أبناء زايد.. صراع طحنون وهزاع يعيد رسم خريطة السلطة في أبوظبي

داود علي | منذ ١٢ ساعة

12

طباعة

مشاركة

فيما تقدم الإمارات نفسها للعالم كنموذج عربي للحداثة والانفتاح والابتكار، تخفي جدران قصر الحكم صراعا داخليا محتدما بين شقيقين نافذين من العائلة الحاكمة، نائب حاكم أبو ظبي ومستشار الأمن القومي، طحنون بن زايد، وممثل الحاكم في منطقة العين، هزاع بن زايد.

ورغم أن الصراع لا يعلن عنه رسميا، لكنه وفق تقرير موسع نشره موقع "إنسايد أوفر" الإيطالي في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، يعكس تناقضا عميقا في هوية الدولة بين عقل تقني وهو طحنون الذي يطمح إلى السيطرة عبر المال والاستخبارات، وآخر محافظ وهو هزاع الذي يسعى للعودة إلى الجذور التقليدية للسلطة.

من الخارج، تلمع أبراج دبي وأبوظبي كرموز للتقدم والازدهار، لكن في الداخل، تدور معركة هادئة حول من يمسك بالخيوط الحقيقية للحكم، ومن يرسم ملامح مستقبل الإمارة الأقوى في الخليج بعد صعود محمد بن زايد إلى الرئاسة.

منظومة ابن زايد

منذ رحيل خليفة بن زايد عام 2022 وصعود شقيقه محمد بن زايد إلى قمة الدولة، دخلت الإمارات مرحلة جديدة من إعادة هيكلة النفوذ داخل البيت الحاكم.

ففي مارس/ آذار 2023، أصدر محمد بن زايد قرارات وصفت بأنها إعادة توزيع دقيقة لمراكز القوة، حين عين شقيقيه طحنون وهزاع بن زايد نائبين لحاكم أبوظبي، إلى جانب تعيين ابنه خالد بن محمد بن زايد وليا للعهد ووريثا للحكم.

كانت هذه الخطوة بمثابة نهاية غير معلنة لقاعدة التوريث الأفقي التي حكمت انتقال السلطة لعقود داخل أسرة آل نهيان، لتبدأ مرحلة الوراثة الرأسية من الأب إلى الابن.

لكن هذه الترتيبات لم تلغ نفوذ الإخوة، بل فتحت الباب أمام تنافس خفي بينهم، خصوصا بين طحنون وهزاع، اللذين يمثلان تيارين مختلفين داخل النظام نفسه.

منذ عام 2016، يشغل طحنون منصب مستشار الأمن الوطني، لكنه يتجاوز بكثير حدود هذا اللقب البروتوكولي.

فهو كما يصفه تقرير "إنسايد أوفر"، الرجل الأقوى بعد الرئيس، والعقل المدبر وراء شبكة مالية واستخباراتية تمتد من أبوظبي إلى آسيا وإفريقيا وأوروبا.

يسيطر طحنون على منظومة اقتصادية عملاقة تقدر قيمتها بأكثر من 1.5 تريليون دولار، تتوزع بين شركات واستثمارات سيادية مثل رويال غروب وADQ وإنترناشونال هولدنغ (IHC)، وهي اليوم الذراع الاقتصادية الأقوى في الشرق الأوسط.

لكن ما يجعل طحنون مختلفا عن أي من أشقاء محمد بن زايد، هو امتلاكه أدوات القوة الجديدة، المال، التكنولوجيا، والبيانات.

فهو يقف خلف شركتي G42 وMGX، اللتين أصبحتا مركز نفوذ إماراتي في الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني والتقنيات الحيوية، وشريكتين لعمالقة التكنولوجيا مثل مايكروسوفت وبلاك روك.

وقد تحول هذا الامتداد إلى إمبراطورية ظل تمكنه من التأثير في القرارات الاقتصادية والسياسية على حد سواء.

