اقتصادي مصري: إفشال المشاريع الكبرى قد يكون لأجل مستثمرين أجانب كالإمارات (خاص)

" هذه الأمور تجعل المستثمرين بمختلف أنماطهم يفقدون ثقتهم في حكومة السيسي"
رأى الخبير الاقتصادي المصري عبد الحافظ الصاوي أن عودة العمل في مصنع الحديد والصلب الشهير بمدينة حلوان، قرار يعكس التخبط والعشوائية في صناعة القرار الاقتصادي بعد قرار تصفيته وإغلاقه عام 2021.
وفي حوار مع “الاستقلال”، أكد الصاوي أن المصنع لم يكن مجرد منشأة صناعية عادية، بل ظل لعقود طويلة رمزا لبداية بناء القاعدة الصناعية الوطنية، وأيقونة للصناعة الثقيلة في العالم العربي، لذلك فإن إغلاقه كان بمثابة إعلان نهاية مرحلة كاملة من الحلم الصناعي المصري.
وأغلق النظام المصري برئاسة عبد الفتاح السيسي شركة الحديد والصلب بعد 67 عاما على إنشائها، وهي أقدم شركات القطاع العام في البلاد.
وشركة الحديد والصلب المصرية، تأسست عام 1954 بقرار من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وتعد أيضا أول شركة للحديد والصلب في الشرق الأوسط.
وأوضح الصاوي أنه “اليوم يعود المصنع إلى صدارة المشهد مرة أخرى، لكن في صورة تعكس حالة من التخبط والعشوائية الإدارية”.
وأردف: "خرج علينا نائب رئيس الوزراء ووزير الصناعة والنقل كامل الوزير ليعلن عن إمكانية دراسة تحويل موقع المصنع إلى مجمع للصناعات النسيجية والصناعات المغذية للملابس الجاهزة، بدعوى جذب استثمارات أجنبية وتقليل فاتورة الاستيراد".
وأكمل الاقتصادي المصري: "لم تمر سوى أيام قليلة على هذه التصريحات حتى صدرت توجيهات رئاسية بإعادة تشغيل المصنع نفسه لإنتاج بلاطات الحديد".
وتساءل: "كيف يمكن أن يغلق المصنع بدعوى الخسائر وعدم الجدوى، ثم يطرح مرة للصناعات النسيجية وأخرى لإنتاج الحديد؟ ما الذي تغير".
وأكد الصاوي أن “هذه التطورات تكشف بوضوح غياب الرؤية الإستراتيجية في إدارة ملف الصناعة، وأننا أمام قرارات متناقضة تدار يوما بيوم، وهو ما يثير مخاوف جدية بشأن مستقبل هذا القطاع”.
وذكر في حديثه: "مستقبل هذا القطاع في مصر يتطلب سياسات مستقرة وطويلة الأجل، تقوم على دراسات جدوى حقيقية، لا على ردود فعل آنية أو حلول مرتجلة، وإلا فسنظل ندور في دوامة من القرارات المتناقضة، والنتيجة ستكون تآكل ما تبقى من مقومات الصناعة الوطنية".
وعبد الحافظ الصاوي، خبير اقتصادي، تخرج في قسم الاقتصاد بكلية التجارة، جامعة الأزهر عام 1987، وحصل عام 1999 على دبلوم العلوم الاقتصادية من معهد الدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية، وله عدة مؤلفات بارزة، من بينها ثلاثة كتب تناولت أوضاع الاقتصاد المصري والعربي وتحولاته.

عشوائية القرار
- كيف يمكن تفسير قرار تصفية مصنع الحديد والصلب عام 2021 بصفته "خاسرا وغير مجد اقتصاديا"، ثم العودة للحديث عن تشغيله جزئيا؟
هذا القرار ينم عن العشوائية في التفكير واتخاذ القرار، لأنه لو كان هناك تصور صحيح لإدارة قاعدة إنتاجية وصناعية في مصر، كنا سنقول ما هي الفرصة البديلة لإغلاق المصنع، وكم تكلفة بقائه، وبناء عليه كنا سنتخذ قرار أن يبقى المصنع أو يغلق.
