هجرة مقبولة.. هكذا تستغل فرنسا المغرب من بوابة البحث العلمي والتعليم العالي

12

طباعة

مشاركة

استغلال فرنسا للكفاءات المغربية مستمر، حيث تستقطب أفضل الطلبة المكونين محليا لتغذية شريان اقتصادها بالطاقات الشابة المؤهلة، دون أن تكون قد ساهمت في تجهيزهم لهذا المستوى بأي صورة.

ومن أحدث الأدلة الكاشفة لهذا الاستغلال، نسب استقطاب مدرسة "البوليتكنيك" الشهيرة في باريس للطلبة المغاربة للعام الدراسي 2023/2024.

إذ عبر باحثون ومراقبون مغاربة عن تخوفهم من صدارة الطلبة المغاربة لأعداد الطلبة الأجانب المقبولين في هذه المدرسة الفرنسية الشهيرة، مؤكدين أن ما يحدث "هجرة للكفاءات والعقول المميزة".

والمدرسة متعددة التقنيات أو البوليتكنيك هي مدرسة فرنسية للمهندسين تأسست سنة 1794، وتقع تحت إمرة وزارة الدفاع الفرنسية برتبة مدرسة عمومية للتدريس والبحث، وهي من أقطاب البحث والتعليم العالي الفرنسي والأوروبي.

ونقل موقع "آشكاين" المحلي، في 2 أغسطس/ آب 2023، أن أسماء العديد من الطلبة ذوي الجنسية المغربية هيمنت على لائحة الطلبة الناجحين في اختبارات ولوج مدرسة الهندسة "بوليتكنيك" بفرنسا.

وسجل المصدر ذاته أن أزيد من 40 تلميذا مغربيا اجتاز بنجاح امتحان الولوج لهذه المدرسة الشهيرة.

وأوضح أن "الطلبة المغاربة تمكنوا مرة أخرى من البقاء في صدارة الطلبة الأجانب الناجحين في مباريات الولوج إلى مدرسة بوليتكنيك".

وذكر أنه "من بين 60 طالبا أجنبيا الذين سيلتحقون بالمدرسة هذه السنة، يوجد 41 طالبا وطالبة من المغرب".

من جانب آخر، تم قبول 10 طلبة من تونس بالمدرسة الفرنسية المذكورة، وطالب واحد من الدول الباقية، وهي الصين، كندا، تشيلي، النمسا، رومانيا، تشيك، لبنان، الكونغو، والجزائر.

وعبرت السفارة الفرنسية بالمغرب في منشور عبر صفحتها على "فيسبوك" بتاريخ 2 أغسطس 2023، عن تهنئتها لصدارة الطلبة المغاربة لمجموع الطلبة الأجانب المقبولين لولوج مدرسة البوليتكنيك بباريس.

مأساة أم مفخرة؟

في الوقت الذي يرى فيه البعض أن هذه الأرقام هي مفخرة للمغرب وللمدرسة الوطنية، يرى آخرون أنها علامة على مأساة، وأن كلفتها السلبية أكبر بكثير من عائدها الإيجابي.

وفي هذا الصدد، يرى إسماعيل سعدون، الأستاذ بجامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية، أن "نجاح 40 طالبا مغربيا من أصل 60 طالبا أجنبيا هو إنجاز مشرف لنا نحن المغاربة".

وأضاف سعدون لموقع "هسبريس" المحلي، في 2 أغسطس، أن "الأمر نفسه يحدث في كبريات الجامعات، والمدارس متعددة التخصصات عبر العالم، حيث يتفوق المغاربة على نظرائهم من دول متعددة".

وأشار الخبير في مجال بطاريات الليثيوم إلى أن "هذا الإنجاز إذا تمت معالجته بشكل شامل سيظهر لنا وجود تناقص في عدد الطلبة المغاربة المغادرين نحو الخارج، خاصة أن هنالك جامعات مغربية تعرف وسائل تعليم حديثة جدا تضاهي تلك الموجودة في الدول المتقدمة".

واستطرد الأستاذ بجامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية بابن جرير: "التقدم لا ينحصر على مجال البنيات والوسائل التعليمية، بل يصل أيضا إلى القدرات المعرفية لدى الطلبة المغاربة".

وتابع سعدون قائلا: "ما نلمسه نحن حاليا من تفوق واضح لدى القدرات المعرفية للطالب المغربي، يبين لنا وجود تحول جذري في الفضاء التعليمي الجامعي بالمغرب".

وشدد على أن "المملكة لها القدرات الكافية لاستقطاب الطلبة المغاربة لاستكمال تعليمهم الجامعي، خاصة أن نظامنا التعليمي على الرغم من الانتقادات التي توجه إليه فهو وسط مهم لتطوير القدرات المعرفية وتحقيق التفوق، وهو ما نراه في نتائج المباريات بالمدارس والمعاهد والجامعات الأجنبية".

وأضاف: "هؤلاء الطلبة المغاربة المتميزون في الخارج لم يخسرهم بلدهم الأم، بافتراض أن غالبيتهم لهم فكرة العودة إلى المغرب وتوفير مؤهلاتهم خدمة لبلدهم؛ ما يجعل المغرب المستفيد الأول".