وتشير تقارير متعددة مثل "الإمارات ليكس" في 6 يوليو/ تموز 2025، إلى أن هذه القوة الاقتصادية الهائلة ليست سوى واجهة لصلاحيات أوسع في ملفات الأمن والسياسة الخارجية؛ إذ يتهم طحنون بالإشراف على عمليات استخباراتية غير معلنة.

وتشتمل هذه العمليات على حملات تجسس واختراقات رقمية، فضلا عن تنسيق أنشطة إماراتية في صراعات مثل ليبيا واليمن والسودان عبر شبكات من الشركات الأمنية والمالية.

هذه القدرة على التحرك في المنطقة الرمادية بين الأمن والاقتصاد جعلت منه أشبه بـ"رجل الدولة العميقة" الذي يعمل بعيدا عن الأضواء.

في المقابل، يظهر هزاع بن زايد كوجه أكثر هدوءا وارتباطا بالمجتمع المحلي الإماراتي.

فقد شغل في التسعينيات رئاسة جهاز الأمن الوطني، قبل أن ينتقل تدريجيا إلى مواقع ذات طابع إداري وتمثيلي، أبرزها نائب حاكم أبوظبي وممثل الحكومة في منطقة العين منذ 3 ديسمبر/ كانون الأول 2024.

هزاع هو الابن الذي ظل قريبا من القاعدة الاجتماعية في الداخل، بعيدا عن شبكات المال العابرة للحدود التي يديرها إخوته.

يحرص على لقاء شيوخ القبائل وممثلي المجتمع المحلي، ويبدو كمن يسعى إلى ترميم صورة الحاكم الأبوي التقليدي، مقابل شقيقه طحنون الذي يرمز إلى الحاكم التقني الصامت.

غير أن هذا الهدوء لا يعني غياب الطموح، فهزاع حاول في السنوات الأخيرة توسيع نطاق نفوذه نحو الملفات الأمنية والإقليمية التي كانت تحت سيطرة طحنون، ومنها العلاقات مع الوكلاء الإقليميين في اليمن وليبيا والسودان.

وقد أثار ذلك حساسية داخل الدائرة المقربة من محمد بن زايد، لأن هذه الملفات تعد خطوطا حمراء مرتبطة مباشرة بالأمن القومي الإماراتي.

صراع العقول

ذلك التباين بين الأخوين يعكس وجهين متناقضين في هوية الإمارات نفسها، طحنون يجسد الإمارات الجديدة، دولة الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي والشركات العابرة للقارات.

بينما يمثل هزاع الإمارات القديمة، الدولة التي ما تزال تحرص على الروابط الاجتماعية والتراتبية القبلية، وعلى نموذج الحاكم القريب من الناس.

هذا الصدام بين الحداثة التكنولوجية والشرعية التقليدية لم يكن مجرد تباين في الرؤى، بل أصبح وفق بعض المراقبين الغربيين تنافسا على من يرسم ملامح الدولة بعد محمد بن زايد.

ففي وقت يستعد فيه ولي العهد خالد بن محمد لتولي القيادة مستقبلا، يزداد حضور طحنون كقوة تنفيذية حقيقية تمسك بالمال والاستخبارات، بينما يحتفظ هزاع بصلاته القديمة في البيروقراطية العسكرية والمدنية.

وهو ما أشار إليه تقرير موقع "إنتيليجنس أونلاين" الفرنسي المختص بشؤون الاستخبارات، في سبتمبر/ أيلول 2025، عن وجود "خلافات متزايدة بين الأخوين حول إدارة وكلاء الإمارات في الخارج"، في إشارة إلى أن الصراع تجاوز البنية الداخلية ليؤثر في السياسة الإقليمية للدولة.

لا سيما أنه في السنوات الأخيرة، أصبح اسم طحنون مرتبطا بشبكات النفوذ غير المعلنة التي تمارس دورا شبيها بـ"دبلوماسية الظل" الإماراتية.

فهو من يقود المشاريع الكبرى في مجالات التكنولوجيا والأمن السيبراني عبر شراكات مع دول مثل الصين وإسرائيل والولايات المتحدة.

