توقيف حاكم مصرف لبنان السابق.. ما تأثير ه على الدعم الدولي لبيروت؟
"يتهم لبنانيون سلامة بأنه كان صمام أمان لعدم انهيار منظومة الفساد المالية"
توقيف السلطات اللبنانية حاكم المصرف المركزي، رياض سلامة، المتهم بقضايا فساد واختلاس ”عشرات ملايين الدولارات"، شكّل مفاجئة مدوية للشارع الذي يحمّله مسؤولية انهيار النظام المالي في البلاد الذي أداره 28 عاما.
وأوقف القضاء سلامة. في 3 سبتمبر/ أيلول 2024، حيث ادعى النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم عليه بجرائم عدة بينها "اختلاس أموال عامة" و"تزوير" و"تبييض أموال"، إبان توليه حاكمية مصرف لبنان.
توقيف سلامة
وأودع القاضي إبراهيم ملف سلامة، إلى قاضي التحقيق الأول في بيروت بلال حلاوي، طالبا استجوابه وإصدار مذكرة توقيف وجاهية بحقه، إذا ما كانت الشبهات معززة ضده، أو أن "يتركه بسند إقامة".
وهذه أول مرة يمثل فيها سلامة أمام القضاء، منذ انتهاء ولايته في 31 يوليو/ تموز 2023، دون تعيين بديل عنه، والذي تولى إدارة المصرف المركزي منذ مطلع أغسطس/ آب 1993.
ويقبع سلامة في سجن قوى الأمن الداخلي ببيروت، وأصبح ملفه بيد القاضي المعني الذي سيقرر ما كان سيبقيه قيد الاحتجاز أم لا.
لكن سلامة الذي يوصف بأنه "أعلى قمة هرم العصابة السياسية الفاسدة" في لبنان، أعاد فتح الأبواب المغلقة في هذا البلد حول ضرورة تطبيق “العملية الإصلاحية في مكافحة الفساد” كما يطالب المجتمع الدولي.
لا سيما أن المسار القضائي في لبنان يتهم بالتقصير في التحقيق بالجرائم الكبرى واستمرار سياسة الإفلات من العقاب منذ عقود، في وقت ما يزال المجتمع الدولي يلح على بيروت لتنفيذ حزمة إصلاحات أساسية في البنية الاقتصادية والمالية لتمرير الدعم الدولي إليه من جديد.
ويسعى لبنان للتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي يعد المنقذ الاقتصادي الأول للحصول على قروض تسمح له بتوفير سيولة دولارية وتعيد له ثقة الأسواق الدولية، وسط مطالبات الصندوق بمجموعة من الإصلاحات اللازمة.
وأمام ذلك، طرحت تساؤلات حول مدى ذهاب التحقيق مع سلامة بعيدا وجعله "كبش الفداء" لانطلاق الإصلاح الاقتصادي في لبنان ووضعه على المسار الصحيح خاصة أن القضاء اللبناني بات اليوم تحت المجهر وفي حالة اختبار لجديته في مكافحة رموز الفساد في البلد.
فمن جهة، فإن سلامة (74 عاما)، مستهدف كذلك بتحقيقات عدة منذ ثلاثة أعوام في دول أوروبية تشتبه بأنه راكم أصولا عقارية ومصرفية بشكل غير قانوني، وأساء استخدام أموال عامة على نطاق واسع خلال توليه حاكمية مصرف لبنان، عدا عن تحويله الأموال إلى حسابات في الخارج و"الإثراء غير المشروع".
وبناء على التحقيقات، أصدرت قاضية فرنسية في باريس والمدعية العامة في ميونيخ عام 2023 مذكرتي توقيف في حقه جرى تعميمهما عبر الإنتربول "الشرطة الدولية"، وقرّر القضاء اللبناني بناء عليهما منعه من السفر وصادر جوازي سفره اللبناني والفرنسي.
إلا أن النيابة العامة في ميونيخ ألغت في يونيو/ حزيران 2024 مذكّرة التوقيف، لأنه “لم يعد يشغل منصب حاكم مصرف لبنان المركزي وبالتالي لم يعد هناك أي خطر (...) بإتلاف أدلة”، لكن القرار لا يعني أن التحقيق انتهى.
كما فرضت الولايات المتحدة إلى جانب كندا والمملكة المتحدة، عقوبات اقتصادية على سلامة وأفراد عائلته لشبهات فساد، بما في ذلك تجميد أصولهم في البلدان الثلاثة.
