"ناقوس الخطر".. لماذا دخل المجتمع الإيراني في مرحلة "الهجرة الجماعية"؟

3 months ago

12

طباعة

مشاركة

مع تراكم الأزمات الاقتصادية وغياب الرفاهية المناسبة على مدى العقود الماضية، دخل المجتمع الإيراني أخيرا في مرحلة "الهجرة الجماعية".

وقد تعالت التحذيرات الرسمية من وجود مشكلات خطيرة في استثمار رأس المال البشري في إيران، ودفعه نتيجة السياسات الاقتصادية الخاطئة للبحث عن حياة جديدة بعيدا عن بلده.

وعلى الرغم من أن إيران ليست في حالة حرب منذ أكثر من ثلاثة عقود، فإن مسألة الهجرة للخارج بدأت تطال حتى النخب وطبقات اجتماعية كان ينظر إليها على أنها مستقرة.

هجرة جماعية

وحذر مركز الدراسات الإستراتيجية التابع للرئاسة الإيرانية، خلال تقرير في 3 أغسطس/آب 2024 استنادا إلى نتائج استطلاع للرأي، من أن المجتمع الإيراني يدخل مرحلة "الهجرة الجماعية"، مشيرا إلى وجود مشكلات خطيرة في استثمار رأس المال البشري.

وقال المركز: نحن الآن في فترة ذروة "الرغبة والقرار" بالهجرة، خاصة بين القوى العاملة الماهرة وصاحبة رأس المال.

وبحسب التقرير، يمر المجتمع الإيراني بظروف هجرة خاصة، وهناك أجواء نفسية صعبة ومثقلة في البلاد تعزز هذه الرغبة.

ويضيف أن الرغبة والقرار بالهجرة "تكثفا" بين مختلف الطبقات، بما في ذلك بين العمال والرياضيين والأطباء والباحثين ورجال الأعمال والمستثمرين.

وفي هذا البحث، عدت مجموعتان من "الأطباء والممرضين" و"الطلبة والخريجين" المشكلات الاقتصادية الناجمة عن التضخم أكثر تأثيرا في رغبتهم بالهجرة.

وقال 73 بالمئة من الأطباء والممرضين و59 بالمئة من الطلاب إن التضخم يجعل رغبتهم في الهجرة "عالية جدا".

وقد قيم 63 بالمئة من الأطباء والممرضين و51 بالمئة من الطلاب آثار العقوبات على رغبتهم في الهجرة بأنها "عالية جدا".

وذكر الأطباء والممرضون أن السبب الرئيس لهجرتهم هو عدم الرضا عن دخلهم الوظيفي، وانعدام الثقة بالمستقبل، وعدم التوازن بين الدخل والتكاليف.

وفي وقت سابق، حذر رئيس النظام الطبي الإيراني محمد رئيس زاده، من أن "إفراغ البلاد من الأطباء أمر خطير".

وتشير المعطيات الجديدة، إلى أن الإيرانيين أصبحوا أكثر بؤسا من أي وقت مضى، في وقت أفادت فيه تقارير أن شريحة كبيرة من السكان تفكر في مغادرة البلاد إلى الأبد.

وقد بلغ "مؤشر البؤس" في إيران أكثر من 60 بالمئة، وفقا لأحدث دراسة ربع سنوية لعام 2023 أجراها مركز الإحصاء الإيراني الممول من الحكومة.

لا سيما أن بحث الإيرانيين عن حياة أفضل في الخارج، يؤدي إلى خسارة رأس المال والمهنيين والعمال المهرة.

إذ يعد الشباب من ذوي التعليم العالي والقدرات المالية، خاصة في المدن الكبرى، الأكثر استعدادا لمغادرة إيران.

كما كشف رئيس لجنة الصحة والعلاج بالبرلمان حسين علي شهرياري، في يونيو/حزيران 2023 أن حوالي 10 آلاف متخصص وطبيب فرعي حصلوا على الشهادات اللازمة للهجرة من أجل العمل في غضون عامين فقط، مع ظهور الدول العربية كوجهة أساسية للأطباء الإيرانيين.

وفي الوقت الذي تشهد فيه الدول المجاورة نموا سريعا، يعرب المسؤولون الإيرانيون عن مخاوفهم من أن تصبح البلاد "جزيرة خالية من الفرص".

وأمام هذه المعطيات، ما يزال الإيرانيون يسلكون طرقا خطرة على طريق الهجرة للوصول إلى أوروبا والبدء بحياة جديدة مليئة بالاستقرار.

