بعد تنديد العراق بعملية دهوك.. تركيا تنسحب أم تعيد ترسيم الحدود؟
"من الصعب تصور عدم وجود تنسيق بين أنقرة وبغداد في هذه العمليات العسكرية"
منذ أسابيع تتوالى مقاطع فيديو يتداولها عراقيون عبر مواقع التواصل الاجتماعي بخصوص عمليات توغل وانتشار جديدة للجيش التركي في مدينة دهوك بإقليم كردستان العراق، لكن بغداد لم تعلق عليها لأيام طويلة، ما طرح فرضية أن يكون الأمر منسقا بين الجانبين.
وما رجّح هذه الفرضية هو أن هذه العمليات جاءت بعد زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى بغداد في 22 أبريل/ نيسان 2023، وتوقيع نحو 30 مذكرة تفاهم واتفاقية في مجالات عدة، كان من أبرزها "طريق التنمية"، والاقتصاد والاستثمار والتنسيق الأمني.
وقبل ذلك، وتحديدا في مارس/ آذار 2024، وبعد زيارة أجراها مسؤولون أتراك إلى العراق، تمهد لزيارة أردوغان، صنفت بغداد حزب العمال الكردستاني "منظمة محظورة"، بعد مطالبات عديدة من أنقرة للحكومة العراقية بممارسة دور أكبر في مكافحة الحزب.
وفي 13 يوليو/ تموز 2024، كشف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن بلاده ستنهي العملية العسكرية التي تنفذها القوات المسلحة التركية عبر الحدود في شمال العراق قريبًا.
وبدأت تركيا عمليتها التي تطلق عليها اسم "المخلب القفل" في أبريل/ نيسان 2022 لـ"ضمان أمن حدودها مع شمال العراق"، حيث تتهم حزب العمال الكردستاني “بي كا كا” بشن هجمات على الأراضي التركية.
ويخوض “بي كا كا” نزاعا مسلحا مع السلطات التركية منذ 1984، وتصنفه أنقرة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، منظمة "إرهابية".
وبحسب وسائل إعلام عراقية، نفذت تركيا منذ بدء عملية "المخلب القفل" عمليتين في قضاءَي “باتيفا” و"العمادية" بدهوك، وأقامت 150 نقطة عسكرية بعمق 35 كيلومتراً داخل أراضي إقليم كردستان، وفي الأسابيع الأخيرة زادت من توغلاتها بالمنطقة وعدد نقاط التفتيش فيها.
فيما سجلت منظمة "فرق صناع السلام" الأميركية (CPT)، دخول الجيش التركي إلى دهوك، بـ 300 دبابة ومدرعة ونصبه حاجزا أمنيا في الأيام الأخيرة، حسب تقرير لها في 26 يونيو/ حزيران 2024.
ولفتت إلى أن نحو ألف جندي تركي تنقلوا بين قاعدة (گري باروخ) العسكرية التركية وجبل (متينا) خلف ناحية (بامرني) في دهوك، وأقيم حاجز أمني بين قريتي (بابير وكاني بالافي) هناك، ولا يسمح لأي مدني بالمرور إلا بعد التحقيق معه وإبراز البطاقة العراقية.
ارتباك عراقي
على الصعيد الرسمي العراقي، كانت الروايات متضاربة بشكل كبير، ففي الوقت الذي نددت فيه الحكومة العراقية بالتوغلات التركية بعد أسابيع من الصمت، والدعوة إلى إيجاد حلول سياسية، فإن جهات مرتبطة برئيس الوزراء تؤكد أن العمليات العسكرية جاءت بتنسيق بين أنقرة وبغداد.
وأصدر مكتب القائد العام للقوات المسلحة العراقية، محمد شياع السوداني، بيانا في 11 يوليو، ذكر فيه أن الأخير ترأس اجتماعا للمجلس الوزاري للأمن الوطني وناقش "التدخلات والخروقات التي تمارسها القوات التركية في المناطق الحدودية المشتركة".
