"أنا أو الفوضى".. مآلات رفض ماكرون تشكيل حكومة يسارية بفرنسا
"يجب أن يكون هناك رد شعبي وسياسي سريع وحازم على محاولات ماكرون اختطاف الديمقراطية"
تعيش فرنسا انسدادا سياسيا منذ فوز الائتلاف اليساري بالعدد الأكبر من مقاعد البرلمان في انتخابات 7 يوليو/ تموز 2024، بسبب رفض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الموافقة على تولي شخصية يسارية، رئاسة الوزراء.
ماكرون رفض يوم 26 أغسطس/ آب 2024 تشكيل الحكومة المقبلة من طرف "الجبهة الشعبية الجديدة"، وهي تحالف اليسار الذي يدافع عن الفقراء ويتبنى أفكارا اشتراكية والذي تصدر نتائج الانتخابات التشريعية.
رفض تكليف مرشحة اليسار "لوسي كاستيه"، برئاسة الحكومة، لتظل حكومته السابقة المستقيلة تحكم فرنسا منذ قرابة شهر ونصف الشهر، في وضع غير مسبوق منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفق وكالة الأنباء الفرنسية في 29 أغسطس/آب 2024.
صحف فرنسية بدأت تتهم ماكرون بالديكتاتورية وأنه يقوض الديمقراطية، واتهمه محللون سياسيون بالاستمرار في اعتناق مبدأ "أنا أو الفوضى" الذي سعى إلى فرضه منذ بداية ولايته الأولى.
سبب الأزمة
عقب خسارة حزبه نتائج الانتخابات البرلمانية، اضطر الرئيس الفرنسي ماكرون لقبول استقالة حكومة "غابرييل أتال" الموالية له، في منتصف يوليو/تموز 2024، لكنها بقيت لتسيير الأعمال.
استغل ماكرون دورة الألعاب الأولمبية في باريس من 26 يوليو حتى 11 أغسطس/آب 2024، ليقنع المعارضة بـ "هدنة سياسية" ويبقي حكومته المستقيلة في الحكم ومحاولة فرض حكومة فنية أو غير حزبية خلال هذه الفترة.
رغم انتهاء الألعاب الأولمبية، استمر ماكرون في تجاهل دعوات اليسار الذي تصدر نتائج الانتخابات التشريعية، بتعيين رئيس للوزراء من صفوفه.
وفازت "الجبهة الشعبية الجديدة" التي شكلتها أحزاب اليسار، بغالبية مقاعد البرلمان (الجمعية الوطنية)، لكن لأن هذه المقاعد لا تخول لها أغلبية مطلقة، زعم ماكرون أنها لو شكلت حكومة ستسقطها باقي الأحزاب.
وتوزعت مقاعد البرلمان على ثلاث كتل برلمانية هي: الجبهة الشعبية الجديدة (193 مقعدا برلمانيا) والمعسكر الرئاسي لليمين الوسط (163 مقعدا) واليمين المتطرف (143 مقعدا).
ولم يتمكن أي تحالف أو حزب من الحصول على 289 مقعدا من أصل 577 مقعدا لضمان الأغلبية المطلقة.
وفي مقابلة تلفزيونية معه نشرتها صحيفة "لوموند" في 23 يوليو 2024، قال ماكرون إنه يرفض اقتراح اليسار تعيين مرشحته رئيسة للوزراء، لأن "أحدا لم يفز" في الانتخابات، و"غير الصحيح إن الجبهة الشعبية الجديدة لديها الأغلبية".
وأطلق ماكرون يوم 23 أغسطس 2024 مشاورات مع الكتل السياسية في قصر الإليزيه للتوصل إلى مرشح لتولي رئاسة الحكومة خلفا لغابرييل أتال، وتشكيل حكومة جديدة، لكن الجميع فوجئ برفضه ترشيح اليسار رئيسة وزراء منه.
فعندما انتهت المحادثات، أصدر الرئيس بيانا كرر رفضه في 26 أغسطس وأعلن أنه لن يعين رئيسا للوزراء من اليسار، زاعما أنه في غياب الأغلبية في الجمعية الوطنية، فسوف يواجه اليسار تصويتا بحجب الثقة.