الأمر المهم والأكثر خطورة هي أن صناعة الحديد والصلب، تعد إلى الآن من الصناعات الإستراتيجية التي يجب عدم التفريط فيها ولذلك، فقد اتخذ القرار بنوع من التخبط وبشكل جزافي.
وعلى ما يبدو، كان وراء اتخاذ القرار، شخص غير متخصص في التنمية، ولا نقصد ذلك الرجل المعني بحسابات الربح والخسارة الضيقة.
الأمر الثاني، هناك احتمال أن تكون الخسائر الكبيرة التي تعرض لها المصنع في الفترات السابقة، متعمدة ومخطط لها، تمهيدا لطرح المجمع التاريخي للخصخصة، ومن ثم بيعه.
- إذا كانت مبررات الإغلاق تتعلق بالخسائر والديون وتجاوزها نصف رأس المال، فما الذي تغير اليوم لإحيائه مجددا؟
هناك احتمالات كثيرة جدا للأسباب التي دعت إلى تغيير اتخاذ القرار، فعندما طرحت فكرة البيع، قيل إنه سيتم الاستفادة من كمية الأراضي المتاحة الخاصة بمجمع الحديد والصلب، على أن تطرح في إطار عقاري.
ولكن على ما يبدو أن المشتري الذي كانت تهيأ له صفقة الاستثمار العقاري، لم يكن راضيا عن السعر المتفق عليه أو ما إلى ذلك.
أو أن الخسائر التي منيت بها الدولة خلال الفترة الماضية وعلى مدار خمس سنوات، كانت أعلى بكثير من وجهة النظر الضيقة التي رأت أن يتم تفكيك الماكينات وبيعها كـ "خردة" ثم بيع الأراضي.
وطبعا الحكومة كذلك تحملت أعباء كثيرة جدا من حقوق العمال الذين جرى تسريحهم، وهو ما أثقل كاهلها وأسهم في مضاعفة الخسائر.
بلا دراسات
- أين كانت دراسات الجدوى التي استندت إليها الحكومة في قرار التصفية؟ وهل يمكن الوثوق بها حال توافرها؟
يعرف أغلب المتابعين للشأن الاقتصادي في مصر منذ أيام (رئيس النظام الأسبق حسني) مبارك، إضافة إلى تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات، أن مشروعات الحكومة كافة يتم تنفيذها دون دراسة جدوى.
فغياب دراسة الجدوى مع الأسف هو السمة الرئيسة والسائدة في طريقة تفكير الحكومة، وفي إقبالها على المشروعات، وكذلك في التراجع عنها.
لذلك فإننا نرى ما يحدث في البنية الأساسية للدولة، وأيضا حوادث القطارات وكل هذه الأمور، التي تعبر عن التخبط والعشوائية، ومن ثم ينتج عنها إنفاق مضاعف في الإصلاح والصيانة والمشروعات الفاشلة.
وهو ما يبتعد تماما عن مسألة دراسة الجدوى والتخطيط السليم، حتى إن رجال الأعمال والمستثمرين الأجانب يقيمون أوضاعهم بطريقة ذاتية، ولا يثقون في أطروحات الحكومة وتقاريرها.
- كيف يمكن إعادة تشغيل مصنع ضخم مثل الحديد والصلب بلا خطة معلنة لإعادة الهيكلة ولا رؤية لمعالجة الديون ولا إستراتيجية تمويلية محددة؟
مسألة التشغيل ووجود خطة وهيكلية، كلها أمور مرتبطة بوجود حكومة تعمل بطريقة صحيحة وأجهزة رقابية ستسألها داخل مجلس النواب، عن الأسباب التي ألجأتها إلى العودة للعمل في مجمع الحديد والصلب من جديد، بهذه الصورة المستحدثة.
وأيضا مع تقديم خطة واضحة تدل على أن الاستثمارات العامة التي توضع في هذا المشروع سيكون لها عائد وأنها ستقطع الطرق كافة على الفساد والاقتراض وعلى الديون المستمرة.