وقال اللواء يحيى رسول عبدالله، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة، في البيان إنه "جرى خلال الاجتماع تأكيد رفض التوغل العسكري التركي، والمساس بالأراضي العراقية، وأن على تركيا مراعاة مبادئ حسن الجوار، والتعامل دبلوماسيا مع الحكومة العراقية، والتنسيق معها تجاه أي موضوع يتعلق بالجانب الأمني".
وبحسب البيان فإن وفدا برئاسة مستشار الأمن القومي (قاسم الأعرجي) يتوجه إلى إقليم كردستان العراق "من أجل الاطلاع على الأوضاع العامة، والخروج بموقف موحد من هذا الموضوع الذي يمس السيادة العراقية".
وفي اليوم نفسه، نفت وزارة الخارجية العراقية وجود أي اتفاق مع تركيا بشأن تحركاتها العسكرية الأخيرة ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني داخل الأراضي العراقية.
وقال وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين خلال تصريحات لقناة "الحرة الأميركية"، إنه "لا يوجد أي ضوء أخضر من الجانب العراقي للأتراك لشن عملية عسكرية شمالي العراق".
وأوضح حسين، أن "الجيش التركي موجود داخل الأراضي العراقية منذ عام 1991 في بعض مناطق محافظة دهوك، وأن مسألة وجوده ستكون نقطة تتم مناقشتها خلال اجتماعات تعقد مع المسؤولين الأتراك قريبا".
ولفت إلى أن "الأتراك يربطون وجود قواتهم داخل الأراضي العراقي بوجود حزب العمال الكردستاني، وأن هذه المشكلة (العمال الكردستاني) هي مشكلة تركية، وحاليا أصبحت عراقية أيضا، وبالتالي يجب التعامل معها بالطريقة العراقية".
لكن مستشار رئيس الوزراء العراقي، إبراهيم الصميدعي، كشف خلال مقابلة تلفزيونية في 8 يوليو، عن وجود تنسيق بين بغداد وأنقرة بشأن العمليات التركية ضمن حدود إقليم كردستان العراق.
وقال الصميدعي إن "حزب العمال الكردستاني يقوم بعمليات إجرامية، وإن الحكومة العراقية قد صنفته منظمة إرهابية"، لافتا إلى أن "العمليات التركية تجري وفق تنسيق بين بغداد وأنقرة".
ترسيم جديد
ووسط تضارب في التصريحات الرسمية العراقية، تتحدث جهات سياسية ومليشياوية عراقية عن أن تركيا تسعى إلى ترسيم حدودي جديد مع العراق، وذلك بضم مساحات داخل الأراضي العراقية.
وعلق قيس الخزعلي زعيم مليشيا "عصائب أهل الحق" الموالية لإيران، خلال بيان له في 12 يوليو على الأمر، قائلا إن "إننا ندين وبشدّة عملية التوغل التركي الأخير، في أراضي بلدنا".
وأضاف: "في الوقت الذي نؤكد فيه موقف العراق الرافض لاستخدام الأراضي العراقية، للاعتداء على دول الجوار، فإننا نُنبه من محاولات استغلال ذلك كذريعة لاحتلال أجزاء من بلدنا في إقليم كردستان، وإيجاد خط حدود جديد باقتطاع مساحات شاسعة من أراضي العراق".
وأضاف: "من منطلق المسؤولية، ندعو حكومة إقليم كردستان إلى التنسيق مع الحكومة الاتحادية (العراقية)، لاتخاذ موقف موحد يضع حدا للأطماع التركية في شمالنا".
ودعا الخزعلي: "الجارة تركيا إلى مراعاة حقوق الجوار، والالتزام بالاتفاقيات بين البلدين، وسحب قواتها من كل العراق، وبعد ذلك يكون الاعتماد على العراق في منع أيّ اعتداء على أراضيها ينطلق من أراضيه".
وفي السياق ذاته، قال المستشار الأمني لقوات البيشمركة في الاتحاد الوطني الكردستاني جبار الياور، إن "العملية الأخيرة التي يقوم بها الجيش التركي في مناطق تابعة لدهوك هدفها السيطرة على جبلين مهمين هناك هما جبلا (متين وكاره)، حيث يوجد هناك مقرات تابعة لحزب العمال الكردستاني".
