من توترات خاشقجي إلى تفاهمات سوريا.. علاقات تركيا والسعودية إلى أين؟

"أنقرة والرياض تُعمّقان العلاقات الاقتصادية، بينما تتباعدان بهدوء في السياسة الخارجية"
في السنوات الأخيرة، شهدت العلاقات السعودية-التركية، منذ الأزمة الدبلوماسية التي فجّرها مقتل جمال خاشقجي، تحوّلا من التباعد إلى تقارب حذر.
فقد خلّف القتل الوحشي للصحفي السعودي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول عام 2018 ندبا عميقا في العلاقات الثنائية، ودفع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى اتخاذ موقف تصادمي غير معتاد.
وعن الحالة الراهنة، يقول موقع "ذا ميديا لاين" الأميركي: إن أنقرة والرياض تُعمّقان العلاقات الاقتصادية، بينما تتباعدان بهدوء في السياسة الخارجية وقيادة المنطقة. مشيرا إلى أن البلدين يسيران جنبا إلى جنب، لكن ليس بالضرورة نحو الوجهة نفسها.

تباينات عميقة
ونقل الموقع عن جان ماركو، الباحث المشارك في "المعهد الفرنسي للدراسات الأناضولية" في إسطنبول، أن "أردوغان انتقد الأمر علانية، لكنه في الوقت نفسه شدد على أن الجريمة وقعت فوق الأراضي التركية، وهو ما لا يمكن التغاضي عنه".
ولم تكن قضية خاشقجي مجرد أزمة دبلوماسية؛ إذ كشفت عن توترات تتعلق بالتنافس على قيادة الإقليم، ودور الإسلام السياسي، وجهود أنقرة لترسيخ مكانتها كفاعل أخلاقي في وقت كانت دول الخليج تسعى فيه لترسيخ نفوذها. وفق التقرير.
وقال ماركو: إن "هذه الأزمة ألحقت ضررا بالغا بالعلاقة، خصوصا أن خاشقجي قصد القنصلية من أجل الزواج من امرأة تركية، ولم تكن المسألة سياسية فحسب، بل تحولت إلى قضية شخصية في نظر الرأي العام التركي".
واليوم، يبدو أن البلدين تجاوزا تلك المرحلة بشكل كبير، ففي الفترة التي سبقت إعادة انتخاب أردوغان عام 2023، سعت أنقرة إلى إصلاح علاقاتها مع دول الخليج، مدفوعة إلى حدّ كبير بتدهور الاقتصاد المحلي والحاجة الملحّة لجذب الاستثمارات الأجنبية.
وقد شكّلت زيارة أردوغان إلى الرياض بعيد فوزه في الانتخابات إشارة واضحة إلى جدية هذا التقارب.
وأضاف ماركو أن "تركيا كانت بحاجة إلى استثمارات جديدة وبسرعة"، مشيرا إلى أن تطبيع العلاقات مع دول الخليج، بدءا بالإمارات ثم السعودية، كان جزءا من تحول إقليمي أوسع.
وأردف بأن "الاقتصاد التركي كان يمرّ بمرحلة حساسة، ولم تكن الاستثمارات الخليجية موضع ترحيب فحسب، بل كانت ضرورة".
أما من الجانب السعودي، فقد انطلق هذا التحول من منطلق الفرصة المشتركة.
وقال المحلل السياسي السعودي عبد العزيز الشعباني: "هناك إدراك متزايد في العاصمتين لحاجتهما المتبادلة".
وأضاف: "من الناحية الاقتصادية، فإن فرص الاستثمار كبيرة؛ فالسياحة والطاقة والخدمات اللوجستية كلها مطروحة، والشركات التركية منخرطة بعمق في مشاريع البنية التحتية في الخليج، والصناديق السعودية بدأت تضخّ أموالها مجددا في تركيا".
ورغم دفء الزيارات رفيعة المستوى وتوسّع العلاقات الاقتصادية، يبدو أن الحكومتين تسلكان مسارات إقليمية تزداد تمايزا -وفق التقرير- وتُعدّ سوريا أحد أبرز الأمثلة على ذلك.

