تقاعد ذهبي.. كيف تحولت السعودية إلى جنة للدبلوماسيين البريطانيين؟
تحت مظلة حكم وسيطرة ولي العهد محمد بن سلمان، يبدو أن المملكة العربية السعودية قد تحولت إلى "مقبرة للأفيال"، حيث يتهافت إليها كثير من الدبلوماسيين البريطانيين المتقاعدين.
ومقبرة الأفيال تعبير مجازي أو أسطورة، ترمز إلى المكان الذي يذهب إليه كبار السن من هذه الحيوانات ليموتوا بمفردهم.
وذلك المصطلح يستخدم في عالم البشر ويطلق على المقاهي والتجمعات التي يذهب إليها كبار السن بعد حياة حافلة من العمل، ويقضون أوقاتهم هناك في انتظار الموت والنهاية.
لكن هؤلاء الأشخاص لا ينتظرون النهاية كأقرانهم، بل يبدأون من جديد بمهام محددة وارتباطات سياسية وتجارية، تحت مظلة الحكومة السعودية.
فلماذا سعت الرياض لتوظيف هؤلاء؟ وما وجه المنفعة بين الطرفين؟ ومن أبرز الدبلوماسيين البريطانيين المتقاعدين الذين يعملون حاليا في المملكة؟
سايمون كوليس
في 28 يونيو/حزيران 2023، نشرت مجلة "إنتيليجنس أونلاين" الفرنسية المتخصصة في شؤون الاستخبارات، تقريرا عن هؤلاء تطرق إلى عدد من الشركات البريطانية العاملة في السعودية.
وأوردت أن تلك الشركات تعتمد على شخصية من نوع خاص، يكون بمثابة العراب بينها وبين الحكومة والأمراء السعوديين.
كان ذلك الشخص هو "سايمون كوليس"، السفير البريطاني السابق لدى الرياض لمدة 5 سنوات (2015 إلى 2020).
فعلى خطى أسلافه، تولى السفير السابق لدى السعودية عددا من الوظائف الدبلوماسية التجارية داخل المملكة منذ تقاعده.
وأوردت المجلة الفرنسية، أن كوليس هو الذي ذلل كل العقبات أمام شركة الشؤون العامة البريطانية "Sovereign Strategy"، وساعد رئيسها التنفيذي "آلان دونيلي" للمشاركة في اجتماع خاص مع وزير الصحة السعودي فهد الجلاجل، لتسهيل أعمال الشركة في المملكة.
ويعد كوليس مستشارا وثيقا لشركة "FMAP" البريطانية لاستشارات الحوكمة، والتي أسسها البارون فرانسيس مود، وزير التجارة والاستثمار البريطاني السابق والأمين العام لحزب المحافظين السابق.
وبسبب نشاط كوليس في الدوائر الحاكمة بالرياض، فقد شملت قائمة زبائن الشركة، وزارة المالية السعودية.
ومع ذلك أشارت "إنتيليجنس أونلاين" أن كوليس، رغم مسيرته المهنية الجديدة في القطاع الخاص بالسعودية، لم يخضع للمسائلة من قبل اللجنة الاستشارية لتعيينات الأعمال (أكوبا)، المختصة بفحص أنشطة الموظفين البريطانيين السابقين بعد التقاعد.
النشاط الذي يظهره السفير البريطاني السابق، كان أخطبوطيا بسبب أذرعه المتعددة وتدخله في كثير من الأماكن الحساسة بالمملكة، ولارتباطه أيضا بشبكة علاقات قوية بكبار الأمراء والوزراء.
فقد عمل كوليس مثلا مع شركة "Dragoman" الأسترالية البريطانية لدبلوماسية الأعمال الدفاعية، والتي يرأسها الأسترالي روبرت هيل السناتور السابق ووزير الدفاع الأسترالي السابق.
ونجح كوليس عام 2020 في تطوير شراكة بين تلك الشركة، وهيئة المسح الجيولوجي السعودية، تحت بند "إستراتيجية التنمية الاقتصادية" لولي العهد محمد بن سلمان.