وأضاف الياور خلال تصريح لشبكة "بي بي سي" في 11 يوليو، أن الحكومة "التركية وقواتها تحاول شن عمليات عسكرية من الجو ومن الأرض بطائرات حربية وبدون طيار وطائرات هليكوبتر، وأيضا قصف مدفعي وعمليات على الأرض للاستيلاء على هذين الجبلين الإستراتيجيين المهمين، لطرد مسلحي حزب العمال".
وأكد أن، "هناك حربا حقيقة في هذه المناطق، وسبب هذه الحرب هو وجود حزب معارض تركي هو العمال الكردستاني، ومسلحيه الذين يوجدون هناك منذ أكثر من 40 عاما، وحجة دخول القوات التركية إلى هناك هو بسبب وجود هؤلاء المسلحين".
وأشار الياور إلى أن "وجود قوات معارضة على الأراضي العراقية، تشن عمليات من داخلها إلى الداخل التركي، هو عمل غير قانوني وغير مجاز، لأنه لا توجد أي موافقة رسمية من حكومة العراق لهذا العمل، لأن البلد ليس في حالة حرب مع تركيا، وإنما لديه علاقات صداقة وزيارات متبادلة ما بين الطرفين".
ضغوط داخلية
من جانبه، رأى الخبير في الشأن التركي، محمود علوش، أنه "من الصعب تصور عدم وجود تنسيق بين أنقرة وبغداد في هذه العمليات العسكرية، لا سيما أنها جاءت في خضم تقارب تركي عراقي ومشروع شراكة إستراتيجية كبير، أحد عناصرها التعاون على مكافحة العمال الكردستاني".
وأضاف علوش لـ"الاستقلال" أن "تركيا سبق أن تحدثت عن رغبتها في شن عملية عسكرية كبيرة ضد العمال الكردستاني في شمال العراق، خلال صيف عام 2024، وذلك بهدف إقامة منطقة عازلة على الحدود بين البلدين، وبعمق يتراوح بين 30 إلى 40 كيلومترا.
وأعرب الخبير عن اعتقاده بأن "جانبا رئيسا من دوافع معارضة الحكومة العراقية العمليات التركية نابعة من الضغوط الداخلية، فهناك أطراف متضررة من أي تعاون تركي عراقي في مكافحة العمال الكردستاني، وتحديدا فصائل في الحشد الشعبي الموالية لإيران إضافة إلى أطراف كردية، مثل الاتحاد الوطني الكردستاني".
وأشار علوش إلى أن "هذه المعارضة لا تغير في طبيعة الحال من حقيقة وجود تنسيق استخباراتي وسياسي وأمني رفيع المستوى بين تركيا والعراق حول العمليات الجديدة"
وأردف: "أعتقد أن السوداني، يحاول أن يوازن بين الحاجة إلى التعاون مع أنقرة في مكافحة وجود العمال الكردستاني، وبين استيعاب الضغوطات والتأثيرات الداخلية التي يتعرض لها في العلاقة الجديدة مع تركيا".
أوضح علوش أن "تركيا لديها هدف واضح يتمثل في إقامة منطقة عازلة على الحدود مع العراق، وإخراج مسلحي العمال الكردستاني منها، ثم التوصل إلى اتفاقية أمنية إستراتيجية مع بغداد تضمن لأنقرة التدخل في هذه المنطقة بالمستقبل في حال عاد خطر هذا الحزب".
وتابع: “ليس لدى أنقرة أي أطماع في الأراضي العراقية، وهي كانت واضحة في ما يتعلق بهذا الشأن بأن أولويتها تطهير هذه المنطقة من العمال الكردستاني، ومساعدة القوات العراقية وقوات حكومة إقليم كردستان العراق، إلى العودة للسيطرة عليها”.
ولفت إلى أن "ما يهم تركيا في هذه المرحلة هو تطوير إستراتيجيتها الجديدة في مكافحة الإرهاب من خلال إشراك الجهات الحكومية في بغداد ودمشق في هذه العملية، فضلا عن مشاريع التنمية الاقتصادية كبوابة لتعزيز التعاون مع الأطراف ذاتها من أجل أن تكون إستراتيجية مكافحة الإرهاب ناجحة ومربحة بالنسبة لكل الأطراف المعنية بهذه العملية".