وعرض ماكرون "مرشحا توافقيا"، لكن تحالف "الجبهة الشعبية الجديدة" اليساري، الذي يضم حزب فرنسا الأبية الراديكالي والحزب الاشتراكي وحزب الخضر (أنصار البيئة) والحزب الشيوعي، شددوا على أحقيتهم في تولي رئاسة الحكومة وتشكيلها.
ونددت الجبهة بـ "مماطلة" الرئيس إيمانويل ماكرون في تعيين الحزب الفائز بأكبر مقاعد البرلمان لرئاسة الحكومة وإدخاله البلاد في حالة فوضى وتشرذم، بحجة خشيته أن يصوت التكتلان الآخران في البرلمان، ضد هذه الحكومة اليسارية.
وبرر ماكرون استبعاده بشكل قاطع تسمية مرشحة اليسار لوسي كاستيه رئيسة للوزراء، بتهديد حزبه الرئاسي وأحزاب اليمين المتطرف والمحافظ بحجب الثقة عن أي حكومة تضم وزراء من حزب "فرنسا الأبية" اليساري.
وقد أحرجه زعيم حزب "فرنسا الأبية جان ليك ميلانشون وتحداه بقوله: هل تتعهد بعدم التصويت لحجب الثقة عن الحكومة اليسارية والسماح لها بتطبيق برنامج تحالف اليسار لو لم نشارك في الحكومة؟
رئيس استبدادي
انهالت الاتهامات على ماكرون، من الأحزاب والصحف الفرنسية، بأنه رئيس استبدادي، ولا يريد الديمقراطية، ويسعى لتقويضها في فرنسا.
ندد السكرتير الأول للحزب الاشتراكي "أوليفيه فور"، في تصريحات صحفية، بما عدها "مهزلة ديمقراطية" وقال إنه لن يشارك في أي مشاورات مع ماكرون.
وقالت رئيسة حزب الخضر مارين توندولييه: "لن نستمر في هذا السيرك الذي ينصبه ماكرون" أي المشاورات لتشكيل الحكومة.
واتهمته أحزاب اليسار بـ "الانجراف الاستبدادي" وقالت إن ماكرون "اختار الدوس على أصوات الفرنسيين"، وأن هذا "يشكل تهديدا للديمقراطية الفرنسية".
موقع "ميديابارت" الفرنسي اتهم ماكرون بأنه "رئيس جمهورية خارج عن السيطرة"، لأنه رغم خسارته الانتخابات يحاول فرض مرشح لرئاسة الوزراء موالٍ له، وليس من اليسار الفائز بالأغلبية.
أكد أن هناك سوء نية لدى المعسكر الرئاسي الذي سعى إلى استخدام كل الوسائل واستخدم العديد من الحجج لتبرير رفضه للتعايش الحقيقي، بينما "الحقيقة هي أن رئيس الجمهورية وأنصاره لا يريدون تغيير سياساتهم"، وفق الموقع.
ذكر أن الأمر واضح للجميع باستثناء ماكرون، فهو قد خسر الانتخابات التشريعية وأكّدت الجولة الأولى من التصويت رفض سياساته، وأثبتت الجولة الثانية أن أغلبية الشعب الفرنسي لا تريد وصول اليمين المتطرف إلى السلطة.
ومن ثم فالبديل الذي حاول ماكرون فرضه منذ بداية ولايته الأولى التي تمتد لخمس سنوات هو سيناريو "أنا أو الفوضى"، كما يقول موقع "ميديابارت".
ورأى "ميديابارت" أن ماكرون قوض الديمقراطية في كثير من النواحي، لأنه لم يتجاهل نتائج الانتخابات فحسب، بل سمح لنفسه أيضا بعزف موسيقى مزعجة بالحفاظ على حكومة مستقيلة لفترة هي الأطول من نوعها، ليكون هو الحاكم الأوحد.
واتهم الموقع الرئيس الفرنسي بأنه يتعمد تكرار الاخطاء، حيث أصدر قرارا بإصلاح نظام التقاعد بالقوة، وأقر قانون هجرة يعلم أنّه غير دستوري، وأسهم إلى حد كبير في تشويه مؤسسات البلاد.
والآن يستفز ماكرون الجميع بمزاعم أن تعيين مرشحة "الجبهة الشعبية الجديدة" اليسارية يضر استقرار البلاد، وفق "ميديا بارت"
"راديو فرنسا" اتهمه أيضا بأنه "الرئيس الذي خرج عن دوره في الحكم ويقوض الديمقراطية"، لأنه يرفض تسليم الحكومة إلى اليسار.
