المقابر التاريخية.. هكذا حافظت عليها دول العالم وسحقها "بلدوزر" السيسي

داود علي | a year ago

12

طباعة

مشاركة

تتواصل "جريمة" جرافات النظام المصري بقيادة عبد الفتاح السيسي، في طمس مآثر ومقابر بالعاصمة العتيقة القاهرة، صمدت لمئات السنين وكانت شاهدة على تاريخ عريق لحضارات مرّت من أرض الكنانة.

ومنذ 15 مايو/ أيار 2023، فوجئ المصريون بأعمال هدم واسعة النطاق تنال المناطق التاريخية في القاهرة، حيث عم الغضب منصات التواصل الاجتماعي، اعتراضا على تلك الحملات.

رسم مصر

وفي 1 سبتمبر/ أيلول 2023، دعا مجموعة من الفنانين والفنانات والشباب من مختلف المحافظات، لجولة تفقدية إلى المقابر التاريخية والأماكن الأثرية وسط القاهرة، المهددة بالهدم بقرار من سلطة السيسي، خاصة أن التجريف وصل إلى أضرحة ومقابر شخصيات ضاربة في عمق الحضارة المصرية قديما وحديثا، منهم علماء وشعراء وقادة جيوش.

ونظمت الجولة تحت عنوان "طالع إزالة"، وأعلن مؤسس المبادرة، الفنان محمد حمدي، أن الزيارة بهدف رسم -وتسجيل- المدافن التي ستتم إزالتها أو هدمها.

ونشرت صفحة "رسم مصر"، على موقع "فيسبوك" في 2 سبتمبر، توافد وتجمع كبير لشباب رسامين حضروا من عدة محافظات؛ لرسم وتوثيق بعض الأماكن الأثرية في القاهرة التاريخية قبل إزالتها.

ومن أهم مقابر الشخصيات، الإمام الشافعي والإمام ورش، والقارئ الشيخ محمد رفعت، وأمير الشعراء أحمد شوقي، وغيرهم من رموز مصر على مدار حقب مختلفة.

حتى إنه تم إزالة "صحراء المماليك" التاريخية شرقي القاهرة، والتي يقدر عمر آثارها بأكثر من 500 عام، وتضم أكثر من 30 أثرا مسجلا، ودفن بها السلطان قايتباي وبرقوق، وغيرهما من سلاطين المماليك، بالإضافة إلى قبر شيخ الإسلام الإمام العز بن عبد السلام.

وبات الأسئلة التي تطرح نفسها، هل هذا التجريف يعد تطويرا حقيقيا لابد منه؟ وهل التطوير لابد أن يقضي على القبور الأثرية للعظماء والعائلات الضاربة في جذور الشعب المصري؟ وكيف تتعامل دول العالم مع القبور العريقة؟ خاصة أن هناك نماذج لدول حرصت على تطوير تلك القبور بل وإبرازها كمعالم سياحية.

مقبرة فوسين

من النماذج الحاضرة عند إحداث مقارنة بين تعامل نظام السيسي مع المقابر، وتعامل دول العالم التي لديها معالم تاريخية، يأتي النموذج الألماني، خاصة مقابر "فوسين".

وتعد مدينة "فوسين" الألمانية القريبة، من أهم المدن في البلاد لقيمتها التاريخية.

وتأخذ المدينة سمعتها السياحية العالمية من وجود قصرين كبيرين، الأول للملك لودفيج الثاني، حيث قصره المهيب "نيو شفان شتاين" المشيد عام 1869 والذي يزوره أكثر من 12 مليون زائر في السنة.

أما القصر الثاني لوالده الملك ماكسميليان الثاني، ووسط هذه المعالم السياحة تقع المقبرة التاريخية لمدينة فوسين.

هذه المقبرة تقع في قلب المدينة النابض، ولا تبدو مقبرة بالشكل المتعارف عليه لكثرة الأشجار والأزهار التي تغطيها، فهي أقرب إلى الحديقة منها لمقبرة.

وترجع قيمة المقبرة أنها من أقدم المقابر في ألمانيا، حيث ما زالت تحتفظ بكل تفاصيلها التي بنيت على أساسها عام 1528.

