"المال العام".. عنوان مواجهة محتدمة بين حكومة أخنوش والمجتمع المدني المغربي
"قرار غير معزول عن سياق عام عنوانه انزعاج جهات وأطراف بالحكومة من مكافحة الفساد والرشوة"
بصورة لافتة، تتواصل لعبة شد الحبل بين حكومة عزيز أخنوش التي تطاردها شبهات فساد وجمعيات حماية المال العام في المغرب.
وفي قرار مفاجئ، أعلنت السلطات القضائية المغربية التوقف عن تسلم الشكاوى التي كانت تتلقاها من هيئات حماية المال العام، وهي مؤسسات غير حكومية تُعنى بمحاربة الفساد المالي.
حصانة للفساد
وفي 15 مايو/أيار 2024، كشفت الجمعية المغربية لحماية المال العام، عن إقدام الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بمراكش (النائب العام) على حفظ شكاوى الفرع الجهوي مراكش الجنوب للجمعية المغربية لحماية المال العام.
وأوضحت في بيان أن النائب العام أرجع الخطوة إلى عدم إدلاء الفرع بالوصل النهائي للشكاوى (إجراء بيروقراطي)، مقدرة القرار "يوفر الحصانة القانونية للمفسدين ولصوص المال العام، ويقوض ربط المسؤولية بالمحاسبة".
وأكد البيان على "دور الجمعية المغربية لحماية المال العام كمنظمة حقوقية غير حكومية في مكافحة الفساد والرشوة استنادا إلى المرجعية الدولية وخاصة اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والتي صادق عليها المغرب سنة 2008 وضمنها مقتضيات المادة 13 من الاتفاقية".
وتنص المادة 13 على أنه “تتخذ كل دولة طرف تدابير مناسبة، ضمن حدود إمكاناتها ووفقا للمبادئ الأساسية لقانونها الداخلي، لتشجيع أفراد وجماعات لا ينتمون إلى القطاع العام، مثل المجتمع الأهلي والمنظمات غير الحكومية على المشاركة النشطة في منع الفساد ومحاربته”.
وأوضح البيان، أن "المركز القانوني للجمعية المغربية لحماية المال العام هو كونها جهة تقوم بالتبليغ عن جرائم الفساد والرشوة واختلاس وتبديد المال العام وليست جهة مشتكية ولا تعد الأشخاص خصوما لها مهما كانت مراكزهم الوظيفية".
ونبه إلى "خطورة مساعي بعض الجهات والمراكز المستفيدة من واقع الفساد والريع والرشوة والاغتناء غير المشروع والهادفة إلى التضييق على الجمعية المغربية لحماية المال العام وشيطنة نشاطها وتحجيم أدوارها غير عابئة بخطورة شبكات الفساد والرشا على الدولة والمجتمع".
وطالب البيان "السلطة القضائية بتحمل مسؤولياتها الدستورية والقانونية في مكافحة الفساد والرشا وغسل الأموال واتخاذ قرارات حازمة ضد لصوص المال العام والمفسدين وتسريع وتيرة محاكمتهم تحقيقا للنجاعة والعدالة".
واستنكرت الجمعية "استمرار وزارة الداخلية في حرمان الجمعية من وصل الإيداع منذ سنة 2014 وإلى غاية اليوم"، مسجلة أن هذا "الحرمان يشكل انتهاكا لحرية تأسيس الجمعيات وتضييقا على الحق في التنظيم والتجمع، ويدخل في نطاق تحجيم الأدوار الدستورية والقانونية للمجتمع المدني في تخليق الحياة العامة".
بدورها، تشتكي الهيئة الوطنية لحماية المال العام والشفافية بالمغرب، من صعوبات عديدة في الشكاوى التي تتقدم بها أمام الهيئات القضائية المختصة، مستغربة من ضعف التفاعل مع شكاواها.
رئيس قسم الشؤون القانونية بالهيئة الوطنية لحماية المال العام بالمغرب، يونس بوبكري، أكد أن "الهيئة أصبحت تواجه صعوبات عديدة في الشكاوى المرفوعة لدى النيابة العامة بمحكمة الاستئناف بمراكش أو التي تم إحالتها من الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف بأكادير، لا سيما ما يتعلق بالعصابة الإجرامية التي تنشط في عدة مجالات”.