وعلى وقع العلاقة القوية بين سايمون كوليس ووزير الطاقة السعودي خالد الفالح فازت الشركة بمزيد من العقود في الرياض.
إذ دخلت ضمن الشركات العاملة في مشروع "نيوم"، وعملت كذلك لصالح صندوق الاستثمارات العامة السعودي.
أما كوليس فهو أحد أعضاء مجلس أمناء مؤسسة Turquoise Mountain، وهي مؤسسة تروج للتراث الثقافي والحرفي وتنشط في السعودية.
ويعد كوليس من أبرز وأهم الدبلوماسيين البريطانيين الذين أقاموا في المملكة بشكل دائم نهاية فترة عمله في عام 2020، حيث اعتنق الإسلام ويعيش في الرياض مع زوجته هدى.
وليام باتي
ومن بين الدبلوماسيين البريطانيين العاملين في الرياض "ويليام باتي" سلف كوليس في منصب السفير البريطاني في السعودية.
باتي الذي شغل المنصب من عام 2006 إلى عام 2010، عمل كمستشار خاص للعديد من المؤسسات والشركات السعودية.
كما له صلة بشبكة الأمير سلطان بن سعود عبر مؤسسة "الجبل الفيروزي"، والتي تعرف نفسها عبر موقعها الرسمي "أنها تعمل على إعادة إحياء الحرف التقليدية، وإعادة تأهيل المجتمعات الغنية بالموروث الثقافي، ودعمها لخلق فرص عمل وتطوير مهارات جديدة".
و"باتي" أيضا رئيس مجلس أمناء الجمعية السعودية البريطانية التي يرأسها خالد بن بندر ويرعاها الملك تشارلز الثالث.
ومن خلال شركته WCP للاستشارات، يعمل باتي كمستشار للمجموعات السعودية "Control Risks Group" وشركة دبلوماسية الأعمال "The Ambassador Partnership"، وهو عضو في مجلس إدارة بنك HSBC في الشرق الأوسط.
ولباتي شراكة قوية مع خالد، نجل وفيق سعيد (رجل أعمال سعودي بريطاني من أصول سورية)، وقد تولى إدارة المشتريات الدفاعية السعودية في المملكة المتحدة في الثمانينيات، وما زالت شبكة اتصالاته نشطة في الدولتين.
وتكمن أهمية الشراكة بين باتي وسعيد أن الأخير عضو في مجلس إدارة شركة "Dayim Holdings" التي جلبت كثيرا من شركات الأمن والدفاع البريطانية بما في ذلك Securitas و QinetiQ و Punj Lloyd إلى الرياض.
وقد أسس شركة Dayim سفير السعودية الحالي في لندن خالد بن بندر حفيد الأمير الراحل سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع وولي العهد الأسبق.
لذلك فإن باتي استفاد من قوة نفوذ هذه الشركة وامتداداتها في العقود الدفاعية بين لندن والرياض.
شيرارد كوبر
ويأتي شيرارد كوبر كولز سلف باتي كسفير في الرياض (من 2006 إلى 2010) ضمن قائمة الدبلوماسيين البريطانيين الذين استفادوا من مواقعهم هناك.
ففي 8 سبتمبر/ أيلول 2015 أمر الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، بتقليده وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى، وهو ما لم ينطبق على زملائه الآخرين.
ويعمل شيرارد كمستشار لبنك "HSBC" ويركز بشكل متزايد على الاستشارات في آسيا.
ولكنه لا يزال منخرطا في الشؤون السعودية كرئيس بريطاني لمجلس الأعمال السعودي البريطاني المشترك (SBJBC UK)، وذلك رفقة رجل الأعمال السعودي البارز عماد الدخيل، حيث تربطه بشيرارد شراكة في مجالات متعددة.