وقالت صحيفة لوموند الفرنسية إنه "من أجل مصلحة الديمقراطية"، كان ينبغي لماكرون، في "غياب أي احتمال واضح آخر"، أن يسمح للمرشح اليساري بأن يصبح رئيسا للوزراء.
كتبت الصحيفة في افتتاحيتها تقول: "لماذا لا يسمح ماكرون للتجربة بالاستمرار بدلا من محاولة تأكيد السيطرة بأي ثمن على أمل الحفاظ على سياسته لأطول فترة ممكنة، حتى بعد رفضها"؟
أضافت أن "إطالة أمد حكومة منتهية ولايتها تتصرف وكأن أي تغيير لم يحدث عبر صناديق الاقتراع أمر مضر وغير مسبوق في فرنسا".
وقال فيليب مارليير، أستاذ السياسة الفرنسية والأوروبية بجامعة لندن، لموقع "الجزيرة" الإنجليزي إنه "من غير المهم" أن يقرر ماكرون مسبقًا ما إذا كانت حملة المرشحة اليسارية للحصول على ثقة البرلمان ستنجح أم لا".
وتقول الكاتبة في صحيفة "الغارديان"، رُخايا ديالو: “لقد رفض الناخبون الفرنسيون ماكرون، فلماذا لا يزال يحاول أن يفرض علينا من يحكمنا؟”
وصفت رفض الرئيس ماكرون تعيين رئيس وزراء جديد من اليسار بأنه "غطرسة مذهلة تقوض ديمقراطيتنا".
قالت: "إن فصل السلطات لا ينبغي أن يسمح للرئيس بالتدخل في تشكيل الأغلبية".
واتهمته كاتبة "الغارديان" بأنه "أصبح رئيسا استبداديا ولا يمكننا أن نقبل مثل هذا السلوك في ظل الديمقراطية".
وهذه التطورات دفعت قادة الائتلاف اليساري، مثل "فرانسوا روفين" لتهديد ماكرون أن يعود إلى اللعبة السياسة ولا يخالفها، مؤكدين أنه "إذا لم يرضخ ماكرون فسيلجأون للبرلمان لوضع حدود لسلطته"، بحسب صحيفة "لوموند" في 31 أغسطس/آب 2024.
4 سيناريوهات
بحسب صحف باريس، هذه هي المرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة الفرنسية التي لا يتم فيها تكليف الحزب الحائز على أكبر عدد من المقاعد في الجمعية الوطنية بتشكيل الوزارة والحكم.
وأكدت أن قرار ماكرون الرافض لتكليف مرشحة الحزب اليساري بتشكيل الحكومة يقوض أسس الديمقراطية، خاصة أنه يهدد بإسقاطها ثم يبرر رفضها بأنها ستسقط في التصويت أمام البرلمان!
بحسب تقارير في صحف فرنسية وأجنبية هناك 4 سيناريوهات محتملة لحل الأزمة، هي تشكيل حكومة وحدة وطنية، أي حكومة بدون اليسار الراديكالي واليمين المتطرف معا، أو حكومة فنية لا حزبية، أو حكومة من تحالف ماكرون اليمين الوسط مع أحزاب يمينية متشددة، أو إقالة ماكرون نفسه وتشكيل اليسار الحكومة.
"الخيار الأول" المطروح، والذي يدفع في اتجاهه الرئيس ماكرون، هو تشكيل حكومة وحدة وطنية لا تضم أحزاب أقصى اليمين المتطرف أو اليسار الراديكالي.
وقد أشار الرئيس ماكرون لهذا يوم 23 أغسطس 2024، بدعوته "جميع القادة السياسيين إلى الارتقاء إلى مستوى الحدث وإظهار روح المسؤولية"، ومطالبته الاشتراكيين والشيوعيين والمدافعين عن البيئة بالتعاون مع القوى السياسية الأخرى.
بيد أن محللين فرنسيين يرون أن خيار حكومة وحدة وطنية سيفشل لأنه سيكون من الصعب اتفاق هذه الحكومة "المختلطة" حول برنامج حكم موحد، حيث توجد اختلافات كثيرة بين قوى اليسار والقوى اليمينية.