وقد تحدث تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية نهاية يوليو/تموز 2024 عن المهاجرين العالقين في المنطقة العازلة بين شطري جزيرة قبرص وذكر من بينهم عائلة إيرانية.

وقال حسين زاده وهو جالس على كرسي بلاستيكي في ظل الأشجار، إنه فر من إيران مع زوجته وابنته على أمل دخول الاتحاد الأوروبي وبدء حياة جديدة في فرنسا.

وصلت عائلة زاده في مايو/أيار 2024 إلى إسطنبول ثم إلى "جمهورية شمال قبرص التركية". لكنهم أوقفوا عندما حاولوا العبور إلى الجنوب من خلال المنطقة العازلة التي تسيطر عليها قوة الأمم المتحدة المكلفة بحفظ السلام في قبرص (UNFICYP).

اللافت أن حالة الهجرة في إيران البالغ عدد سكانها 90 مليون نسمة، لا تختلف كثيرا بين الطبقات الاجتماعية.

وهو ما يدلل على أن الإقبال على الهجرة منتشر بين الفئات الاجتماعية كافة بسبب المناخ الاقتصادي وبيئة الأعمال المتأثرة بالسياسات العامة للحكومة في مجالات مختلفة.

"الأزمة الاقتصادية"

وبحسب المرصد الإيراني للهجرة، غادر البلاد نحو 2.2 مليون إيراني، أي ما يعادل نحو 3.3 بالمئة من السكان، للعمل أو لأسباب أخرى في عام 2022.

وأفادت وكالة اللجوء التابعة للاتحاد الأوروبي عام 2023 بأن طلبات اللجوء الإيرانية إلى الاتحاد الأوروبي "تضاعفت تقريبا" مقارنة بالفترة نفسها من عام 2022، مع أكثر من 13 ألف طلب.

وقد كانت للعقوبات الغربية المفروضة على إيران، إلى جانب سوء إدارة الدولة للموارد، آثار مدمرة على الاقتصاد.

يشمل ذلك التضخم الجامح (المعدل السنوي: 40.2 بالمئة نوفمبر/تشرين الثاني 2023) وعدم تناسب الرواتب معه، وانخفاض قيمة العملة الإيرانية، وارتفاع أسعار المساكن بشكل صاروخي.

إذ بلغت نسبة تشغيل خريجي الجامعات في إيران لعام 2023 نحو 26.5 بالمئة من إجمالي السكان العاملين.

وضمن هذا السياق، رأى رئيس الجمعية الإيرانية لعلم الاجتماع سعيد مؤيد فر، أن "موجة الهجرة تحدث عندما تتزامن أزمة اقتصادية عميقة في مجال الإنتاج والتشغيل والتضخم وغيرها من القضايا مع أزمات أخرى".

وأضاف مؤيد فر في تصريح لموقع جماران الإخباري في سبتمبر/أيلول 2023: "هذا يعني على سبيل المثال أن هذا الشخص أو الأشخاص وصلوا إلى النقطة التي لم يعد فيها نظامهم السياسي كافيا للتغلب على الأزمة الاقتصادية، أو يشعرون بأن المحسوبية تستخدم بدلا من الجدارة".

وفي تقرير نشرته صحيفة اعتماد في 17 أغسطس 2024، رسم حسن طائي، نائب الرئيس السابق للتنمية وريادة الأعمال والتوظيف في وزارة العمل الإيرانية، صورة مثيرة للقلق لمستقبل إيران الاقتصادي.

وسلط طائي الضوء على التحديات الكبيرة التي تواجه سوق العمل في البلاد والازدهار العام.

وأكد أن إيران تحتاج إلى مضاعفة قوتها العاملة من 26 إلى 55 مليونا حتى تتمكن من تحقيق مجتمع مزدهر نسبيا. 

ومع ذلك، وصف هذا الهدف بأنه "مستحيل" نظرا للركود الاقتصادي الذي تعاني منه البلاد منذ عام 2004.

وأضاف طائي أن "الاقتصاد الذي لم يتمكن من النمو بمعدل 1 بالمئة منذ عام 2004 لا يمكنه خلق مليون فرصة عمل". 

وأوضح أن هذا الهدف يتطلب خلق 300 وظيفة جديدة يوميا، وهو إنجاز يراه غير قابل للتطبيق في ظل الوضع الاقتصادي الحالي في إيران.