ولكن لا أظن أن هذا يمكن أن يحدث في مصر خلال الفترة القادمة، أمام منظومة تعمل بتلك الطريقة التي اتخذتها كنهج وقاعدة في أسلوب الإدارة، وكما يقال فإن السير في نفس الطريق، سيؤدي إلى نفس النتيجة.

تمكين الإمارات
- هل يعكس التراجع عن قرار التصفية فشل سياسات النظام بإدارة الأصول الإستراتيجية أم أن هناك ضغوطا استثمارية خارجية من دول مثل الإمارات؟
مناخ الاستثمار في مصر حاليا يحمل الكثير من السلبيات، على رأسها تغول الجيش وسيطرته على المجال الاقتصادي بشكل كبير جدا، إضافة إلى انتشار معدلات الفساد.
كذلك فإن البنية التشريعية التي يتم في إطارها وضع القوانين لا تتسم بالديمقراطية والشفافية، وبالتالي فإن الضغوط الموجودة على الحكومة للتراجع عن قرار تصفية مجمع الحديد والصلب، تعود لعدة عوامل وليس فقط ما يخص الإمارات.
وبالتالي فإن الواقع المصري فيما يخص الاستثمار سيئ جدا، وأي مستثمر سيأتي إلى مصر سيفكر بعامل مهم للغاية متعلق بتوفير الغاز والطاقة، وكما نعلم أن صناعة الحديد والصلب، من الصناعات كثيفة استخدام الطاقة.
ورأينا كيف تحكمت إسرائيل في الصناعة في مصر، عندما منعت الغاز الطبيعي لعدة أسابيع، وبناء عليه توقفت مصانع وصناعات إستراتيجية في الدولة، منها صناعة الأسمدة على سبيل المثال.
- هل الهدف من التصفية وإحيائها لاحقا هو إدارة "سيناريو إفشال" مدروس لتهيئة الأرضية أمام استثمارات خليجية في موقع استراتيجي على النيل؟
السيناريو المطروح الخاص في مسألة أن هناك إفشالا مدروسا، ومن ثم يترتب عليه تمكين الإمارات أو غيرها من المستثمرين من موقع إستراتيجي كمجمع الحديد والصلب، يقع على النيل، هو احتمال وارد جدا.
ومن هنا نتذكر القول المأثور عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: "من يقف مواقف التهم، فلا يلومن من أساء به الظن".
وقد رأينا كثيرا من الاستثمارات، سواء كانت مملوكة للقطاع العام، أو الخاص، قد تم تمكين منها الإمارات والسعودية وأخيرا قطر، وكذلك مستثمرون خليجيون، جميعهم سيطروا على هذه المشروعات الوطنية، وعلى الرغم من أنها مشروعات رابحة وما إلى ذلك.
ومن هنا فلا يستبعد هذا السيناريو، وخاصة أن مسألة الرقابة على أعمال الحكومة غائبة تماما، سواء من المؤسسات الرقابية، أو من منظمات المجتمع المدني، أو المجتمع الأهلي.
بين السيسي والوزير
- الحكومة تطرح تحويل الموقع إلى مجمع صناعي للمنسوجات، فكيف يستقيم ذلك مع إعلان السيسي بعدها عن إنتاج بلاطات الحديد؟
لا شك أن التضارب القائم بين تصريحات السيسي ووزير النقل يدل على العشوائية في التفكير، حيث لا توجد خارطة للاستثمار، ولا خارطة للتنمية، ولا خارطة لبناء قاعدة صناعية قوية في مصر.
وبالتالي فإن تضارب الأقوال والتحركات، نتيجة طبيعية للعشوائية الموجودة.
كما تعطي دلالة أخرى بأن تصريحات السيسي ومسؤوليه، ليست أكثر من أسلوب للاستهلاك الإعلامي، وإعطاء انطباع للمواطنين أن هناك شيئا يحدث وإنجازا يتم، بينما الواقع أشبه بالسراب.