ويتهم وفق تقارير غربية بلعب دور مركزي في عمليات مراقبة رقمية استهدفت معارضين وصحفيين، مستفيدا من تقنيات التجسس الإسرائيلية وبرامج المراقبة الأوروبية.

أما هزاع، فينظر إليه بوصفه أقل انخراطا في هذا الجانب الاستخباراتي، وأكثر ميلا إلى الدور التمثيلي داخل الإمارات، وهو ما جعله أقرب إلى وجه النظام الاجتماعي لا الأمني.

ومع ذلك، فإن محاولة توسيع صلاحياته الداخلية والخارجية أثارت توترا متزايدا مع شقيقه طحنون، ما جعل بعض المحللين يصفون العلاقة بينهما بأنها “تحالف هش مهدد بالانفجار في أي لحظة”.

توازن القوى

لذلك، فإنه حين قرر محمد بن زايد تعيين ابنه خالد وليا للعهد، في 29 مارس/ آذار 2025، بدا واضحا أنه يريد إنهاء أي احتمال لصراع بين الإخوة على الخلافة.

لكن هذه الخطوة، رغم ما حملته من وضوح في مسار الحكم، فتحت الباب أمام سباق غير معلن للنفوذ بين الأجنحة الثلاثة، ولي العهد الشاب الذي يمسك بالملفات العسكرية والأمنية.

وطحنون الذي يحتكر مفاتيح الاقتصاد والاستخبارات، وهزاع الذي يراهن على علاقاته الاجتماعية والتاريخية داخل المؤسسة الإماراتية.

ويبدو أن الرئيس محمد بن زايد يدير هذه التناقضات بسياسة "الميزان الذهبي"، توزيع المناصب العليا لضمان الولاء وتجنب الانقسام، من دون السماح لأي جناح بأن يستقل بمركز القرار.

لكن هذه المعادلة، تبقى هشة بطبيعتها، لأنها تعتمد على شخصية الحاكم وقدرته على ضبط الإيقاع الداخلي، أكثر من اعتمادها على مؤسسات أو دستور يحكم العلاقة بين مراكز القوة.

ومع ذلك، لا يمكن فصل الصراع الداخلي بين الأخوين عن الملفات الإقليمية التي تديرها أبوظبي منذ عقد من الزمن.

ففي ليبيا، ارتبط اسم طحنون بدعم الجنرال الانقلابي الليبي خليفة حفتر، وبتنسيق شبكات التمويل والتسليح الخاصة بالقوات الموالية له، في حين يعتقد أن هزاع كان أكثر حذرا في التعاطي مع هذا الملف، مفضلا العلاقات المدنية والمؤسسية.

وفي اليمن، كان طحنون الداعم الأكبر لتوسيع نفوذ المجلس الانتقالي الجنوبي في عدن، عبر تمويل مباشر من مؤسسات تحت إشرافه، بينما كان هزاع يميل إلى مقاربة أكثر توازنا مع الحكومة الشرعية.

أما في السودان، فقد أصبح ملف “الدعم السريع” برئاسة محمد حمدان دقلو (حميدتي) من أبرز نقاط الجدل داخل النظام الإماراتي، حيث يتهم جناح طحنون بإدارة التمويل واللوجستيات لتلك المليشيات قبل اندلاع الحرب الأهلية في 2023، وهو ما تسبب لاحقا في حرج دبلوماسي كبير لأبوظبي.

هذه التباينات في إدارة الملفات الخارجية تعكس بحسب المراقبين، تنافسا على تعريف مفهوم "الأمن القومي الإماراتي".

هل هو النفوذ الخارجي عبر القوة الناعمة والتكنولوجيا؟ أم الحفاظ على الاستقرار الداخلي عبر الروابط الاجتماعية والولاءات المحلية؟

وهو سؤال لم يحسم بعد داخل دوائر الحكم، لكنه يعكس بوضوح التباين بين رؤية طحنون وهزاع.

