"نخشى انقراضهم".. مسيحيو غزة بين نار القصف الإسرائيلي وجحيم النسيان العالمي

حسن عبود | منذ ٤ ساعات

12

طباعة

مشاركة

"إذا هدموا مساجدكم فارفعوا الأذان من كنائسنا"، كلمات يطلقها راعي الكنيسة المسيحية السابق في غزة الأب مانويل مسلّم، مع كل عدوان إسرائيلي على القطاع ليؤكد بها حالة التضامن المجتمعي بين المسلمين والمسيحيين.

وأطلق مسلم هذه الكلمات أول مرة في العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014 وكررها في كل تصعيد بعدها بما فيها اليوم؛ حيث تنفذ قوات الاحتلال عمليات إبادة جماعية.

لكن هذا الشعار الذي مثّل طويلا موقفا وطنيًا جامعًا، لم يعد قابلًا للتطبيق في العدوان الحالي على غزة بعدما نالت الغارات الإسرائيلية عددا من الكنائس إلى جانب جل المساجد.

أوضاع مأساوية

وللعام الثاني على التوالي، أحيا المسيحيون في قطاع غزة "الفصح المجيد" في ظل عمليات الإبادة المستمرة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 مع غياب بهجة العيد المعتادة.

واقتصرت الاحتفالات التي حضرها العشرات في كنيسة القديس بيرفريوس للروم الأرثوذوكس بمدينة غزة القديمة على إقامة الصلوات والطقوس الدينية، مع غياب أي مظاهر للفرح والسرور والزينة المعتادة بسبب الحرب.

وعبر صفحتها على فيسبوك، بثّت الكنيسة التي لم تسلم من القصف الإسرائيلي فيديو مباشر للصلوات والحاضرين الذين غاب السرور عن ملامحهم في العيد الأكثر أهمية لدى مسيحيي العالم.

وحل العيد من 18 إلى 20 أبريل/نيسان 2025، حيث أحيا المسيحيون الجمعة العظيمة وسبت النور وأحد الفصح وسط أجواء حرب ودمار وموت.

وفي هذا العام، توحدت مواقيت أعياد الكنائس التي تسير على الحساب الغربي، مع تلك التي تسير على الحساب الشرقي في الأعياد.

ولم تسلم أماكن العبادة الخاصة بالمسلمين والمسيحيين معا، ولا المؤسسات الدينية  ولا حتى المدارس التابعة للكنيسة، من القصف الإسرائيلي.

إذ مثل العدوان الحالي نقطة تحوّل في طبيعة الاستهدافات، حيث لم تعد الكنائس بمنأى عن القصف، وهو ما يُفقد العبارة الرمزية التي أطلقها الأب مانويل مسلم معناها التقليدي، ويعكس مدى شمولية الضرر الذي ألحقته الحرب بالبنية المجتمعية والدينية في القطاع.

ويضم قطاع غزة 3 كنائس فقط هي "القديس برفيريوس" و"العائلة المقدسة" (دير اللاتين) و"المعمداني"، وقد قصفها الاحتلال جميعها لتتعرض إلى أضرار بالغة، بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في القطاع.

وإضافة إلى ذلك، استهدف جيش الاحتلال المركز الثقافي الأرثوذكسي في "حي الرمال الجنوبي"، غربي مدينة غزة.

والقديس برفيريوس تعد أقدم كنيسة في غزة وثالث أقدم كنيسة في العالم، إذ يعود تاريخ تأسيسها للقرن الخامس الميلادي.

وتقع الكنيسة في حي الزيتون شرق مدينة غزة، وسميت نسبة إلى القديس برفيريوس، حيث تحتضن قبره.

تعرّضت للاستهداف المباشر لأكثر من مرة، أولها في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ما تسبب بدمار كبير، والثاني في 19 من الشهر ذاته ما تسبب في انهيار مبنى وكلاء الكنيسة بالكامل، وأدى لمقتل 20 شخصا وإصابة آخرين كانوا بداخلها.

أما العائلة المقدسة فهي الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في مدينة غزة، وكانت مأوى للمسيحيين والمسلمين خلال فترة الإبادة، وتعرضت للقصف الإسرائيلي، ما أسفر عن أضرار جسيمة.