الملف السوري
فبعد سقوط بشار الأسد، أدّت مرحلة انتقالية بقيادة الرئيس أحمد الشرع إلى فتح آفاق دبلوماسية جديدة في المنطقة.
وفي إطار إعادة ترسيخ الحضور السوري، أجرى الشرع زيارات متتالية لعواصم إقليمية وخليجية، بدأت بالرياض ثم أنقرة، ما عكس نفوذ كل من السعودية وتركيا في رسم مستقبل سوريا.
وقال ماركو: "هذا لم يكن عشوائيا". مضيفا أن "الرسالة كانت واضحة: السعودية تتصدر جهود التطبيع، فيما تعد تركيا شريكا ضروريا ولكن في مرتبة تالية".
ولا تزال الدولتان منخرطتين بعمق في الميدان؛ فتركيا تواصل دعم الهياكل المعارضة في شمال سوريا، وتضطلع بدور محوري في إعادة بناء الدولة، بينما تدفع السعودية نحو أطر دبلوماسية واقتصادية من الخليج.
وقال ماركو: "تركيا والسعودية هما من أبرز الفاعلين الخارجيين الذين يشكّلون مستقبل سوريا حاليا، ولديهما موقف متقارب في الوقت الراهن، لكن هذا قد يتحول إلى تنافس، خصوصا فيما يتعلق بالنفوذ السياسي وجهود إعادة الإعمار"
وخلال زيارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الأخيرة إلى الخليج، باتت الصورة المتغيرة أكثر وضوحا.
وتحت القيادة السعودية، رفعت واشنطن رسميا العقوبات عن سوريا، وهي خطوة غير متوقعة مثّلت نقطة تحول في الدبلوماسية الإقليمية، بحسب الموقع الأميركي.
وتبعت الرياض هذه الخطوة بسداد جزء من ديون سوريا الدولية، مما رسّخ دورها كممول أساسي لإعادة دمج سوريا إقليميا، إلى جانب دور الوسيط.
ولم تمرّ هذه الخطوة دون أن تلقى صدى في أنقرة؛ إذ عبّر الرئيس أردوغان علنا عن شكره لنظيره الأميركي على رفع العقوبات، في إشارة إلى دعم أنقرة لمسار لم تكن هي من قادته.
وعلّق ماركو: "اعتراف أردوغان العلني بخطوة ترامب يوضح رغبة تركيا في أن تكون جزءا من هذا المسار الواسع، دون أن تسعى لقيادته بالضرورة"، مضيفا: "من الواضح أن السعودية كانت هي من حدّد الإيقاع".
وفي الوقت الراهن، تفضّل الحكومتان التنسيق على التنافس، رغم أن أهدافهما طويلة الأمد في سوريا لا تزال غير متوافقة.
وقال الشعباني: "هناك تعاون حذر فيما يخص الأزمات الإقليمية مثل سوريا أو السودان، ولا يرغب أي طرف في زيادة حالة عدم الاستقرار"، مضيفا: "ما نشهده هو انتقال نحو تنسيق إستراتيجي، حتى وإن لم يصل إلى انسجام كامل في الرؤى".
وأوضح التقرير أن هذا التباين يصبح أكثر وضوحا عند النظر إليه من منظور علاقة كل دولة بالولايات المتحدة.
فقد تمكنت السعودية من الحفاظ على علاقات عمل قوية مع واشنطن رغم بعض الخلافات السياسية العرضية. وقد عززت زيارة ترامب -التي شهدت توقيع اتفاقيات تجارية كبرى إلى جانب رفع العقوبات عن سوريا- موقف الرياض كشريك رئيس لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة.
في المقابل، تواجه تركيا ديناميكية أكثر تعقيدا. فقد أدى حصول أنقرة على منظومات الصواريخ الروسية "إس-400" إلى استبعادها من برنامج المقاتلة "إف-35" في عام 2019، مما دفعها إلى استكشاف بدائل مثل المقاتلة الأوروبية "يوروفايتر تايفون".
وقال ماركو: "هذا البرنامج مهم جدا لتركيا لتحديث قواتها الجوية". وأضاف: "توجد شائعات بأن تركيا قد تُعاد إلى البرنامج، وسيكون ذلك اختبارا حقيقيا للعلاقات الأميركية-التركية".

الموقف من إسرائيل
ويتجلى التباين أيضا في مواقف البلدين من الحرب في غزة ومسألة تطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي.
وفيما تواصل الرياض عملية دبلوماسية بطيئة وهادئة، مؤكدة أنها ستتحرك وفق شروطها الخاصة، تتبنى تركيا موقفا أكثر صداما، فقد أدان الرئيس أردوغان جهارا العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، ويُبقي على علاقات قوية مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
وقال ماركو: إن "تركيا تسعى للظهور بصفتها المدافع الأول عن القضية الفلسطينية في الإقليم، وهذا ليس مجرد موقف ديني، بل قرارا إستراتيجيا، أما السعودية، فتُتهم في الشارع العربي بأنها قريبة جدا من إسرائيل ومتخاذلة جدا مع فلسطين".
وقد أثارت تكهنات حول احتمال انضمام سوريا إلى اتفاقات التطبيع -مدفوعة بتصريحات من الرئيس ترامب وتقارير عن اجتماعات غير معلنة ضمت مسؤولين أتراكا وإسرائيليين في الأسابيع الأخيرة- مزيدا من التساؤلات.
لكن ماركو بدا متحفظا، وقال: "من السابق لأوانه الجزم بما إذا كان هذا واقعيا". وأضاف: "إن صحت هذه التقارير، فذلك يتناقض مع سياسة تركيا القائمة على عزل إسرائيل إقليميا، ويمثل انحرافا كبيرا عن النهج الحالي لأردوغان".
ورغم تحسن اللهجة بين أنقرة والرياض بشكل ملحوظ وتعمّق التعاون الاقتصادي، إلا أن الرؤى السياسية التي توجه كل عاصمة باتت أكثر تمايزا، وفق التقرير.
فالسعودية تتبنى دورها كقوة استقرار إقليمي ومستثمر عالمي، محافظة على علاقاتها مع واشنطن وموسّعة لنفوذها عبر الدبلوماسية الاقتصادية.
أما تركيا، فتسعى لإبراز نفسها كفاعل مستقل، يتعامل مع الغرب بشروطه الخاصة، وغالبا من خلال تحالفات بديلة.
وقال الشعباني: "لن نعود إلى الوراء، هذه علاقة براغماتية تقوم على مصالح مشتركة، لكنها تتسم أيضا باختلافات واضحة في الرؤية والسياسة الخارجية".
وأضاف ماركو: "قد يسيران جنبا إلى جنب، لكن ليس بالضرورة نحو الوجهة نفسها".