في البداية كانت مقبرة صغيرة ثم راحت تتوسع بعد ذلك في سنة 1725 حتى أخذت شكلها الحالي.

وتحرص الحكومة الألمانية على ترميمها باستمرار وإبقاء كل شيء على هيئته القديمة، فكل شيء قديم في المقبرة، بداية من الأشجار وشواهد القبور وأيضا مقاعد الجلوس.

حتى السياج الحديدي المحيط بها قديم ومصمم على الطراز البافاري القريب للقرون الوسطى، أما السياح فيأتون إليها، ويتجولون بين شواهد القبور العتيقة، وكأنهم في رحلة زمنية.

مقابر تركيا

وبإحداث مقاربة أخرى ومع دولة شرق أوسطية تأتي تركيا، التي هي على النقيض من نموذج السيسي في العبث بالمقابر.

فالجمهورية التركية تولي المقابر اهتماما خاصا من حيث التطوير والقدسية في آن واحد، فالمقابر التاريخية تلعب دورا مهما في ثقافة واهتمام الشعب التركي، كما تعد مزارا سياحيا لملايين الزائرين الذين يريدون الاطلاع على التراث التركي العثماني الغني بالقصص والأحداث. 

ومن أهم هذه المقابر "مقبرة الشهداء" التي تقع في منطقة "أدرنة كابي" قرب وسط إسطنبول (الجانب الأوروبي) وبجوار سور القسطنطينية القديم، وتحيطها أبنية المدينة، والإطلالة على بحر مرمرة.

يعود تاريخ تأسيسها إلى القرن الـ17 بعد أن تم إنشاؤها خصيصا لدفن شهداء الجيش العثماني وعساكره الذين قضوا في الحرب الروسية وحرب البلقان والحرب العالمية الأولى.

وعند دخول المقبرة تم كتابة ترجمة لآية قرآنية بالأحرف التركية "Allah yolunda öldürülenlere ‘ölüler’ demeyin. Aslında onlar diridirler, fakat siz anlayamazsınız"، وهي تشير لقوله تعالى: "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ".

ومن الذين تضمهم المقبرة قبر الشاعر التركي الشهير "محمد عاكف أرسوي" كاتب نشيد الاستقلال "النشيد الوطني التركي". 

ولا يمكن إغفال مقبرة منطقة أيوب، وتضم قبر الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري الذي قدم من المدينة المنورة إلى الأراضي التركية محاولا فتح القسطنطينية، وكان كبيرا في السن، وقد توفي على أسوارها ودفن هناك.

وبني بجوار قبره جامع كبير يطل على خليج القرن الذهبي في مضيق البوسفور ويأتي إليه يوميا مئات الزائرين.

واعتاد سلاطين الدولة العثمانية أن يبدؤوا يومهم الأول في الحكم بزيارة هذا المسجد والصلاة فيه ثم الانطلاق بحرا إلى قصر الحكم.

وهو تقليد يتبعه رئيس الدولة الحالي رجب طيب أردوغان، حيث يأتي لزيارة القبر، عشية الانتخابات.

وتضم المقبرة العديد من قبور السلاطين والوزراء وأعضاء المحاكم والسلطات الدينية والقادة العثمانيين، وعددا من كبار شعراء وفناني الدولة.

وتحتل هذه المقبرة مكانة عريقة في نفوس الأتراك، نظرا للرغبة في الدفن إلى جوار الصحابي أبي أيوب.

 

العجائب السبعة 

وإذا انتقلنا إلى دولة أخرى يحذوها التاريخ كم يحيط بمصر، تأتي بريطانيا.

وتعد المقابر في العاصمة لندن جزءا من الحياة العامة، فبحسب هيئة تنظيم المقابر والمحارق البريطانية للعام 2019، يوجد نحو 14 ألف مقبرة في المملكة المتحدة، 3500 مقبرة منها تاريخية.

وتضم لندن لوحدها أكثر من 140 مقبرة بمساحات مختلفة، يضاف إليها المساحات الخضراء المحيطة بالكنائس.

وبوجود هذا العدد الكبير من المقابر كان طبيعيا أن يحاط كثير منها بالدور، والمجمعات السكنية في مدينة يقترب تعداد سكانها من 9 ملايين نسمة.