وأضاف لموقع "الأيام 24" المحلي، أن "هناك شكاية أخرى تتعلق بفساد مالي يتربص بالمدرسة التطبيقية بمدينة أكادير، ناهيك عن مجموعة من الملفات التي يجب النظر إليها من أجل نيل كل مخالف للقانون العقوبات القانونية المقررة في القانون الجنائي".
وعليه طالب بوبكري رئيس النيابة العامة "بالتدخل الفوري بخصوص عدم تجاوب النيابة العامة بمراكش مع العديد من الشكاوى والتظلمات المتعلقة ببعض شبهات الفساد".
وأشار إلى أن "الهيئة الوطنية لحماية المال العام والشفافية بالمغرب تلعب دورا مهما في محاربة الفساد المالي"، داعيا الجهات المختصة إلى "ضرورة التفاعل مع الشكاوى الموضوعة على طاولة النيابة العامة".
جرجرة المنتخبين
وترى جمعيات حماية المال العام ومحاربة الفساد بالمغرب، أن قرار السلطات القضائية التوقف عن تسلم شكاواها "ترجمة فعلية" لتصريحات سابقة لوزير العدل عبد اللطيف وهبي عبّر فيها عن انزعاجه من النشاط المتنامي لجمعيات حماية المال العام.
رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام محمد الغلوسي، عد حفظ شكاية الجمعية بأنه "قرار غير معزول عن سياق عام عنوانه انزعاج جهات وأطراف من دينامية مكافحة الفساد والرشوة وتزايد المطالب المجتمعية بضرورة تخليق الحياة العامة وربط المسؤولية بالمحاسبة".
وتابع الغلوسي، في تدوينة عبر فيسبوك، أن "وزير العدل، شكل الناطق الرسمي باسم هذه الجهات والأطراف من داخل قبة البرلمان التي من المفروض دستوريا وسياسيا أن تشكل منصة لتضييق الخناق على لصوص المال العام وكل الذين يطمعون في استغلال مواقع المسؤولية لمراكمة الثروة بطرق غير مشروعة".
وقال إن "وزير العدل جمع أنفاسه ورفع يديه إلى السماء وصرخ بصوت مرتفع "علينا أن لا نسمح لجمعية حماية المال العام بجرجرة المنتخبين والمسؤولين داخل ردهات المحاكم لأننا لن نجد مستقبلا من يترشح !!ويتحتم علينا أن نُخرج قانونا يمنعها من ذلك...!!".
وتابع أن "الوزير تكلم كمحام شرس للمستفيدين من الفساد والريع المراكمين لثروة مشبوهة والخائفين من سيف العدالة والمحاسبة، مرافعة تبعتها ضغوط كبيرة من كل جهة إلى أن تمت ترجمة ذلك بحرماننا في الجمعية المغربية لحماية المال العام من الوصل النهائي من طرف وزارة الداخلية وحفظ شكاوانا من طرف القضاء للعلة نفسها".
وأكد الغلوسي، أنها "معادلة غريبة وغير مفهومة: فالدولة تقول إنها أعلنت الحرب على الفساد والرشا ونهب المال العام وأنها تريد تخليق الحياة العامة وفرض مدونة سلوك على المنتخبين وأن لا أحد فوق القانون".
واستدرك: "لكن مقابل ذلك، هناك جهات تجرى عكس ذلك وتسعى إلى إدامة واقع الفساد والريع لمراكمة الثروة وتوسيع شبكات المنافع والمصالح لتهديد أمن واستقرار الدولة والمجتمع وشيطنة الجمعيات الجادة وتحجيم أدوارها الدستورية والقانونية في مكافحة الفساد والرشا ونهب المال العام".
شكاوى كيدية
وكان وزير العدل عبد اللطيف وهبي، عبّر عن انزعاجه من النشاط المتنامي لجمعيات حماية المال العام، مقدرا أنها تناسلت بشكل كبير في الآونة الأخيرة، وطالب بضرورة العمل على الحد من "إسهال" الشكاوى الذي تعرفه البلاد.
