بعد عقود من التضييق.. هكذا أصبح رمضان سلطان الشهور في تركيا

8 months ago

12

طباعة

مشاركة

مع حلول شهر رمضان المبارك، الذي بدأ في 11 مارس/آذار 2024، يتذكر الأتراك زمنا مضى نشرت فيه صحيفة تركية، تعود إلى عقود سابقة، خبرا يتناول اعتقال 63 منتسبا، إلى إحدى الطرق الصوفية في إسطنبول، بتهمة "إحياء ليلة القدر". 

كانوا وقتها يؤدون تلك الطقوس بشكل سري، بحسب ما أوردت الصحيفة، التي صورتهم كمجموعة من المجرمين الخارجين على القانون.

الصورة توضح كيف كانت الدولة تتعامل في ذلك الوقت مع الشعائر الدينية، وتحرم مظاهر العبادات الإسلامية بشكل قاطع، خاصة في رمضان.


 

ولكن اليوم وبعد مرحلة صعبة من التحولات، تهب رياح رمضان على ضفاف مضيق البسفور الذي يقسم مدينة إسطنبول التركية العريقة إلى قسمين، جانب أوروبي وآخر أسيوي، وتتلألأ قباب المساجد وتتزين مآذنها استعدادا لاستقبال الشهر الكريم. 

ومن كلا الجانبين تستطيع أن ترى "المحيا" معلقا على مسجد "تشامليجا" الذي يقع فوق تلة عالية تسمى "بيوك تشامليجا تاباسيه"، وتعرف بتلة العرائس في منطقة أُسكودار ما يتيح رؤيته من مختلف أنحاء المدينة.

 وهو ما أكده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عشية افتتاح المسجد عام 2019 عندما قال "بني بهدف أن يكون ظاهرا من جميع أنحاء إسطنبول".

أما المحيا المعلقة على جنباته فهي تقليد عثماني بدأ للمرة الأولى في عهد السلطان أحمد الأول، حيث علقها على المسجد الأزرق (السلطان أحمد) في إسطنبول، وتم الحفاظ عليها كتقليد عثماني منذ ذلك الحين.

وتتكون لافتات "المحيا" عادة من عبارات أو كلمات دينية وأخلاقية مكتوبة بالأضواء، وتعلق بين مآذن المساجد، وتبقى طوال شهر رمضان.

ومن أشهر الكلمات التي يتم استخدامها في ذلك التقليد "أهلا يا شهر رمضان" أو كما باللغة التركية "hoşgeldin ya şehri ramazan".

سيد الشهور

رمضان هو سيد أو سلطان الشهور في تركيا، وله طقوس خاصة في هذا البلد المسلم، حيث تتشابك الثقافة والتقاليد مع التاريخ العتيق.

وتمتزج الأجواء الإيمانية والروحانيات مع الفعاليات الاجتماعية، كما تكثر الصدقات والهبات والتكافل بشكل أكبر.

ويولي الأتراك رمضان اهتماما كبيرا لدرجة أنهم يستعدون له منذ النصف الثاني من شهر شعبان، حيث تجد حركة لافتة في الأسواق.

ويبدأ الناس في شراء المؤن والمعدات الخاصة بالأطباق الرمضانية، أما على مستوى الدولة فتعمل البلديات ووزارة الأوقاف التركية على تقديم خدمات وبرامج خاصة بالشهر الفضيل.

فالمساجد تتزين ويتم تنظيفها بماء الورد والعطور منذ شهر شعبان، ومع حلول رمضان يتم فرشها بأنواع جديدة من السجاد.

وتستمر هذه الحركة الديناميكية التي تشعرك بأن ضيفا عزيزا على وشك الوصول، فتقام التراويح بعد صلاة العشاء في المساجد.

ومن اللافت أن المساجد في تركيا خلال شهر رمضان تشهد توافدا مميزا للمصلين أكثر مما هو عليه الحال في باقي الأوقات.

وتضم إسطنبول مساجد تاريخية عديدة، حتى إن زائرها يندهش من كم المآذن التي يراها أثناء هبوط طائرته في مطارها.

ومن أبرزها مساجد "الفاتح" و"آيا صوفيا" و"أيوب سلطان" و"السلطان أحمد" و"السليمانية" و"تشامليجا"، وجميعها في مدينة إسطنبول. 