وخلص الأستاذ الجامعي إلى أن "الطلبة العائدين للمغرب بعد انتهاء تعليمهم بالخارج لهم مؤهلات كبيرة ويعدون خير السفراء، وسنستفيد منهم بشكل كبير، وهو الحال لدى طلبتنا هنا بالمغرب الذين يمتازون بمؤهلات جد كبيرة".

غير أن عبد الحق غريب، أستاذ العلوم بجامعة شعيب الدكالي، له رأي آخر، حيث رأى أن ولوج 41 نابغة من المغرب إلى مدرسة البوليتكنيك هو خسارة للمغرب، وضربة موجعة لحاجة البلاد لأبنائها الأكفاء.

وأردف غريب وهو عضو اللجنة الإدارية للنقابة الوطنية للتعليم العالي لـ"الاستقلال"، أن هذا يندرج في إطار سياسة فرنسا وغيرها لاستقطاب الكفاءات الأجنبية بشكل عام والإفريقية بشكل خاص.

وشدد على أن التجربة بينت أن أي طالب مغربي متميز بعد أن يضع رجله في إحدى مؤسسات التعليم العالي بفرنسا أو غيرها، ويكمل دراسته هناك، فإنه لا يعود إلى المغرب إلا نادرا، وأنه يشتغل هناك ويحصل على الجنسية وقد لا يعود أبدا.

وبناء على وقائع متكررة، يقول غريب، يهاجر أبناء وبنات مغاربة إلى بلد آخر يستفيد منهم، بعد أن تابعوا وأكملوا دراستهم وتعليمهم في بلدهم المغرب، وأصبحوا جاهزين للعمل والعطاء، مشددا أن هذا "كارثة بكل المقاييس".

ونبه المتحدث ذاته، إلى أن فرنسا هي الوحيدة التي ستستفيد من تعليمهم وكفاءتهم، علما أن هذا البلد لم ينفق على تعليمهم ولا سنتيما واحدا.

وذكر غريب أن "فيدرالية التكنولوجيات الحديثة والاتصال"، وهي مؤسسة اقتصادية/أهلية، كشفت أخيرا أن 8000 من الكوادرعالية المهارة، التي يتم تعليمها في القطاعين العام والخاص، تهاجر سنويا إلى الخارج.

وتابع، كما كشفت الفيدرالية أن 25 في المئة من الكوادر العاملين في قطاع التكنولوجيا الحديثة قدموا استقالتهم سنة 2017، بحثا عن فرص عمل محفزة وظروف عيش جيدة خارج المغرب.

وخلص غريب للقول، إنه "عندما يصبح العاطلون عن العمل والكوادر العليا على حد سواء لا يرغبون في العيش والاستقرار في وطنهم، ويهاجرون إلى بلدان أخرى، فاقرأ الفاتحة على مستقبل البلد".

ظاهرة مغاربية

ليس الطلبة المغاربة فقط من تستقطبهم المدارس والجامعات الفرنسية، بل يضاف إليهم أيضا زملاؤهم من المنطقة المغاربية، وخاصة من الجزائر وتونس.

حيث سبق لموقع "المغاربية"، في 25 يوليو/ تموز 2023، أن ذكر أن الجامعات والمعاهد الفرنسية ما تزال تحافظ على صدارتها كإحدى الوجهات المفضلة للطلبة المغاربيين لإتمام دراستهم الجامعية، وفق أحدث تقرير للوكالة الفرنسية للنهوض بالتعليم العالي.

وذكر أن مجموع الطلاب الأجانب الذين استقبلتهم الجامعات الفرنسية في الموسم الجامعي 2022-2023 بلغ ما مجموعه 400 ألف طالب، معظمهم قدموا من البلدان المغاربية.

وحل المغاربة في صدارة الطلبة الأجانب بفرنسا، إذ بلغ عددهم 46 ألفا و371 طالبا خلال الموسم الجامعي الأخير، بزيادة بلغت 22 بالمئة مقارنة بإحصائيات الفترة الممتدة بين عامي 2016 و2021.

وعلى غرار إحصائيات الأعوام الثلاثة الماضية، حل الطلبة المغاربة أيضا في صدارة الطلبة الأجانب في المدارس العليا للهندسة بفرنسا، حيث بلغ عدد المسجلين برسم الموسم الجامعي 2022-2023 ما مجموعه 6064 طالبا.

وحل الطلبة الجزائريون في المركز الثاني بعدد طلاب بلغ 31 ألفا و32 طالبا، بزيادة بلغت 19 بالمئة بالمقارنة مع الفترة الممتدة من 2016 و2021، وبزيادة 3 في المائة مقارنة بإحصائيات عام 2022.

وجاء ترتيب الطلاب الجزائريين في معاهد المدارس العليا للهندسة بفرنسا في المركز الثامن، بينما حلوا في المركز الرابع في قائمة الطلاب الأجانب الذين يقصدون فرنسا لإعداد رسائل الدكتوراه.

