مع إيقاف قيادات نقابية بتونس.. هل يصعد اتحاد الشغل أم ينحني للعاصفة؟
يستمر مسلسل الاعتقالات في تونس والذي نال تقريبا مختلف المكونات السياسية المعارضة وعددا كبيرا من الصحفيين والناشطين والحقوقيين على خلفية معارضتهم انقلاب 25 يوليو/تموز 2021، أو بسبب انتقادهم للسلطة القائمة في البلاد.
آخر هذه الاعتقالات استهدفت 4 قيادات نقابية تابعة للاتحاد العام التونسي للشغل أكبر المنظمات النقابية في تونس، ما أثار حالة من الغضب في صفوف النقابيين والاستنكار الواسع لهذه الخطوة.
وأعادت هذه الحادثة مجددا التساؤل عن موقف الاتحاد من الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد منذ أكثر من عامين، خاصة بعد تخليه نهائيا عن مبادرته للحوار الوطني وتراجع دوره السياسي في البلاد.
استهداف ممنهج
وأعلن الاتحاد العام التونسي للشغل في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، إيقاف الكاتب العام لفرعه بجهة صفاقس يوسف العوادني، رفقة ثلاثة أعضاء من النقابة الأساسية لشركة النقل البحري بجزيرة قرقنة (جنوب تونس)، بتهمة تعطيل مرفق عام والاعتداء على موظف وتكوين وفاق إجرامي.
واستنكر الاتحاد خلال بيان له في 21 نوفمبر "استمرار سياسة الاستهداف الممنهج للعمل النقابي والنقابيين من قبل السلطة الحاكمة".
وآخرها اعتقال كل من يوسف العوادني الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس وحاتم الزغب الكاتب العام للفرع الجامعي للنقل وأشرف المكّي وسليمان القروي وصالح قراجة أعضاء النقابة الأساسية لأعوان الشركة الجديدة للنقل بقرقنة "بناءً على تهم كيدية وملفقة تحمل في طياتها خلفيات سياسية".
وليست هذه المرة الأولى التي يجرى فيها إيقاف ومحاكمة نقابيين منذ انقلاب 25 يوليو من قبل الرئيس سعيد حيث تعرف العلاقة بين السلطة واتحاد الشغل الكثير من التوتر بعد تمكن رأس السلطة من الحد من النفوذ السياسي للمنظمة الشغيلة.
وبدأت موجة استهداف المسؤولين النقابيين منذ مطلع العام 2023 بإيقاف كاتب عام نقابة شركة الطريق السيارة أنيس الكعبي وإحالته إلى المحاكمة بتهم تتعلق باستغلال موظّف عمومي لصفته، قصد الإضرار بالإدارة وتعطيل خدمة عمومية.
ولم يكن أنيس الكعبي النقابي الوحيد الموقوف على ذمة قضية عدلية، فقد أصدرت المحكمة الابتدائية بتونس في 17 مارس/آذار 2023 أحكاما بالسجن لأربعة أشهر في حق 16 نقابيا بالجامعة العامة للنقل.
وجاء ذلك بتهم تتعلق بتعطيل حرية العمل والشتم ونشر أخبار زائفة وفق المرسوم 54، في قضية شغلت الرأي العام وأثارت غضبا واسعا في صفوف النقابيين.
وفي نفس السياق، رفعت وزيرة الثقافة حياة قطاط القرمازي شكوى في حق نقابيين اثنين لتسارع النيابة العمومية إلى الاحتفاظ بهما لمدّة 48 ساعة في 18 مارس 2023.
لكن هذه المرة، جاء إيقاف المسؤول الأول للمنظمة في جهة بحجم صفاقس التي تعد ثاني أكبر مدينة في تونس، والتي تأسست فيها المنظمة النقابية ومسقط رأس زعيمها المؤسس فرحات حشاد.
وقال الاتحاد في بيان هيئته الإدارية العاجلة "هذا الإيقاف هو إمعان في استهداف الاتحاد العام التونسي للشغل وحصار لإحدى أهم قلاع المنظمة والتي قدّمت عشرات الشهداء".
وأردف: "نعد ذلك مواصلة لسياسة ضرب الحقّ النقابي المضمّن في الاتفاقيات الدولية المصادق عليها من طرف الدولة التونسية وفي دستور الجمهورية التونسية".
قبضة أمنية
إيقاف قيادات الاتحاد يأتي في سياق ملاحقة عدد كبير من الناشطين السياسيين والحقوقيين، وآخرهم المنسق العام لحزب القطب (يساري) رياض بن فضل، بالإضافة إلى استمرار اعتقال العشرات من المعارضين السياسيين الملاحقين بتهم التآمر على أمن الدولة.
وضمن المرات القليلة، تطرق بيان الاتحاد العام التونسي للشغل الصادر في 23 نوفمبر 2023 إلى ما أسماه "حملة المحاكمات ضدّ النقابيين والإيقافات ضدّ عدد من الناشطين الديمقراطيين" وهو ما عده مراقبون استشعارا للخطر من قبل القيادة النقابية.
