية، بسبب فضائح القساوسة وانتشار اللادينية في الغرب.
ومع أن فرانسيس عين العديد من الكرادلة الذين سيصوتون في المجمع للبابا الجديد، إلا أن كثيرا منهم عارض الاعتراف بالشواذ، حسبما يوضح مؤرخ الجامعة الكاثوليكية الأسترالية، داريوس فون جوتنر سبورزينسكي، في مقال بموقع "كونفرزيشن" الأميركي في 23 أبريل 2025.
وذكر أنهم "ينحدرون من مجتمعات ذات قيم تقليدية، وقد ينجذبون إلى مرشح يُشدد على تعاليم الكنيسة القديمة"، ومن ثم يرفض كل "إصلاحات" البابا الراحل، ما يعني أن قضية الشذوذ قد تنفجر مجددا ويجري التراجع عنها.
فقد وافق بابا روما الراحل فرانسيس رسميا في 18 ديسمبر/كانون الأول 2023 على السماح للكهنة بمباركة الأزواج الشواذ، وهو ما كان يرفضه سابقا ويقول “استحالة أن يبارك الرب الخطيئة”، وقال الفاتيكان حينها هذا "حكم تاريخي".
وفي 8 أبريل 2024 نشرت قيادة الفاتيكان نصا جديدا قالت إنه مخصص لاحترام "الكرامة البشرية" تحمل عنوان "كرامة لانهائية" (Dignitas infinita)، أقرت فيه رسميا الشذوذ وزواج الشواذ.
وكان لافتا أن الوثيقة تسترت خلف قيم أخلاقية عامة لتبرير موافقة الكنيسة على قبول الشواذ، وزواجهم في كنائسها، ما انعكس على سخرية نشطاء من البابا.
أيضا أثارت الكنيسة الكاثوليكية في إيطاليا جدلا عندما نشرت في 10 يناير/كانون الثاني 2025 وثيقة بشأن "الهوية الجنسية للكهنة"، فُهمت على أنها تعني السماح للكهنة الشواذ بالعمل قساوسة في الكنائس.
وأصدر "مؤتمر الأساقفة الإيطاليين" ما سُمي "إرشادات مستحدثة" يقبلون فيه ضمنا الشواذ كأساقفة، كما قالت صحف إيطالية.
وقد اصطدم جيرهارد لودفيج مولر، الكاردينال الألماني الذي عينه فرانسيس، مع البابا الراحل في العديد من القضايا، بما في ذلك انتقاد المرسوم الذي يسمح بمباركة الأزواج الشواذ بصفته "بدعة"، بحسب صحيفة "الغارديان" في 22 أبريل.
ويرجح مؤرخون كاثوليك أن يحاول الكرادلة خلال تصويتهم على البابا الجديد اختيار شخص وسط، حتى لا تتفجر الخلافات داخل الكنيسة التي كان فرانسيس يمنع انفجارها.
ويرون أن الكاردينال بيترو بارولين (إيطاليا)، سكرتير الدولة الفاتيكانية، مرشح مناسب كبابا لفترة هدوء، ومحاولة حل الخلافات بين أنصار التحرر لحد الاعتراف بحقوق الشواذ، أو الاستمرار على تعاليم الكنيسة القديمة بعدم الاعتراف بهم.
وترى صحف غربية أن الكاردينال لويس أنطونيو تاجلي المرشح الأوفر حظا ليكون بابا جديدا، ولو فاز فسيواصل طريق فرانسيس وأجندته "التقدمية"، أي السماح بنفس سياسات "الإصلاح" وقبول مجتمع الشواذ.
وتقول صحيفة "لوموند" الفرنسية، في 22 أبريل 2025، إن مسائل مثل العنف الجنسي والشذوذ والعدوان على غزة، ستكون من القضايا الرئيسة التي تنتظر على مكتب البابا القادم.
وأشارت إلى أن من "القضايا التالية" التي سيتعين على الكرادلة مناقشتها ضمن قضايا الكنيسة، وهم ينتخبون بابا جديد "التحديات" التي تواجه الكنيسة مستقبلا.
ثم سيتعين على البابا الجديد أن يتعامل مع الملفات الكبرى، ومن أبرزها، ملف العنف الجنسي والشذوذ داخل الكنيسة، وفق "لوموند".
وهو الملف الحساس الذي دفع البابا الراحل لإلزام الكهنة بالتبليغ عن الانتهاكات الجنسية إلى روما، وإنشاء نظام لتلقي البلاغات، رغم رفض كنائس فضحها واعتبار هذا الموضوع من المحرمات.