- ما حجم الخسائر التي تكبدتها الدولة والعمال والمجتمع المحلي من إغلاق المصنع في 2021، ومن يتحمل المسؤولية عن هذا النزيف؟
الخسائر التي تحملتها الدولة نتيجة قرار التصفية كثيرة، على رأسها تعطيل الإنتاج في حد ذاته على مدار خمس سنوات، لأن المصنع لم يكن إنتاجيته (صفر) كان يخرج كمية من الإنتاج أي كانت قيمتها، فتم التوقف عن إنتاج هذه الكمية.
ثم الأدهى أنه تمت الاستعاضة عنها بالاستيراد، وهذا في حد ذاته يحمل شبهة فساد، فهذا القرار تم لصالح جهات أو أشخاص بعينهم.
أيضا ما تم دفعه من تعويضات للعمال، فيما يعرف بالمعاش المكبر أو تسوية الأوضاع لإعطائهم حقوقهم الطبيعية، من الخسائر المدرجة ضمن عملية التصفية.
وهو ما يدفعنا لسؤال: كيف سيتم تشغيل المصنع مرة أخرى؟ هل ستأتي العمالة القديمة التي أخذت تعويضات؟
أم سيتم تشغيل مجموعات برواتب ودرجات وظيفية جديدة، خاصة أننا نتكلم هنا عن مجمع حكومي، وليس مصنع تابع للقطاع الخاص.
كما نتحدث عن جزئية أخرى تتعلق بتكلفة "الفرصة البديلة"، لأن المصنع خلال السنوات الماضية لم يستمر في عمله ولم تنشأ على أرضه منشآت بديلة.
ولم يتم الاستثمار فيه، غير ما يمكن أن نسميه بعملية تسقيع الأراضي (أن يتم الاحتفاظ بها معطلة تماما لترتفع قيمة الأرض السوقية)، بحسب تعبير السوق المصري.

عزوف المستثمرين
- كيف يمكن إقناع المستثمرين المحليين والأجانب بجدية الحكومة إذا كانت سياساتها تقوم على التناقض؟
المستثمرون المحليون والأجانب لا يحتاجون إلى ما يدلل على غياب الجدية لدى الحكومة، بدليل ما يجرى من التصرف في مقدرات النظام المصري كافة عبر الصندوق السيادي.
وأيضا من خلال تعاظم المديونية الموجود، ومن غياب الشفافية المطلق، ومع انتشار الفساد، ومن حضور البلطجة في الشارع المصري، ومع عدم استقرار سعر الصرف.
كل هذه الأمور تجعل المستثمرين بمختلف أنماطهم يفقدون ثقتهم في الحكومة.
كما لا يقيمون خططهم الاستثمارية على القرارات الحكومية، لمجرد التقدم أو التراجع في ملف ما كمصنع الحديد والصلب، لأنه لو كانت لديهم قناعة بالجدية وفاعلية القرارات، لجرى الاستيعاب والتقدم وضخ الأموال والأيدي العاملة من قبلهم.
لكنهم يعلمون أن المنظومة القائمة في مصر، أبعد ما تكون عن الجدية، وأنه يجب عدم إعطائها الثقة والمغامرة في كنفها.
- هل يدار الاقتصاد المصري وفق رؤية علمية مبنية على إستراتيجيات طويلة المدى، أم أن القرارات الكبرى تدار بمنطق "مزاج الحاكم"؟
آخر ما يمكن تخيله في مصر أن الأوضاع الاقتصادية تتم بناء على أساس إستراتيجيات طويلة الأجل، والدليل ما نحن فيه من مشكلات.
بمعنى أنه لو كانت هناك إستراتيجية مثلا لبناء قطاع زراعي قادر على تحقيق الأمن الغذائي بشكل شامل أو بنسبة كبيرة ليقلل من واردات القمح والحبوب والسلع الأساسية من الطعام، لكان الواقع مختلفا اليوم.
لكن الحقيقة أن الأمور تسير بشكل بعيد تماما عن ما يمكن عده خطة أو حتى تكتيكا للإنقاذ وتجاوز الأزمة.
فما يتم الآن في إطار تسيير قطاع الاقتصاد المصري، ليس أكثر من "ترقيع" لأحوال البلد المهلهلة، في ضوء رغبات النظام الموجود، من خلال طريقة يمكن أن نطلق عليه "تمشية الحال ساعة بساعة".