وفي 26 مارس/آذار 2024، قال وهبي، في اجتماع لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب، إن "أكبر مصيبة تواجه القضاء هي استعمال الممارسة القضائية في الصراعات السياسية الثنائية، فهناك من يترشح ضد آخر، وعندما ينجح يضع غدا شكاية ضده".
وتساءل الوزير: “كيف نوقف هذا الشكاوى؟ وكيف نترك المجال للنيابة العامة والسلطة القضائية والضابطة القضائية تشتغل في الملفات الحقيقية، وليس في الملفات والشكاوى الفارغة".
كما تساءل وهبي، عن الضمانات الأساسية التي ستمنع القوانين المرتقب اعتمادها مثل القانون الجنائي أو الإثراء غير المشروع من "ألا توظف بشكل سلبي، ولا يبقى النائب البرلماني غائبا عن البرلمان وينتقل بين الكوميساريات يجيب على الشكاوى".
وانتقد وزير العدل، ما سماه "التوظيف السيئ والرديء للشكاوى"، مشيرا إلى أن وزارته تتلقى "آلاف الوشايات الكاذبة والمجهولة"، مردفا: "عندي موظف يقرأ لي فقط الوشايات المجهولة، فيها فقط الكلام بدون إثبات".
كما سبق لوزير العدل خلال جلسة بمجلس المستشارين (الغرفة الثانية للبرلمان)، في 19 أبريل/نيسان 2022، أن كشف أن "تعديلا في القانون الجنائي سينص على أن وزير الداخلية هو من له صلاحية وضع شكاوى لدى النيابة العامة بشأن اختلاس المال العام وليس الجمعيات".
ورأى وهبي، أن "من له الصلاحية لوضع شكاوى (شكاوى قضائية) ومراقبة المال، هو من كان مصدرا للمال، أي وزارة الداخلية".
وبعد أن اتهم الوزير المغربي، بعض حماة المال العام بـ"ممارسة الابتزاز"، أشار إلى أن "هناك من ليست له جمعية ولم يعقد جمعا عاما ويقول إنه رئيس لجمعية حماية المال العام".
وتابع: "قد نصل إلى وقت لن نجد فيه أشخاصا يرغبون في الترشح، فبمجرد أن يترشح شخص ما يكون محط شكاية تؤدي إلى فتح أبحاث في حقه".
واستطرد وهبي قائلا: “إذا فتحت ضدي بحثا وأنا سياسي، وأمضي عاما أو عامين أمام المحاكم...أي شرعية ستظل عندي أمام الناس وأي احترام سيبقى لدي أمامهم؟”
غير أن تصريحات وهبي كانت محط انتقادات بسبب حصرها الحق في تقديم الشكاوى المتعلقة بنهب المال العام ومحاربة الفساد في وزارة الداخلية.
البرلماني السابق ورئيس جمعية كرامة لحقوق الإنسان نبيل الأندلوسي، قال إن "التوجه الذي ذهب إليه وزير العدل، من كون الجهة المانحة هي التي لها حق المراقبة، والذي عبر عنه في إحدى جلسات البرلمان، توجه غير مقبول ويُفرغ المبدأ الدستوري المتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة من معناه".
وأكد الأندلوسي، في حديث لـ"الاستقلال"، أن "الحصول على وصل الإيداع المؤقت والنهائي حق قانوني لكل جمعية احترمت شكليات ومساطر التأسيس".
وأضاف أن "كل منع أو رفض يجب أن يكون معللا وإلا أصبح شططا في استعمال السلطة"، مردفا: "مؤسف أن نسمع في مغرب اليوم أن هذا الإشكال مازال قائما".
وخلص الأندلوسي، إلى أنه "من حيث المبدأ فمن حق أي إطار مدني أو حقوقي إثارة شبهات الفساد أمام السلطات القضائية"، مبينا أن "الهيئة القضائية المعنية هي التي تملك حق دراسة جديتها وقوة الأدلة المقدمة وتحريك المتابعة من عدمها".