لذلك يبقى السؤال الأهم في أروقة أبوظبي، ماذا سيحدث حين يختفي الضابط المنظم محمد بن زايد من المشهد؟

فهو اليوم يمسك بيده خيوط السلطة كافة، من الجيش إلى الصناديق السيادية، ومن الاستخبارات إلى السياسة الخارجية.

لكن بعده، قد يجد النظام نفسه أمام ثلاثة مراكز نفوذ متوازية، لكل منها قاعدة دعم وشبكة مصالح خاصة.

ويرى تقرير للمعهد الألماني للشؤون الدولية في 8 يوليو 2025، أن "الاستقرار الإماراتي قائم على التوازن بين الأجنحة لا على قوة المؤسسات".

وبالتالي، فإن أي خلل في هذا التوازن ولو كان بسيطا، يمكن أن يفجر خلافات داخلية تهدد التماسك الذي حافظت عليه الدولة منذ تأسيسها.

أما في حال استمرار تركز النفوذ الاقتصادي والأمني في يد طحنون، فقد يتحول إلى الرجل الأقوى فعليا في مرحلة ما بعد محمد بن زايد، ما يضع ولي العهد الشاب في موقع يحتاج إلى تحالفات داخلية مع أعمامه للحفاظ على سلطته.

معركة المستقبل

وقال الباحث السياسي محمد ماهر: إن "الصورة اللامعة التي تقدم بها الإمارات للعالم لا تعبر بالضرورة عن واقعها الداخلي".  

وأوضح ماهر لـ"الاستقلال" أنه "في الظاهر تبدو الإمارات قصة نجاح مكتملة الأركان، دولة تبني مستقبلها عبر الذكاء الاصطناعي، وتنافس على قيادة العالم الرقمي، وتبرم اتفاقيات سلام واستثمار مع الشرق والغرب". 

لكنه يضيف أن "خلف هذه الواجهة التكنولوجية المبهرة تكمن مفارقة بنيوية عميقة بين ما تظهره الدولة وما يجري داخل بيت الحكم نفسه".

ولفت ماهر إلى أن الإمارات "تسوق لنفسها كقوة تقدمية حديثة، لكنها لا تزال تدار بعقلية العائلة المالكة التي تتحكم في مفاصل الاقتصاد والأمن والقرار السياسي ضمن دوائر مغلقة، وهو ما يجعل الصراع القائم بين طحنون وهزاع يتجاوز الخلافات العائلية ليصبح صراعا على هوية الدولة".

ورأى أن "هذا التناقض بين التحديث والانغلاق هو أخطر ما تواجهه الإمارات اليوم، لأنه يضعها أمام مفترق طرق، إما أن تواصل طريقها كمختبر عالمي للذكاء الاصطناعي والابتكار السياسي، أو أن تعود إلى منطق الحكم التقليدي القائم على الولاءات الشخصية وشبكات النفوذ القديمة".

ويرى ماهر أن "محمد بن زايد قد ينجح مؤقتا في الحفاظ على تماسك العائلة الحاكمة، لكن التاريخ الخليجي يثبت أن الصراعات داخل القصور لا تحسم بتوازن المناصب بل بالقدرة على الإمساك بمفاصل الدولة".

وأضاف أن "من يملك المال والتكنولوجيا والأمن السيبراني، أي طحنون، يملك أوراقا أقوى من الجميع، غير أن من يملك القبائل والرمزية المحلية، أي هزاع، يحتفظ بشرعية لا تُشترى بالمال".

وأشار إلى أن "ولي العهد خالد بن محمد يقف اليوم على خيط مشدود، يحاول أن يرث دولة حديثة من الخارج لكنها متصدعة من الداخل". 

واختتم ماهر حديثه بالقول: إن "مستقبل الإمارات لن يرسم في مؤتمرات الذكاء الاصطناعي، بل في الاجتماعات المغلقة داخل القصر الرئاسي؛ حيث تدار الصراعات الهادئة بين الإخوة".