وفيما يخص المعمداني، فهي تتبع للكنيسة الأسقفية الأنجليكانية في القدس، وجرى تأسيسها عام 1882 ميلادية على يد البعثة التبشيرية التي كانت تابعة لإنجلترا.

وارتبط اسم الكنيسة خلال الحرب بمجزرة مروعة، إذ تعرضت ساحة المستشفى المعمداني الذي يعد جزءا منها، لقصف إسرائيلي في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023 أسفر عن استشهاد نحو 500 فلسطيني من المرضى والنازحين الذين كانوا في المستشفى.

قصص مؤلمة

وتعيش العائلات المسيحية في غزة اليوم أوضاعا استثنائية، لا تختلف كثيرا عن جيرانها من المسلمين، حيث ينالهم القصف والقتل والتدمير.

وحسب بيانات مؤسسات مسيحية في غزة قبل بدء الحرب، فإن نسبة المسيحيين في غزة منخفضة جدا، حيث يبلغ عددهم 1,100 نسمة تقريبا.

وتناقصت أعداد المسيحيين في غزة خلال السنوات الأخيرة بفعل الهجرة من القطاع. ومعظم هؤلاء (بنسبة تبلغ 70 بالمئة) يتبعون طائفة الروم الأرثوذكس، بينما يتبع البقية لطائفة اللاتين الكاثوليك.

رامز الصوري واحد من هؤلاء المسيحيين الذين كانت لهم قصص مأساوية في الشهر التالي لبدء العدوان على غزة.

وظن الصوري أن كنيسة الروم الأرثوذكس في غزة مكان آمن لينزح إليها لكنه فقد 3 من أطفاله من أصل 12 فردا من عائلته حينما استهدفها قصف في أكتوبر 2023.

وأضاف الصوري وقتها لوسائل الإعلام قائلا: "انتشلت 3 من أطفالي من تحت الردم جراء قصف الكنيسة، كانوا في مكان أظنه آمنا لكن إسرائيل دولة بطش تقتل وتقصف في كل مكان".

وتابع: "لجأنا إلى كنيسة بروفيريوس معتقدين أن دور العبادة ستكون ملاذًا آمنًا، لكن الجيش الإسرائيلي قصف المبنى الذي كان يؤوي 97 مدنيا بريئا. في لحظات، تحول المبنى إلى ركام وحفرة بعمق 3 أمتار".

وفي منتصف ديسمبر/كانون الأول 2023، قتل قناصو الاحتلال أيضا ناهدة خليل أنطون وابنتها سمر، في محيط كنيسة العائلة المقدسة. 

وفي أبريل/نيسان 2024، توفيت شابة تبلغ من العمر 19 عاما كانت تحتمي في الرعية مع والدتها بسبب ضربة شمس أثناء محاولتها الفرار من القطاع. وكان والدها قد توفي سابقا في مجمع رعية العائلة المقدسة.

وفي يوليو/تموز، أسفرت غارة شنتها قوات الاحتلال على مدرسة العائلة المقدسة التابعة للبطريركية اللاتينية في مدينة غزة عن مقتل أربعة أشخاص.

ولا يعرف على وجه الدقة عدد القتلى المسيحيين خلال العدوان، لكن وزيرة الدولة الفلسطينية لشؤون وزارة الخارجية والمغتربين فارسين أغابيكيان شاهين، قالت في مايو/أيار 2024، إن إسرائيل قتلت 3 بالمئة منهم منذ بداية الحرب.

وأضافت شاهين خلال لقائها بمدينة رام الله وفدا من منظمة كنائس من أجل السلام في الشرق الأوسط (CMEP)، أنه "منذ بداية الحرب قتل الاحتلال 3 بالمئة من المسيحيين في قطاع غزة، ويهدم الكنائس ويستمر في التضييق عليهم في الضفة الغربية".

ولم تحدد شاهين عدد المسيحيين القتلى بالتحديد كما لم تصدر أي بيانات رسمية بعد هذا التاريخ بشأنهم.

وتزامنا مع الاحتفالات، عبر القس الفلسطيني منذر إسحاق راعي الكنيسة الإنجيلية اللوثرية في بيت لحم وبيت ساحور جنوب الضفة الغربية، عن مخاوف من تعرض المسيحيين في غزة إلى الانقراض جراء جريمة الإبادة الإسرائيلية، كما نقلت وكالة الأناضول التركية.