لكن السؤال الذي طرح نفسه في مسيرة شيرارد كوبر كولز بالسعودية هو: لماذا اختصه الملك سلمان، بوسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى؟
ربما يرجع الأمر لدين كبير لكوبر كولز، ففي عام 2006، عندما كان سفيرا، وقف في مواجهة مكتب مكافحة الاحتيال الخطير (SFO) لوقف تحقيق لمكافحة الفساد في صفقة "اليمامة" الشهيرة، والتي تورط فيها كبار السياسيين البريطانيين والسعوديين.
ولمعرفة الدور الذي لعبه شيرارد في تلك الأزمة، فإن صفقة "اليمامة" هي سلسلة من صفقات شراء ضخمة بشكل غير مسبوق لأسلحة بريطانية من قبل الحكومة السعودية.
وكان الاتفاق أن يجري دفع مقابل تلك الأسلحة بالنفط الخام، حيث يحول 600 ألف برميل منه يوميا للحكومة البريطانية.
أما سبب شهرة الصفقة فيتمثل في ضخامة الرشاوي والعمولات المدفوعة فيها، حيث كانت الجهة الرئيسة المتعاقدة "بي إيه إي سيستمز" البريطانية، التي لها فرع في السعودية.
وقد بدأت الصفقة عام 1985 وانتهت عام 2006، وأقرت الشركة البريطانية أنها ربحت 43 بليون جنيه إسترليني في السنوات العشرين من التعاقد. ورأى أن هذا التعاقد هو أكبر عقد تصدير في بريطانيا عبر التاريخ، ووظف 5 آلاف شخص على الأقل.
وفي 2006 أطلق مكتب تحقيقات الاحتيال الخطير البريطاني، تحقيقه بخصوص الصفقة، واتهمت الشركة البريطانية وبعض المسؤولين السعوديين بتهم الغش في الحسابات وإعلان بيانات مضللة بما يتعلق بالمبيعات.
وبدأت الضغوط السعودية تتزايد لوقف التحقيق، واستعانت المملكة بوساطة السفير البريطاني حينها، شيرارد كولز، وبالفعل لاحقا جرى وقف التحقيقات حفاظا على العلاقات الثنائية.
لكن المثير أن شيرارد بعد تقاعده من العمل كدبلوماسي، عمل عام 2010 مستشارا لشركة بي أيه إي سيستمز، المتورط الأول في صفقة "اليمامة"، وها هو أيضا مستمر في أعماله الخاصة بالسعودية.
فيليبس وجينكينز
من جانبه، حافظ توم فيليبس سفير بريطانيا في السعودية خلال الفترة من 2010 إلى 2012، على مكانة أقل ولم يأخذ دورا رسميا في أي هيئة ثنائية.
لكنه لم يخرج خالي الوفاض حيث انضم إلى المجلس الاستشاري لشركة استخبارات الشركات GPW، وهي شركة تابعة حاليا لشركة JS Held، التي لها علاقات واسعة بالاستخبارات السعودية.
كما انضم إلى مجلس إدارة شركة Africa Matters ، التي استحوذت عليها شركة JS Held أخيرا.
ويقدم فيليبس أيضا المشورة بشأن السعودية وصناع القرار بداخلها، إلى وحدة الاستقرار متعددة التخصصات التابعة للحكومة البريطانية، والتي تدير صندوق الصراع والاستقرار والأمن السري.
ومن بين جميع الدبلوماسيين البريطانيين الذين عملوا كسفراء في السعودية على مدار العشرين عاما الماضية اختار جون جينكينز، الذي خدم في الرياض من 2012 إلى 2015، الهدوء النسبي للأوساط الأكاديمية بدلا من عالم الأعمال.
وعلى الرغم من أنه يشارك في بعض الأنشطة العامة، فإنه يرأس مكتب الشرق الأوسط في البحرين التابع للمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية (ISS).
كما أن جينكينز يحاضر بشكل دوري في بعض الجامعات السعودية بالرياض وجدة والطائف.