“آلام شديدة”.. ماذا ينتظر الاتحاد الأوروبي بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض؟
"عودة ترامب تشكل تحديا كبيرا لأوروبا الساعية لخفض ديونها وعجز موازناتها"
بعد عودة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لسدة الحكم في الولايات المتحدة لولاية ثانية، بدأ حلفاء واشنطن من الأوروبيين الاستعداد لسنوات أربع قادمة "مليئة بالمطبات" مع الفائز الجمهوري؛ إذ كانت لهجة ترامب خلال حملته الانتخابية تصعيدية تجاه حلفائه الأوروبيين، الذين كانوا يخشون دخوله البيت الأبيض نظرا للتباين الكبير في وجهات النظر حول كثير من القضايا.
المصالح الأوروبية
واجتمع نحو 50 من الزعماء الأوروبيين بالعاصمة المجرية بودابست، في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 لحضور قمة الجماعة السياسية الأوروبية، التي تأسست عام 2022 في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا.
وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن أوروبا يجب أن تدافع عن نفسها بينما تستعد لرئاسة ترامب المقبلة في الولايات المتحدة.
وأضاف ماكرون لزعماء الدول الأوروبية الأخرى: "هناك وضع جيوسياسي حيث من الواضح أن لدينا كتلتين: الولايات المتحدة من جهة والصين من جهة أخرى، واللتان تسعيان قبل كل شيء إلى تحقيق مصالحهما الخاصة".
واستطرد: "أعتقد أن دورنا هنا في الاتحاد الأوروبي ليس التعليق على انتخاب ترامب، أو التساؤل عما إذا كان ذلك جيدا أم لا. لقد انتخبه الشعب الأميركي، وسيدافع عن مصالح شعبه وهذا أمر مشروع وهو أمر جيد".
وأردف: "السؤال هو هل نحن مستعدون للدفاع عن مصالح الأوروبيين؟ هذا هو السؤال الوحيد الذي يجب أن نسأله لأنفسنا. وبالنسبة لي، أعتقد أن هذا هو أولويتنا".
وكان ماكرون الأكثر صراحة بين نظرائه الأوروبيين وهو الذي سبق أن قال في فبراير/ شباط 2024 إن "الأولوية الأولى لأميركا هي ذاتها".
أما رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماريو دراغي لدى وصوله للمشاركة في قمة بودابست فقد رأى أن ضرورة اعتماد إصلاحات اقتصادية في الاتحاد الأوروبي صارت "أكثر إلحاحا مع انتخاب ترامب رئيسا للولايات المتحدة".
وأضاف "ما من شك في أن رئاسة ترامب ستحدث فرقا كبيرا في العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا".
وفي سبتمبر/ أيلول 2024، قال دراغي في تقرير من 400 صفحة إنه "يتعين على أوروبا العودة إلى تحقيق النمو من خلال ضخ استثمارات ضخمة في الابتكار الرقمي والتحول الأخضر والصناعات الدفاعية".
وعرض تقرير دراغي صورة قاتمة عن أوروبا التي تتأخر اقتصاديا عن الولايات المتحدة، وتزيد بشكل خطير من اعتمادها على الصين للحصول على بعض المواد الخام والتقنيات الإستراتيجية.
إذ وعد فيه الملياردير الأميركي العائد للسلطة بخفض الفائض التجاري مع الاتحاد الأوروبي عن طريق فرض ضرائب على واردات المنتجات الأوروبية في وقت ارتفع نصيب الفرد من الدخل في الولايات المتحدة بنحو مرتين مقارنة بنصيب الفرد من الدخل في أوروبا منذ العام 2000.
وقدرت الاستثمارات الضرورية في أوروبا بما يتراوح بين 750 و800 مليار يورو سنويا، أي أكثر من خطة مارشال الأميركية التي دعمت إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
ويمثل ذلك تحديا كبيرا لدول الاتحاد الأوروبي التي تسعى إلى خفض ديونها وعجز موازناتها.
وقد بدا واضحا أن زعماء الدول الأوروبية في بودابست سعوا إلى الظهور كجبهة موحدة إزاء عودة ترامب إلى البيت الأبيض.
ولا شك في أن الارتدادات الأكثر تجليا لفوز المرشح الجمهوري على غريمته الديموقراطية كامالا هاريس ستكون على أوكرانيا، حيث تعهد ترامب بإنهاء الحرب بسرعة مع إجبار كييف على تقديم تنازلات للغزاة الروس.
ورأى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في كلمته أمام القادة الأوروبيين أن العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا يجب ألا "تضيع" بل أن "تُقدّر" بعد فوز ترامب.