وفي حديث لـ "الاستقلال" رأى الناشط السياسي التونسي عيسى خضري أن "الاتحاد العام التونسي للشغل انسحب من الحياة العامة والشأن السياسي ولا نعرف الأسباب الحقيقية لذلك".
وتطرق إلى تصريح الأمين العام المساعد في الاتحاد سامي الطاهري وجه فيه الخطاب للمجهول خلال التجمع العمالي بصفاقس حين قال في معرض حديثه "أردتموها محاكمة سياسية ونحن من حقنا أن تكون مواقفنا سياسية".
وهو ما يؤكد دون شك محاولة الاتحاد تجنب المواجهة مع السلطة القائمة، حيث يتجنب ذكرها وتوجيه الخطاب لها بصفة مباشرة، وفق خضري.
ويرى أنه "رغم الاعتقالات التي وصفها الاتحاد بالسياسية، فإن خطاب قياداته اكتفى بالتذكير بحق النقابيين في إبداء مواقفهم السياسية".
ولفت إلى أن "المتابع للشأن التونسي منذ الاستقلال يعرف أنه صار من البديهي أن يتخذ الاتحاد مواقف سياسية بالمفهوم العام للسياسة واستثنى فقط المشاركة في الانتخابات، فهل صار يطالب بالمسلمات؟" .
وأكدّ الناشط السياسي التونسي أن "الاتحاد لن يذهب إلى مواجهة السلطة رغم ما يتعرض له من تضييق وملاحقات قضائية إلا في صورة انفجار اجتماعي، وحينها سيعود للواجهة من جديد".
وشدد على أن "ما يحصل اليوم من اعتقالات سياسية نشر الخوف للأسف في الأوساط السياسية والنقابية وحتى داخل المجتمع المدني".
وعلى هذا الأساس فهو لا يرى أدوات نضالية ممكنة للاتحاد لمقاومة ذلك "لكنه لا يزال يمتلك الثقل السياسي الذي يجعل من دعوته لحوار وطني تجد صداها ويمكنه إحراج السلطة إذا قدم أو تبنى مبادرات جامعة للخروج من المأزق السياسي والاقتصادي الذي نعيشه".
انحناء للعاصفة
من الواضح للمتابعين وجود علاقة ملتبسة بين الاتحاد العام التونسي للشغل ورئيس الجمهورية خاصة ما بعد انقلاب 25 يوليو 2021.
إذ تراوح موقف الاتحاد بين تأييد قرارات الرئيس بنوع من التحفظ إلى معارضة بعض الخطوات مثل الاستفتاء على الدستور والانتخابات التشريعية للغرفتين البرلمانيتين.
لكن الاتحاد حافظ على مسافة من المعارضة الشديدة لانقلاب 25 يوليو 2021، وفي مقدمتها حركة النهضة وجبهة الخلاص الوطني، حيث رفض أي التقاء معها أو إشراكها في أي حوار وطني محتمل للبحث في حلول للأزمة السياسية والاقتصادية.
ولم يعلن الاتحاد عن موقف واضح وصريح من كل الإجراءات التي اتخذها قيس سعيد ووصفتها المعارضة السياسية والمنظمات الحقوقية محليا ودوليا بالنزوع للاستبداد وتفكيك المؤسسات الديمقراطية وضرب استقلالية القضاء.
ولعل كل ذلك يفسّره ما صرّح به الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي في كلمة ألقاها في افتتاح اجتماع للمنظمة يوم 23 نوفمبر 2023 أن "هناك من يسعى جاهدا لجرنا إلى مربع التصادم فلسنا بأهل تصادم ولسنا رعايا لأي كان''.
هذا الموقف يعده كثيرون انحناء للعاصفة من قبل الاتحاد وتجنبا للدخول في صراع مع السلطة القائمة التي نجحت في إخضاع كل مؤسسات الدولة، وتتهم بتوظيف القضاء في ضرب معارضيها كما استطاعت إفراغ الساحة السياسية من كل الأحزاب الوازنة.
ولا يخفي قيس سعيّد حساسيته وعداءه تجاه الأجسام الوسيطة كالمنظمات والأحزاب، والجمعيات ووسائل الإعلام والهيئات المستقلة، لما تمثله هذه الأجسام من سلطة مضادة للدولة حسب رأيه أو تهديد لسلطته المطلقة بحسب رأي معارضيه.
وما يتوقعه جل المراقبين للشأن التونسي أن استهداف الأحزاب السياسية وقياداتها هو مجرد خطوة أولى في إخضاع كل المؤسسات الفاعلة في البلاد، وأن استهداف الاتحاد وبقية منظمات المجتمع المدني آت لا محالة في سياق استكمال أركان نظام استبدادي.
كما أن الاتحاد العام التونسي للشغل أمام اختبار جديد في علاقته بموازنة الدولة للعام 2024، ومدى التزام الحكومة بكل الاتفاقات الموقعة معه والتي تتناقض مع سياسة التقشف المعتمدة.