ومن أهم مقابر لندن "العجائب السبعة"، وهي 7 مقابر كبرى تم تشييدها خارج مركز المدينة بين عامي 1833 و1841.

لكن التمدد العمراني أحاط اليوم بـ"العجائب السابعة" لتكون أغلبها محميات طبيعية ومعالم سياحية، يسكن الناس بجوارها.

وتعد مقبرة "بروكوود" بمقاطعة سري جنوب لندن أكبر المقابر في بريطانيا وفي أوروبا عموما.

 حيث تقع على مساحة تزيد عن ألفي كيلومتر مربع، فيما تشير إحصائيات إلى إجراء أكثر من 350 ألف عملية دفن في المقبرة قبل إدراجها ضمن قائمة المحميات التاريخية.

أما أقدم مقبرة في لندن فهي مقبرة "كينسال غرين"، التي تم تشييدها عام 1833 على 30 كيلومترا مربعا شمال غربي العاصمة.

مقبرة نوكسفيل الوطنية

وتأتي الولايات المتحدة كمثال آخر أمام الحكومة المصرية، رغم أنها لا تمتلك تاريخا ضاربا في القدم كمصر، وعمرها لا يتعدى بضعة قرون، لكنها أعطت مقابرها التاريخية قيمة من نوع خاص.

فمن المقابر التاريخية في الولايات المتحدة، "نوكسفيل" الوطنية، وتعود أهميتها أنها أنشئت من قبل اللواء "أمبروز بيرنسايد" الذي حررت قواته مدينة نوكسفيل في سبتمبر 1863 في ذروة الحرب الأهلية. 

المقبرة تقع في قلب مدينة "نوكسفيل" التابعة لولاية "تينيسي"، وتضم نصبا تذكاريا لجندي من جيش الاتحاد بطول 18 مترا والذي يقف في الركن الشرقي من المقبرة.

وفي عام 1996، تمت إضافة المقبرة إلى السجل الوطني للأماكن التاريخية بالبلاد.

ومعظم علامات المقابر هي شواهد رأس من الرخام ذات حجم وشكل متساويين، رغم أن القليل منها يحتوي على علامات أكبر وأكثر تفصيلا، لكن الحكومة الفيدرالية توليها اهتماما خاصا.

حتى إن مقبرة "نوكسفيل" هي واحدة من القلائل في البلاد التي لم تتطلب أي تعديلات عند تعيينها مقبرة وطنية في نهاية الحرب، وتم الحرص على أن تظل بشكلها وهيئتها القديمة.

جريمة متكاملة

وتحدث أستاذ التخطيط العمراني بكلية الهندسة جامعة الأزهر، إحسان ناجي، عن اهتمام الدول بالمقابر القديمة بصفتها جزءا أساسيا من ملامح المدينة وتراث الدولة.

وقال ناجي لـ"الاستقلال" إن "العديد من مدن العالم شرقا وغربا زرتها، من ماليزيا إلى الهند والصين وصولا إلى إيطاليا وإسبانيا، في هذه الدول عند الحديث عن المعالم التاريخية والحضارية والآثار، يعني هذا بوضوح القبور والأماكن القديمة، ماذا يكون التاريخ غير هذا؟" 

وأضاف: "ما يحدث في مصر جريمة متكاملة الأركان، فكيف يتم العبث بأماكن يعود عمرها إلى ألف سنة ويزيد دون وجود لجان وهيئات ومتخصصين؟ أين المستشارون والأكاديميون؟ لا يمكن في دولة من الدول أن يحرك حجر عمره أكثر من 100 سنة دون وجود لجنة تخطيط وتقييم، ما بالنا نتحدث عن شواهد ومنحوتات قائمة منذ مئات السنين".

وأورد: "مع الأسف النموذج الحالي للنظام حوّل القاهرة إلى مدينة أكثر عشوائية مما كانت عليه في أي عصر مضى، وزاد بأن انتزع منها روحها التاريخية التي كانت تعتمد عليها، وينظر إليه المصريون كنوع من تصبير النفس في زمن الاضمحلال، فحتى ذلك الصبر لن يجدوه إذا استمر الوضع على ما هو عليه".