وأكد الرئيس الأوكراني رفض كييف تقديم "تنازلات" لموسكو، معتبرا أن ذلك سيعود بالضرر على أوروبا جمعاء.
وعود ترامب
وينبع كلام كييف من رأي ترامب (78 عاما) أن "هذه الحرب ما كان لها أن تحصل يوما" ويتباهى بعلاقته "الجيدة جدا" مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي سيسعى على الأرجح إلى تنظيم لقاء ثنائي معه بعد توليه مهامه في العشرين من يناير/ كانون الثاني 2025.
وكانت إدارة ترامب الأولى من الفترة 2017 إلى 2021 بمثابة اختبار للروابط بين الولايات المتحدة وحلفائها، خاصة في أوروبا.
حيث شكّك ترامب في خطاباته الانتخابية بمنظمات مثل حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وكثيرا ما انتقد إنفاق المليارات من الدولارات على التحالف العسكري الداعم لأوكرانيا في مواجهة الغزو الروسي.
وخلال تجمع انتخابي في كارولاينا الجنوبية 12 فبراير 2024 أشار ترامب إلى محادثة أجراها مع أحد رؤساء دول الناتو، دون أن يذكر اسمه.
وقال ترامب: "وقف رئيس دولة كبيرة وقال: حسنا يا سيدي، إذا لم ندفع وتعرضنا لهجوم من روسيا، هل ستحموننا؟ فقلت: لم تدفع إذا تأخرت في السداد فلن أحميك، بل سأشجعهم على القيام بما يريدون. عليك أن تدفع. عليك أن تسدد فواتيرك".
وبانتظام خلال حملته الانتخابية كان ترامب ينتقد حلفاء بلاده في التحالف العسكري "الناتو"، لعدم تمويل المؤسسة بشكل كاف، وهدد مرات عدة بالانسحاب من التحالف في حال عودته إلى البيت الأبيض.
الأمر الذي دعا الرئيس جو بايدن لإصدار بيان في 12 فبراير 2024 قال فيه: "اعتراف ترامب بأنه ينوي إعطاء بوتين الضوء الأخضر لمزيد من الحروب والعنف، وليواصل هجومه الوحشي على أوكرانيا الحرة، ويوسع نطاق عدوانه ليشمل شعوب بولندا ودول البلطيق، أمر مروع وخطير".
فقد كتب ترامب آنذاك على منصة "تروث" التي يملكها أنه يجب على الولايات المتحدة في المستقبل إنهاء جميع المساعدات الخارجية واستبدال القروض بها.
والتصريحات بشأن أمن "الناتو" والتضامن بموجب المادة الخامسة، يراها البعض أنها لا تخدم سوى مصالح الرئيس الروسي الطامح بالتوسع في دول أوروبا الشرقية.
وبموجب المادة الخامسة من معاهدة تأسيس الحلف في أبريل/ نيسان 1949، فإن أي هجوم على أي من دوله الأعضاء يعد هجوما على الحلف بأسره، ويستدعي رد فعل مشتركا منه.
وتثير عودة ترامب إلى البيت الأبيض قلقا من تغييرات في توجهات السياسة الخارجية الأميركية، خصوصا لجهة الدعم العسكري الذي وفرته إدارة الرئيس الديموقراطي بايدن لأوكرانيا منذ عام 2022 في مواجهة الغزو الروسي.
إذ كان الجمهوريون في الكونغرس الأميركي وراء إيقاف وعرقلة تقديم المزيد من المساعدات العسكرية لأوكرانيا بضغط من ترامب شخصيا.
ويظل حلف شمال الأطلسي هو الأساس لأمن أوروبا، ولهذا يرى الباحث البارز في شؤون الأمن الأوروبي بالمعهد الملكي للخدمات المتحدة في بريطانيا، إد أرنولد، أن "أول تأثير على التحالف هو كيفية مواصلة دعم أوكرانيا إذا كان هناك انخفاض متوقع في المساعدات العسكرية من الولايات المتحدة".
وتخشى أوكرانيا أن تُرغم على قبول اتفاق سلام غير موات لها -وربما يغير الأوروبيون حساباتهم- كما قال أرنولد لإذاعة "صوت أميركا" في 8 نوفمبر 2024.
وأضاف "قد يكون هناك بعض القلق في ظل وجود بعض الأشخاص داخل أوروبا الذين يقولون: لماذا نزيد المساعدات الآن إذا كان من المقرر التوصل إلى تسوية تفاوضية في وقت قريب؟ وأعتقد أن الخطر الحقيقي الذي يهدد أوروبا ككل، هو أن واشنطن وموسكو قد تبدآن في إجراء هذه المفاوضات بدونهم".