لكن النقطة الحساسة في ملف سلامة والتي هي بالمقابل تضع القضاء اللبناني "هذه المرة على المحك" وفق المراقبين، هي أن القوانين اللبنانية لا تسمح بتسليم المواطنين عند طلبهم للملاحقة القضائية الأوروبية.
إذ إن دفة المواجهة بين سلامة والتهم الموجهة إليه باتت في قصر العدل اللبناني بعد سنوات من التجاذب السياسي والمواقف المتكاثرة حول "التحقيق بحقه".
فسلامة كان وفق مواقع لبنانية، يحمي أموال المسؤولين الفاسدين إبان توليه منصب حاكم مصرف البلاد الغارق في أزمة اقتصادية طاحنة منذ عام 2019 ألقت بـ90 بالمئة من المواطنين في براثن الفقر.
وسلامة الذي يوصف بأنه صندوق أسرار مرحلة امتدت طوال ثلاثة عقود، تحمله جهات سياسية مسؤولية انهيار العملة الوطنية، وينتقد المواطنون علنا بشكل حاد السياسات النقدية التي اعتمدها، بتقدير أنها راكمت الديون وسرّعت الأزمة الاقتصادية، إلا أنه دافع مرارا عن نفسه بتأكيده أن المصرف المركزي "موّل الدولة ولكنه لم يصرف الأموال".
"استعادة الثقة"
وهناك خشية من إدراج مجموعة العمل المالي العالمي "فاتف" لبنان على اللائحة الرمادية، حيث أفادت مواقع محلية في 6 سبتمبر 2024 بأن حاكم المصرف بالإنابة وسيم منصوري يواصل لقاءاته مع ممثلي "المصارف المراسلة" في بريطانيا لمنع وقوع هذه الكارثة الاقتصادية.
ومجموعة العمل المالي الحكومية الدولية، تهتم بتقييم المعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ووضع بلدان من قبل تلك المجموعة باللائحة الرمادية، حيث يعني أن تلك البلدان تحتوي على مخاطر حقيقية لتبييض الأموال أو تمويل الإرهاب.
وضمن هذا السياق، رأت مصادر مطلعة لموقع "جنوبية" اللبناني، في 6 سبتمبر 2024 أن "خطر إدراج لبنان على اللائحة الرمادية من قبل مجموعة العمل المالي الدولية، قد يكون هو الدافع الأول الذي دفع السلطة السياسية في لبنان للإيعاز إلى القضاء بتوقيف سلامة، بوصفها إشارة أولية يمكن البناء عليها من أجل استعادة الثقة وبدء التعاون مع صندوق النقد الدولي".
ولفتت المصادر إلى أنه "لا بد من الالتزام بالتوصيات الاخرى لصندوق النقد، من أجل العمل على خروج لبنان من أزمته المالية الاقتصادية وهي، تطبيق الحوكمة في مصرف لبنان بالبيانات المالية، والقيام بملاحقات جدية بموضوع مكافحة تبييض الأموال والجرائم المالية".
كذلك "الالتزام بالتعديلات التي حصلت بموضوع رفع السرية المصرفية كلها، قد تكون متطلبات جدية لعدم تخفيض تصنيف لبنان ووضعه على اللائحة الرمادية"، وفق "جنوبية".
وقرار مجموعة "فاتف" سيقر في خريف 2024، حيث يظهر تقرير التقييم المنجز من المجموعة الإقليمية، وجوب مبادرة السلطات المحلية في لبنان إلى إجراء تحسينات جوهرية في حزمة من التوصيات الأساسية وهذا يتطلب إجراء بعض التعديلات في القوانين والتدابير النافذة، بما يتناسب مع مقتضيات الامتثال لكامل المعايير الدولية لمكافحة غسيل الأموال الذي يعد سلامة أحد أقطابها في لبنان.
وسبق أن تحدثت "وثائق باندورا" الصادرة عام 2021، عن ثروات سرية وتهرب ضريبي، وفي بعض الحالات غسيل أموال من قبل بعض المسؤولين في العالم، بينها شبكة الشركات التي أسسها سلامة، ليدير بها ثروة تجاوزت قيمتها مئات ملايين الدولارات على أقل تقدير، وفق ما نقل موقع "درج" اللبناني.