غياب التضامن

وبالحديث عن طبيعة الاحتفالات هذا العام ومدى التضامن مع المجتمع المسيحي، قال الفلسطيني خضر النصار خلال رسالة مسجلة في 20 أبريل: “نحتفل في غزة فقط بالصلوات وبدون أي شعائر احتفالية أو طابع بهجة نظرا للأوضاع الحزينة التي تمر بها المدينة”.

وأضاف: “عشنا أوضاعا صعبة جدا مثلنا مثل أي مواطن في مدينة غزة، فقد نزحنا من منازلنا بعد أن دمرت واضطررنا أن نكون في كنيسة القديس بروفيريوس، وكنيسة العائلة المقدسة نازحين، في صفوف وغرف”.

وأردف: “كان هناك قصف لكنيسة بروفيريوس وأيضا حصار لكنيسة العائلة المقدسة لأكثر من 10 أيام وجرى التهديد بالدخول إليها لكن نحن رفضنا”.

أما منتصر ترزي فقال: “نصلي اليوم من أجل أن يعم السلام على قطاع غزة وعلى العالم أجمع، ويقتصر عيدنا على الصلوات بدون مشاعر أو شعائر فرح”.

ويشعر المسيحيون في غزة بأنهم منسيون في ظل معاناتهم الطويلة مع الاحتلال والحصار والقصف وحتى منعهم من السفر داخل الأراضي الفلسطينية خلال الأعياد والمناسبات الخاصة بهم.

ورغم هجرة أعداد منهم خلال السنوات الأخيرة، يصر المسيحيون المتبقون على عدم ترك قطاع غزة ويؤكدون على حق العودة إلى أراضيهم المحتلة في عامي 1948 و1967.

ويأتي ذلك على الرغم من حديثهم المتكرر عن التجاهل والتهميش الذي يتعرضون له من المؤسسات الكنسية حول العالم ومن نظرائهم في الشرق الأوسط، وهي معاناة تفاقمت بعد العدوان الأخير.

ولذلك، تأثر المسيحيون بشدة برحيل بابا الفاتيكان فرنسيس، الذي كانت مكالماته المستمرة معهم بمثابة بصيص أمل وسط أهوال الحرب.

وفي آخر كلماته قبل وفاته بأسبوعين، قال فرنسيس: "أنا أباركك. لا تخف أنا معك. ابقَ بخير وابقَ ثابتاً على إيمانك"، موجها حديثه لرئيس لجنة الطوارئ بالكنيسة الكاثوليكية في غزة جورج أنطون، في الاتصال الهاتفي الأخير معه.

وترك رحيل البابا في 21 أبريل 2025 أثره على المسيحيين؛ حيث كان يتصل يوميا بكنيسة العائلة المقدسة في مدينة غزة حوالي الساعة الثامنة مساءً، وفق ما صرح  راعي الرعية الكاثوليكية بالقطاع الأب غابرييل رومانيللي.

وقال رومانيللي لشبكة سي إن إن الأميركية: إن البابا كان يتصل يوميا  في معظم الأيام، وكانت المكالمة تستغرق حوالي 15 دقيقة، يتحدث خلالها مع قادة الكنيسة وبعض الفلسطينيين الذين لجأوا إليها.

ومنذ البداية، دعا فرنسيس مرارًا وتكرارًا إلى إنهاء الحرب، وكان منتقدًا صريحًا للحصار الإسرائيلي على القطاع. 

وفي رسالته بمناسبة عيد الفصح قبل وفاته بيوم، تمنى أن "يشعّ نور السلام في جميع أنحاء الأرض المقدسة والعالم أجمع".

وجاء في رسالته: "أُفكّر في سكان غزة، وفي مجتمعها المسيحي على وجه الخصوص، حيث لا يزال الصراع الرهيب يُسبب الموت والدمار، ويخلق وضعا إنسانيا مأساويا ومُزريًا".

وتابع: "أُناشد الأطراف المتحاربة: أن تدعو إلى وقف إطلاق النار، وأن تُطلق سراح الرهائن (الإسرائيليين)، وأن تساعد شعبًا يتضور جوعًا ويتطلع إلى مستقبلٍ يسوده السلام!".