مخاوف متداخلة
إضافة الى أوكرانيا، تثير مواقف أخرى للرئيس الأميركي المنتخب القلق في أوروبا ومختلف أنحاء العالم، مثل تلويحه بفك الارتباط العسكري وفرض رسوم جمركية باهظة وقضايا البيئة.
ولا سيما أن ترامب عندما دخل البيت الأبيض في ولايته الأولى سحب الولايات المتحدة من اتفاق باريس التاريخي للمناخ عام 2017.
ورغم الدعوات المتزايدة في الأشهر الأخيرة إلى تعزيز الاستقلالية الإستراتيجية الأوروبية، يبدو أن التكتل القاري فوجئ بفوز ترامب بولاية جديدة في البيت الأبيض.
وضمن هذا السياق، قال الخبير في مركز بروغيل للبحوث، غونترام وولف، لوكالة الصحافة الفرنسية في 7 نوفمبر 2024 "لنقُل الأمور بوضوح، أعتقد أنهم لم يكونوا مستعدين لسيناريو كهذا... لا خطة معدّة للمسار الواجب اعتماده، أكان على المستويين الأوروبي أو الفرنسي-الألماني".
في الجانب الاقتصادي، وفي ظل المخاوف من خطط الرسوم الجمركية التي يعتزم ترامب فرضها، يخشى أن تقوم كل دولة ببحث المسألة مع واشنطن بشكل منفرد.
وأعرب ترامب عن نيته زيادة الرسوم الجمركية على كل المنتجات التي تدخل الولايات المتحدة، ووصف خلال حملته الانتخابية الاتحاد الأوروبي بأنه "صين صغيرة" يستغل حليفه الأميركي عبر تراكم الفائض التجاري لصالحه.
وضمن هذه الجزئية، رأى المدير المشارك لمركز السياسة عبر الأطلسي في الجامعة الأميركية بواشنطن، جاريت مارتن، أن “مزاعم ترامب بفرض رسوم جمركية بنحو 60 بالمئة أو أكثر على جميع الواردات من الصين سيكون لها تأثير مدمر كبير على التجارة العالمية”.
وأضاف مارتن في تصريحات صحفية: "ستكون هناك تداعيات على الاتحاد الأوروبي، وأوروبا، والمملكة المتحدة وأماكن أخرى.. ويمكننا أن نتوقع أيضا فرض رسوم جمركية على الواردات من الاتحاد الأوروبي أيضا".
وقال "أعتقد أن أحد العناصر التي ستكون بالغة الأهمية بالنسبة لأوروبا والاتحاد الأوروبي هو العمل على حماية وحدته وإجماعه.. وأعتقد أن ترامب من المرجح أن يحاول تبني نهج فرّق تسد".
علاوة على ذلك، فقد أثار تعهد ترامب بتعزيز استخراج النفط والغاز، وشحن المزيد من الوقود الأحفوري إلى الخارج، دهشة المدافعين عن البيئة.
وبما أن الولايات المتحدة مسؤولة عن أكثر من عُشر التلوث المسبب لظاهرة الاحتباس الحراري، فإن أي تحول في السياسة المناخية الأميركية له عواقب عالمية.
فالكوكب الأكثر سخونة يعني المزيد من الكوارث، بما في ذلك داخل الاتحاد الأوروبي، الذي يتعين عليه الاستعداد وفقا لذلك لتأثيرات مناخية أسوأ.
ويخشى البعض أن يؤدي فوز ترامب إلى تقليص الزخم للعمل المناخي في جميع أنحاء العالم، مما يجعل أهداف “اتفاق باريس” أبعد من المنال.
ورغم أن صادرات الغاز الطبيعي الأميركية بلغت أعلى مستوى لها على الإطلاق عام 2023، فإن ترامب يريد إلغاء تجميد إدارة بايدن لتصاريح مشاريع الغاز الطبيعي المسال الجديدة، وهو القيد الذي يخلق حالة من عدم اليقين في السوق الأوروبية.
وبالمحصلة، إذا مضى ترامب قدما في تطبيق حتى نصف الأفكار التي طرحها أثناء حملته الانتخابية، فمن المتوقع أن يعاني الاقتصاد الأوروبي من آلام شديدة.
فقد نقلت صحيفة "بوليتكو" الأميركية عن محللين اقتصاديين قولهم "إن اليورو قد يهبط بنحو 10 بالمئة مقابل الدولار إذا أقرت الإدارة الجديدة خطتها الخاصة بفرض التعريفات الجمركية، في حين قد تهبط أرباح مجموعة من أكبر الشركات الأوروبية بأكثر من 5 بالمئة عام 2025".