منظومة الفساد
وضمن هذه الجزئية، يرى الخبير الاقتصادي باتريك مارديني، خلال تصريحات صحفية، في 6 سبتمبر 2024، أنه “من مخاطر وضع لبنان على اللائحة الرمادية أن يؤدي إلى أن تصبح التعاملات المالية مع لبنان أصعب، ويعيق التحويلات المالية”.
وبالتالي فإن "دخول الرساميل إلى لبنان يصبح صعبا، والاستثمارات وحتى الاستيراد والتصدير تصبح عملياتها صعبة، لأن المصارف الأجنبية المراسلة التي تجري التحويلات عبرها، ستبذل جهودا مضاعفة من أجل التأكد من صحة التحويلات، وبراءة أصحابها من تبييض الأموال والارتباط بالإرهاب".
ومن شأن ذلك، أن "يزيد الكلفة على البنوك المراسلة وسيتحملها الزبائن تبعا لذلك"، وفق مارديني.
ويتهم لبنانيون سلامة بأنه كان "صمام أمان" لعدم انهيار "منظومة الفساد المالية" التي تذوب تحتها الشعارات الحزبية في هذا البلد القائم على التركيبة الطائفية.
ومع بدء ظهور ملامح الانهيار الاقتصادي وانطلاق تظاهرات شعبية غير مسبوقة في أكتوبر/تشرين الأول 2019 ضد الطبقة السياسية المتهمة بالفساد وبتغليب منطق الصفقات في إدارة البلاد، اتهم محللون ومراقبون زعماء سياسيين ومسؤولين بينهم سلامة، بتحويل مبالغ ضخمة من حساباتهم إلى الخارج.
والفضيحة الكبرى لسلامة كانت في إقدام نجله "نادي" على تحويل مبلغ 6 ملايين وخمسمئة ألف دولار إلى الخارج بعد قانون "الكابتال كونترول" (ضبط رأس المال) الذي مارسته المصارف على ودائع اللبنانيين أواخر عام 2019، بعدما دفعت أزمة مالية البنوك اللبنانية إلى منع معظم المودعين من سحب أو تحويل الدولار.
ومن ملفات الفساد التي تلاحق سلامة، هو طلب المحكمة الإقليمية لإمارة ليختنشتاين وهي دولة أوروبية مستقلة، مساعدة القضاء اللبناني لها في دعوى الاختلاس المقامة ضده، بتهمة اختلاس مبلغ يصل إلى 400 مليون دولار.
كما سألت المحكمة ذاتها عن علاقة مالية بين سلامة وشقيق رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وعن تحويلات مالية بين شركتيهما حصلت عام 2016 وصلت قيمتها إلى 14 مليون دولار.
ونقطة التحويلات في لبنان حساسة، ولا سيما أن الاقتصاد النقدي (الكاش) يمثل ما يقارب ثلثي الناتج المحلي الإجمالي للبنان.
ويلعب الاقتصاد النقدي دورا كبيرا في تفادي القيود المصرفية والمشاكل المتعلقة بسعر الصرف المتعدد.
ومع استمرار الوضع الراهن في لبنان في ظل التوتر الحاصل عند الحدود مع إسرائيل منذ أكتوبر 2023، يتوقع أن يتزايد حجم الاقتصاد النقدي، مما يضع تحديات جديدة أمام تحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي في البلاد.
لهذا فإن الإصلاح المالي في لبنان يتطلب إصلاحا شاملا من تبديد الشكوك الدولية حول احتمالية استمرار تبييض الأموال وممارسة الأنشطة غير القانونية بتغطية من الطبقة الحاكمة.
ولذلك تشير بعض المواقع اللبنانية، إلى أن توقيف سلامة بالشكل الذي جرى من ناحية عدم علمه بأنه سيجري توقيفه، قد يكون ثمنا لإرسال “رسائل جدية إلى الخارج بأن لبنان يقوم بخطوات في مجال مكافحة تبييض الأموال وغيرها من الإصلاحات الاقتصادية” التي تعد الشرط الأساس لتدفق الأموال والمساعدات الدولية إلى لبنان.
المصادر
- القضاء اللبناني يوقف حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة
- لبنان يحتل "مرتبة متقدمة" على مستوى الفساد
- مارديني لـ«جنوبية»: على لبنان الالتزام بالقرارات المالية الدولية
- توقيف رياض سلامة هو الثمن لعدم إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لـFATF؟!
- رياض سلامة حاكم مصرف لبنان يرد على إصدار القضاء الفرنسي مذكرة توقيف دولية بحقه