وذلك رغم أن فرنسا حكمها بالفعل حكومة وحدة وطنية جمعت تقريبا كل الأحزاب (باستثناء الحزب الشيوعي الفرنسي) مثل حكومة ميشيل ديبري (1959-1962).
أما "الخيار الثاني"، فهو "حكومة فنية" أو تكنوقراط، تتألف من خبراء اقتصاديين وكبار موظفي الدولة تشرف عليها شخصية توافقية، وهو خيار لم تشهده فرنسا من قبل.
و"الخيار الثالث": تشكيل حكومة من ائتلاف ماكرون الرئاسي، وحزب "الجمهوريون" اليميني المحافظ بزعامة "لوران فوكييه".
وقد استقبل الرئيس ماكرون بالفعل مطلع سبتمبر 2024 اليميني برنارد كازينوف، الذي ينتمي لحزب الجمهوريين (يمين وسط)، لبحث ترشيحه، بحسب صحيفة "لوموند" مطلع سبتمبر/أيلول 2024.
لكن هذه الحكومة أيضا معرضة أيضا للتصويت بحجب الثقة من قبل نواب اليسار وحزب "التجمع" اليميني المتطرف.
إقالة الرئيس
أما "الخيار الرابع": فهو إقالة الرئيس إيمانويل ماكرون عن طريق البرلمان وإجراء انتخابات رئاسية جديدة، وهو ما هدد به حزب "فرنسا الأبية" اليساري.
وبدأ بالفعل في صياغة الطلب، بسبب ما وصفه بـ"إخفاقات خطيرة" لماكرون في تأدية واجباته الدستورية.
حيث أعلن الحزب يوم 23 أغسطس 2024 أنه سيقدم مذكرة لعزل الرئيس إلى مكتب الجمعية الوطنية (البرلمان) وفقا للمادة 68 من الدستور الفرنسي.
وكتب نواب "فرنسا الأبية" في مشروع قرار العزل أن "الجمعية الوطنية (المجلس الأدنى) ومجلس الشيوخ يمكنهما ويجب عليهما الدفاع عن الديمقراطية ضد ميول الرئيس الاستبدادية".
وقد أكدت زعيمتهم البرلمانية، ماتيلد بانو، أنهم أرسلوا "وثيقة عزل ماكرون" إلى نواب آخرين لجمع التوقيعات، وفقا لوكالة الأنباء الفرنسية.
لكن محاولة عزل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، من خلال المادة 68 من الدستور الفرنسي تواجه عقبات كبيرة، إذ تتطلب موافقة ثلثي أعضاء الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ مجتمعين، وهناك أحزاب غير مضمون موافقتها.
ومنذ إضافة المادة 68 إلى الدستور الفرنسي في عام 2007، لم يتم عزل أي رئيس.
وفي عام 2016، فشلت محاولة واحدة ضد الرئيس آنذاك لعزل الرئيس فرانسوا هولاند، حيث وقع عليها 79 نائبا معارضا، في البرلمان وهو عدد أقل من ثلثي أعضاء البرلمان.
وتمت الدعوة لعزله بعدما كشف لصحفيين أنه أمر أجهزة المخابرات الفرنسية بتنفيذ أربع عمليات اغتيال، ما ينتهك البروتوكولات الأمنية.
ويبدو أن فرضية عزل إيمانويل ماكرون غير محتملة، لعدم تحمس أحزاب لها خشية أزمة سياسية ومن ثم عدم القدرة على جمع ثلثي أصوات أعضاء البرلمان لعزله.
لكن فشل عزله، قد يترتب عليه حالة فوضى ومظاهرات صاخبة دعا لها حزب "فرنسا الأبية" وشركاؤه في "الجبهة الشعبية الجديدة"، كحل بديل.
حيث دعا جان ليك ميلانشون زعيم حزب "فرنسا الأبية" و"فابيان روسيل" زعيم الحزب الشيوعي إلى "تعبئة شعبية كبيرة"، و"رد شعبي وسياسي سريع وحازم" على محاولات ماكرون اختطاف الديمقراطية.
المصادر
- France’s voters have rejected Macron. Why is he still trying to dictate who governs us?
- French left denounces 'denial' of democracy after Macron refuses to appoint its candidate as PM
- Macron has blocked left-wing choice for French PM – what happens next?
- Le président de la République est hors de contrôle
- En France, une situation politique inédite et dangereuse