عبادات وفعاليات

ومن الظواهر التي استجدت على إسطنبول في السنوات الأخيرة، وجود مساجد تختم القرآن مرة واحدة خلال صلاة التراويح على مدار رمضان. 

وكانت العادة الدارجة أن التراويح تقام في سائر مساجد المدينة بـ 23 ركعة، تتضمن قصار السور والآيات.

لكن حاليا تنشر قائمة مع حلول رمضان بأبرز المساجد التي تقرأ بجزء واحد كل ليلة، ليتم ختم القرآن في نهاية الشهر.

ومن أشهر تلك المساجد، جامع  "محمد عاكف إرسوي" في مقاطعة "باشاك شاهير"، ومسجد "كارا داوود باشا" في أوسكودار، ومسجد "أرباجي خير الدين" في منطقة أيوب، إضافة إلى جامع "الفتح" بمنطقة أفجيلار. 

وبعد الإفطار وصلاة التراويح، جرت العادة في إسطنبول أن تشهد ساحات المساجد الكبيرة دروسا وعظات دينية، يلقيها خطباء وعلماء الدولة.

إضافة إلى إقامة حفلات لمنشدين دينين معروفين في المساء يحضرها الآلاف.

وتقيم البلديات الفرعية في المدينة فعاليات دينية وثقافية وتربوية، بينها فعاليات للأطفال، يقبل عليها كثير من الناس، إضافة إلى إقامة عروض مسرحية في مناطق متفرقة.

وهناك فعالية تستهوي قلوب الأتراك خاصة الأطفال وتأخذهم نحو عالم بعيد، وهي الحوار الطريف الذي يدور بين شخصيتي "كراكوز وحجي وات" (Karagöz ve Hacivat)، أو كراكوز وعيواظ كما يعرفها العرب. 

وهو تقليد قديم يرجع لأيام العثمانيين، وفن يعرف بخيال الستار، يدور بين كراكوز الشخصية المضحكة، وحجي وات صاحب المعرفة الذي يصوب معلومات الأول دائما، ضمن حوار سلس ممتع.

إحياء التراث 

ومن العادات التي جرى إحياؤها في العقود الأخيرة هي الإقبال في هذا الشهر على الاستماع لقراءة القرآن بشكل يومي من قصر "توب كابي"، الباب العالي سابقا، والذي كان يعد مركز حكم السلاطين العثمانيين.

وتتواصل القراءة في هذا القصر دون انقطاع في ليل أو نهار ويستمر الأمر على هذا المنوال طيلة أيام رمضان. 

ومن الأمور التي يحرص عليها الأتراك ويختصون بها، إقامتهم لـ "صلاة التسابيح" وهم يؤدونها في الأيام الأخيرة من رمضان، أو ليلة العيد، وفي ليلة القدر يقرؤون القرآن، ويؤدون المدائح النبوية.

كما يستعد الشعب التركي بداية من يوم 15 رمضان، لدخول جامع الخرقة الشريفة في مدينة إسطنبول.

ويقال إن فيه مكانا يحتفظ بداخله بالخرقة النبوية التي أحضرها السلطان سليم لإسطنبول بعد فتوحاته في الشرق الإسلامي عام 1516، ولا يسمح في أيام السنة العادية بزيارة ذلك المكان.

ويتدفق أكثر من مليون تركي من مختلف الولايات على جامع "الخرقة الشريفة" بمنطقة الفاتح في إسطنبول لرؤية "البردة" التي يقال إن النبي محمد عليه الصلاة والسلام كان يرتديها ليلة الإسراء والمعراج.

واستحضارا للتاريخ، وكدأب الأتراك القدماء مع أول أيام رمضان، يتم إطلاق المدافع الرمضانية وسط إسطنبول مع حلول أذان المغرب.

ويتولى الجيش التركي مسؤولية إطلاق المدافع الرمضانية، إيذانا بحلول موعدي الإمساك والإفطار.

ومع الحفاظ على الموروث العثماني، بات المدفع الرمضاني من أبرز مظاهر شهر الصيام في المدينة العثمانية العريقة، ويحرص المواطنون على حضور ومتابعة الحدث بشكل مستمر.

صيام العصافير

وفي السنوات الأخيرة، بدأت بعض البلديات في إسطنبول، خاصة بلدية "أيوب" التي تضم قبر الصحابي الجليل "أبو أيوب الأنصاري"، إحياء تقليد عثماني قديم يسمى "صيام العصافير". 