وحل الطلبة التونسيون في المركز السادس، وراء كل من السنغال وإيطاليا والصين، وبلغ مجموعهم 13 ألفا و661 طالبا، بزيادة بلغت 10 بالمئة مقارنة مع الفترة الممتدة ما بين 2016 و2021.

وبعد الطلبة المغاربة والصينيين، حل التونسيون في المركز الثالث في قائمة الطلاب الأجانب الذين يقصدون فرنسا لدراسة الهندسة، وفي المركز التاسع ضمن مجموع طلاب جامعات التجارة.

وفي مقال بعنوان "في المالية هؤلاء المهندسون المغاربة"، تناولت مجلة "ماريان" الفرنسية في نوفمبر/تشرين ثاني 2022، هذه الظاهرة الموصوفة بـ"الهائلة"، مشيرة إلى أنه في بعض الأقسام داخل البنوك الفرنسية الكبرى، تصل نسبة المهندسين المغاربة إلى 40 في المئة.

وأرجع موقع "أندبندت عربية"، في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، هذا النجاح إلى جودة التدريب في الرياضيات بالمدارس الثانوية والصفوف الإعدادية في المغرب.

ويرى جيل باجيس، أستاذ الرياضيات، ورئيس قسم ماجستير اختصاص "الاحتمالات والتمويل" في جامعة "بيير إي ماري كوري والبوليتكنك"، وهي من أهم الجامعات الفرنسية، أن المغاربة هم أكثر من يحصلون على شهادات من هذه الجامعة، كما يعد المهندسون المغاربة القوة الأجنبية الأولى في القطاع المصرفي.

وأكد باجيس "أن المهندسين المغاربة بفرنسا لا يبرزون فقط في القطاع المصرفي والمالي فحسب، بل أيضا في قطاع التكنولوجيا"

وبحسب وزارة التعليم العالي والبحث العلمي المغربية، فإن أكثر من 600 مهندس يغادرون المغرب كل عام لمتابعة المهنة في الخارج.

كما ذكر الاتحاد المغربي لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات (APEBI)، أن العديد من الشركات الفرنسية تنظم بشكل مباشر ورش عمل للتوظيف في الفنادق في المغرب.

وأشار المصدر ذاته، إلى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يشجع استقطاب العقول في مجال التكنولوجيا، ولتسهيل إجراءات مغادرتهم البلد، تقدم لهم فرنسا تأشيرة التكنولوجيا الفرنسية، ما يسمح لهم الحصول على تأشيرة في وقت قصير جدا.

غياب المحفزات

من جانبه، سجل خالد الصمدي، كاتب الدولة السابق المكلف بالتعليم العالي والبحث العلمي، أن ارتفاع عدد الطلبة بهذه المدرسة، "جاء أساسا في ظل وجود تعاون مغربي فرنسي على مستوى الولوج إلى المؤسسات متعددة التقنيات الفرنسية".

وقال الصمدي لـ"الاستقلال"، إن هذا التعاون "يمنح للطلبة المغاربة مهما كان وضعهم الاجتماعي فرصة الحصول على منحة دراسية، على عكس نظيرتها المغربية التي تمنحها فقط للذين يستوفون معايير الاستحقاق الاجتماعي".

وأوضح المتحدث ذاته، أنه "بالإضافة إلى المنحة، تكون رحلات هؤلاء الطلبة المغاربة ذهابا وإيابا ممولة من السلطات المغربية؛ الأمر الذي يشجع عائلات هؤلاء الطلبة على تدريس أبنائهم بالخارج".

وبحسب كاتب الدولة السابق المكلف بالتعليم العالي والبحث العلمي، فإن هذه العوامل "تساهم بشكل كبير في هجرة الطلبة المتميزين المغاربة إلى الخارج".

وحتى لا تؤدي هذه الإجراءات إلى هجرة الأدمغة، ذكر الصمدي أن "الدولة المغربية نهجت سياسة للحد من نسب هجرة الطلبة المتميزين، من خلال فتح المجال أمام إنشاء المؤسسات الشريكة، كالجامعة الدولية بالرباط، والجامعة الأورومتوسطية بفاس وغيرهما، وذلك قصد تخصيص مجال جد متقدم للتعليم أمام الطلبة المغاربة".

ورأى الصمدي أن هذه السياسة التي وصفها بالناجحة، تبقى غير كافية بتاتا على هذا المستوى.

ومن بين الحلول التي يقترحها الصمدي لتجاوز الظاهرة، "الرفع من نسب المنح بالتدريج إلى نسب 30 أو 40 بالمئة، وتوجيهها إلى جميع الطلبة المتفوقين وليس حسب الاحتياجات الاجتماعية".

واسترسل، إضافة إلى ضرورة "خلق فرص للشغل أمامهم من خلال تخصيص تداريب ميدانية معمقة، وتسهيل ولوجهم للمقاولات من أجل العمل، بالإضافة إلى الرفع من الأجور التي تبقى حاليا غير كافية وغير جاذبة".