وكانت الخلافات خلال سنوات تولي البابا فرانسيس الـ12 حول قضايا الصراع بين التقدميين والمحافظين في قضايا مثل القداس بالطقس القديم أو الحديث والأخلاق، وقبول الشواذ، قد خلق انقسامات داخل صفوف الفاتيكان ما أثر على وحدة الكنيسة.
أفول الكنيسة
بخلاف ملفات القبول بالشواذ، هناك قلق في الفاتيكان من تراجع دور الكنيسة في الغرب وعزوف الناس عنها، خاصة أن السنوات الأخيرة شهدت تركيزا على إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.
وقلق أكبر من رفض كثير من المسيحيين الكاثوليك الانخراط في الكهنوت أو المعمودية ما قلص عدد القساوسة أو جاء بشخصيات منحرفة تقوم بممارسات منافية للآداب وجرائم جنسية مع رواد الكنيسة.
وتشير تقارير كنسية وصحف غربية إلى أن هذه المشكلة، بجانب تراجع الإيمان بالمسيحية، وتقلص الحضور في الكنائس، وانخفاض عدد من يرغبون في العمل في الكهنوت، ستكون على رأس أولويات البابا الجديد.
وقد أشارت لهذا العزوف عن الكنيسة صحيفة "لوموند"، التي أوضحت أنه في ألمانيا، على سبيل المثال، غادر أكثر من نصف مليون شخص الكنيسة عام 2022 وتخلو عن المسيحية فعليا.
أما في فرنسا، فرغم زيادة عدد المعموديات بين البالغين، فإنها لا تعوض التراجع العام في عدد المعموديات، لأن المجتمع أصبح أكثر علمانية.
لذا سيتعين على الكرادلة والبابا المقبل إيجاد وسيلة لإعادة جذب الغربيين إلى الكاثوليكية، وهو ما بدا أن البابا فرانسيس قد أهمله أحيانا، وفق الصحيفة الفرنسية.
ويشير موقع "فوكس" في 21 أبريل 2025 إلى أن أحد تحديات البابوية القادمة، هي تراجع المسيحية في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية.
وأوضح أنه في أميركا اللاتينية وآسيا وإفريقيا (الجنوب العالمي)، تنمو المسيحية، بسبب ارتفاع معدلات المواليد والتحولات، والتقديرات تُبين أنه بحلول عام 2050، سيعيش 78 بالمئة من مسيحيي العالم في هذا "الجنوب العالمي".
وتشير تقارير الفاتيكان إلى أنه بحلول عام 2050، سيعيش 40 بالمئة من مسيحيي العالم في إفريقيا، وأن مستقبل الكنيسة الكاثوليكية في القارة الإفريقية، في حين سيندثر في أوروبا، وفق موقع "فوكس".
واشتهر تاريخ الفاتيكان في مراحل الباباوات المتشددين المحافظين بالصدام مع الإسلام والمسلمين، وحدث العكس حين تولى إصلاحيون مثل البابا فرانسيس.
فقد قام سلفه بنديكتوس السادس عشر، الذي استقال عام 2013، بالدخول في صراع مع العالم الإسلامي، وأهان العقيدة الإسلامية، وأساء للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وحاول فرانسيس تعويض ذلك بتشجيع حوار الأديان.
وفي ظل احتمالات تولي بابا جديد محافظ، وتراجع العلاقة مع العالم الإسلامي، تثار مخاوف من عودة الصراعات الدينية، خاصة أن الفاتيكان لا يزال يرفض إدانة الحروب الصليبية والاعتذار للمسلمين، مع أنه اعتذر لليهود.
ولو جاء شخص مثل الأسقف أثناسيوس شنايدر مكان فرانسيس قد نرى صراعا مع العالم الإسلامي، لأنه ممن يزعمون أن “الإسلام يغزو أوروبا ويجب عدم جعل أوروبا قارة مسلمة”.
ويدعو هذا الكاردينال لطرد اللاجئين بزعم أنهم "ليسوا لاجئين وإنما غزو لأسلمة جماعية لأوروبا" وفق زعمه، بسبب القلق من العزوف عن الكنيسة الغربية وتزايد دخول أوروبيين في الإسلام، وإن كانت فرص فوزه ضعيفة.
المصادر
- The key issues waiting on the next pope's desk
- Vatican power struggle: will an ‘anti-Francis’ pope emerge from conclave
- Cardinals prepare to battle over the future direction of the Catholic Church
- Pope Francis dies: How close does 'Conclave' get to the real election of a new pope?
- Who will the next pope be? Here are some top contenders
- Pope Francis is dead. The Church must now confront an uncomfortable truth.