وتستهدف المبادرة الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين أربع وثماني سنوات، إذ يتجمعون مع حلول أذان الظهر في ميادين البلديات للإفطار بعد صيامهم ساعات قليلة، وسط أجواء احتفالية تشجيعية.

وللأطفال وضعية خاصة في رمضان، حيث تطلق رئاسة الشؤون الدينية التركية كل عام، حملة تعليم وتحفيظ القرآن في المساجد التركية كاف، وذلك تحت شعار "هيا يا أطفال وشباب تركيا لنلتقي بالقرآن في مساجدنا"، حيث يتم تعليمهم القرآن والأحاديث النبوية الشريفة والأخلاق الإسلامية.

وأكثر من ذلك أن الأطفال أنفسهم يطلقون مبادرات خلال رمضان، كما حدث في 11 مارس/ آذار 2024، عندما تبرع أطفال في مركز تحفيظ القرآن الكريم في ولاية قرق قلعة، وسط تركيا، بمساعدات عينية ونقدية لصالح أطفال فلسطين.

وذكرت وكالة "الأناضول" الرسمية، أن المتبرعين الأتراك ممن تتراوح أعمارهم بين 4-6 أعوام، هم طلاب في أحد مراكز تحفيظ القرآن الكريم في قضاء "باهشيلي".

وتمكن الأطفال من جمع مساعدات عينية ونقدية فيما بينهم، بقيمة 3 آلاف و155 ليرة (قرابة 100 دولار).

وتسلم التبرع مفتي القضاء لطفي قوجا ترك الذي أعرب بدوره عن شكره وتقديره لهم على روح التضحية والإيثار.

عودة للجذور 

وعن رمضان في تركيا، يقول عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عمر مجدي إن: "الأتراك قطعوا شوطا كبيرا للعودة إلى جذورهم خاصة الدينية، بعد فترة قطيعة دامت قرابة 6 عقود كاملة منذ سقوط الخلافة وقيام الجمهورية الحديثة على أساس علماني غير متصالح مع الدين". 

وأضاف لـ"الاستقلال": "تلك الخطوة فصلت الأتراك عن ماضيهم وتاريخهم، وكما قال لي أحد علماء الدين الأتراك، كيف تريد لشجرة أن تكبر دون جذر، بعد أن قطع الأتراك عن دينهم وتاريخهم مما حولهم إلى أمة بلا جذور؟". 

وأتبع الداعية الإسلامي المقيم في إسطنبول: "بالتالي عندما عادت الحريات الدينية، وجاءت حكومة دشنت لعهد الجمهورية الثالثة المتصالحة مع الدين، عاد الأتراك إلى طبيعتهم كأمة مسلمة محافظة تعتز بتراثها ودينها الإسلامي".

بل "صمدت عبر الدين الإسلامي في وجه أوروبا والحملات الصليبية، وجاءت به إلى إسطنبول وفتحتها على أساس بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم". 

وأكمل: "عندما جئت إلى إسطنبول قبل 12 عاما كنت ألحظ ظاهرة إفطار قطاع كبير من المسلمين في نهار رمضان، وكانت أجواء الشهر الفضيل تكاد تكون فلكلورية من حيث موائد الإفطار أو ما يطلق عليه حفلات السحور". 

وأتبع: "حتى إنه من المرات الطريفة أنني دعيت إلى الإفطار في أحد مطاعم إسطنبول الفاخرة، ووجدت الناس قبل المغرب تتناول الطعام، فظننت أنه حان موعد الإفطار، إلى أن تداركني أحدهم وقال هؤلاء ليسوا صائمين وإنما يأتون من باب الفلكلور والعادات". 

واستطرد الداعية الإسلامي: "حاليا الوضع اختلف كليا فنسبة الصيام بين الأتراك مرتفعة جدا، خاصة الشباب، وهناك إقبال على قراءة القرآن وتعلم أحكامه".

أما صلاة التراويح فتجد المساجد عامرة بالمصلين، وهناك مساجد تفتح أبوابها للاعتكاف، وكل هذا لم يكن موجودا بهذه الطريقة حتى وقت قريب، وفق قوله. 

واختتم: "من حيث الحرص على الشعائر الدينية في رمضان واستقبال الشهر الفضيل، تنافس تركيا وإسطنبول حاليا كثيرا من عواصم الدول العربية وتتفوق عليها"، وفق قوله.