وترزح إيران تحت وطأة عقوبات أعادت الولايات المتحدة فرضها عليها عام 2018 بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي المبرم مع طهران في 2015 والذي كان يسمح لإيران ببيع النفط مقابل وضع قيود على برنامجها النووي.

ومنذ ذلك الحين تجتهد إيران التي تنتج نحو 3,2 ملايين برميل نفط يوميا، وفقا لوكالة الطاقة الدولية، لكسر العقوبات المفروضة عليها في هذا القطاع لتمويل اقتصادها.

“ناقوس الخطر”

وعلى مدار الأشهر الماضية، دق مديرو كثير من القطاعات في إيران ناقوس الخطر مع رصد حالات الهجرة من قبل الموظفين العاملين فيها.

ووصف رئيس لجنة اختيار أعضاء مجلس الوزراء في وزارة الصحة الإيرانية، علي جعفريان، وضع الممرضات المهاجرات أو اللاتي يتركن وظائفهن بأنه “مريع”، مشيرا إلى موجة من هجرتهن إلى ألمانيا.

وأضاف جعفريان "الممرضات يتعلمن اللغة الألمانية واحدة تلو الأخرى حتى يتمكنّ من مغادرة البلاد".

وأشار في 19 أغسطس 2024 إلى أن شهادة اللغة الألمانية غالبا ما تكون كل ما هو مطلوب لتسهيل رحيلهن. 

وتخلف هجرة الأدمغة تأثيرا كبيرا على نظام الرعاية الصحية في إيران، حيث أصبحت المستشفيات التي بنيت حديثا في طهران غير قادرة على فتح أبوابها بسبب نقص الموظفين.

وتشير الإحصاءات الصادرة عن منظمة نظام التمريض إلى أنه من بين حوالي 10 آلاف طالب تمريض إيراني، يحصل حوالي 3 آلاف ممرضة سنويا على شهادات حسن سير وسلوك للهجرة.

وقد أعلن عضو المجلس الأعلى لنظام التمريض، فريدون مرادي، في 21 يوليو 2024، هجرة 150 إلى 200 ممرض شهريا من إيران.

وقال: "يتم إنفاق ما بين مليار ونصف المليار إلى ملياري تومان (50 ألف دولار) مقابل كل طالب تمريض، ولكننا نفقدهم بسهولة".

وبحسب تقرير مركز الدراسات الإستراتيجية التابع للرئاسة الإيرانية، كان لدى رواد الأعمال والشركات الناشئة العديد من أسباب للهجرة، تتمثل في عدم اليقين وانعدام الأمن الاقتصادي.

يشمل ذلك العقوبات الاقتصادية، والتضخم الشديد، وتغير أسعار الصرف، وانعدام الأمن، وعدم القدرة على التنبؤ بالنظام الاقتصادي، والإنتاج غير المربح، والبيروقراطية المعقدة، وعدم الاستقرار في السياسة الداخلية والخارجية.

كما يرون أن جاذبية بيئة الاستثمار واستقرار بلد المقصد من بين الأسباب الدافعة للهجرة.

وقد اعترف عبد الناصر همتي، المرشح لقيادة حقيبة للاقتصاد في الحكومة الإيرانية الجديدة، في كلمة أمام البرلمان؛ لنيل ثقة الأعضاء وتأييد ترشيحه: بأن مشاكل البلاد العميقة تقترب من التأزم.

وبين في 19 أغسطس 2024 أن التضخم اقترب من 40 بالمئة خلال السنوات الخمس الماضية، ما يؤثر بشكل خطير على المعيشة والقدرة الشرائية للشعب.

وقال همتي: “بعض حالات عدم اليقين في المجال الاقتصادي تشمل: عدم إمكانية التوقعات الاقتصادية، وعدم وجود الحافز للاستثمار في الأنشطة الاقتصادية الإنتاجية، ودخول القطاع غير الحكومي في اتجاه الأنشطة الصغيرة والقصيرة”.

ولفت إلى أن كل ذلك، وفر أرضية لدخول أفراد المجتمع إلى أنشطة المضاربة والسمسرة.

ودعا إلى التركيز على النمو الاقتصادي المستدام وخلق فرص عمل ترتكز على تنمية القطاع الخاص، وتحسين بيئة الأعمال، والحد من البيروقراطية الإدارية والمحسوبية.

وبين أن الحلول تكمن في الشفافية في صنع القرار وأداء الحكومة من خلال نشر المعلومات المالية والاقتصادية وتعزيز المؤسسات الرقابية وتجريم الفساد والتعامل بحزم مع الفاسدين لاستعادة ثقة الجمهور.