حتى الموتى لم ينجوا من انقلابه.. قبور قامات مصر التاريخية تحت "بلدوزر" السيسي

داود علي | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

نظم الشاعر المصري الشهير أحمد شوقي (توفي 1932) في رثاء شاعر النيل حافظ إبراهيم "قد كنت أوثر أن تقول رثائي.. يا منصف الموتى من الأحياء"، لكن الآن قبر الفقيد نفسه لم يجد من ينصفه من الأحياء؛ إذ غدا قبره في مهب الريح. 

مرت السنوات ولم يجد الموتى في مصر من ينصفهم، ولا قبر "أمير شعراء العرب" نفسه غدا في أمان، بسبب البلدوزرات والجرافات التي أطلقها نظام عبد الفتاح السيسي ضد آلاف المقابر في منطقة القاهرة التاريخية، بذريعة "التطوير وإنشاء طرق وجسور". 

ومنذ 15 مايو/ أيار 2023 فوجئ المصريون بأعمال هدم جديدة واسعة النطاق تطال المناطق الأثرية والتاريخية في القاهرة، وعم الغضب والاستهجان منصات التواصل الاجتماعي، اعتراضا على تلك الحملات، دون أي رد فعل من النظام.

خاصة أنها وصلت إلى أضرحة ومقابر لشخصيات ضاربة في عمق الحضارة المصرية قديما وحديثا، منهم علماء، وشعراء، وقادة جيوش، وسياسيون وغيرهم. 

الإمام ورش 

ومن أبرز المقابر التي نالها معول هدم السلطات المصرية، وتم وضع علامة عليها لنقلها هي مقبرة صاحب الرواية الشهيرة في قراءة القرآن، الإمام عثمان بن سعيد بن عبد الله بن عمرو بن سليمان، ولقبه ورش.

وفي 22 مايو، نُشِرت صور على صفحات التواصل الاجتماعي لضريح الإمام ورش،  في مقابر الإمام الشافعي بالقاهرة، وعليه علامة تؤشر لهدمه ونقل رفات الإمام، وهو ما أغضب كثيرا من الباحثين والعلماء. 

خاصة أن الإمام ورش يعد من نوابغ مصر والعالم الإسلامي في قراءات القرآن الكريم. 

وولد في مصر عام 110 هـ، وتلقى القرآن عن شيخه الإمام نافع بن عبد الرحمن الكناني، والأخير تلميذ الإمام مالك بن أنس في المدينة المنورة، وختم عليه قراءة القرآن عدة مرات، وهو من سمى تلميذه "ورش". 

وانتشرت قراءة ورش من مصر إلى شمال إفريقيا، وغربها، وفي الأندلس، وهي أكثر القراءات شيوعا في العالم الإسلامي حاليا بعد رواية حفص.

وظلت قراءة ورش السائدة في مصر حتى فتحها العثمانيون فاستبدلوا بها قراءة حفص عن عاصم. 

الشيخ محمد رفعت 

وفي 9 مايو استيقظت أسرة الشيخ الراحل محمد رفعت، الملقب بـ"قيثارة السماء"، على خطاب من محافظة القاهرة بشأن قرار إزالة المقبرة التي تقع ضمن مقابر السيدة نفيسة بالقاهرة، من أجل إنشاء محور صلاح سالم المروري.

والشيخ محمد رفعت من أعلام قراء القرآن المصريين، وهو الذي افتتح بث الإذاعة المصرية عام 1934، بتلاوة آيات من الذكر الحكيم. 

وهو أول قارئ يسجل لإذاعة "بي بي سي" البريطانية النسخة العربية، بعد أن حصل على فتوى من شيخ الأزهر (آنذاك) الإمام المراغي. 

وتميز الشيخ رفعت بصوت عذب وأسلوب خاص في التلاوة، قائم على الهدوء وإعطاء كل حرف حقه.

ووصفه خير الدين الزركلي صاحب كتاب الأعلام بأنه "أعلم قرّاء مصر بمواضع الوقف من الآيات"، ولطالما قرأ القرآن في مسجد فضل باشا، بحي السيدة زينب في القاهرة. 

وقصده كبار الناس في زمنه، للاستماع إليه، على رأسهم الملك فاروق، وتأثر بمدرسته العديد من القراء، على رأسهم محمد رشاد شريف إمام المسجد الأقصى. 

وصرحت "هناء"، حفيدة الشيخ رفعت، أنها في صدمة وعائلتها من قرار إزالة قبر الشيخ. 

وقالت في تصريح لصحيفة "مصراوي" المحلية: "تم إزالة عدد من المقابر سابقا، واعتقدت أن السلطات استثنت مقبرة الشيخ من الإزالة بصفتها تاريخية".

وعبرت باكية ومتأثرة كيف يمكن أن تكتب نهاية تاريخ الشيخ بهذه الطريقة، وبما لا يليق بمكانته؟!

 

الإمام الشافعي 

وفي 26 مايو تقدم عدد من نواب البرلمان المصري، بطلب للبحث عن حلول بديلة لتجنب هدم تراث مصر القديمة وإزالة مقابر السيدة نفيسة والإمام الشافعي.

وتقدمت النائبة مها عبد الناصر، عضو مجلس النواب وعضو الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، بطلب موجه لكل من رئيس مجلس الوزراء، ووزراء السياحة والآثار، والنقل المواصلات، والتنمية المحلية، والإسكان، بشأن: مخططات تطوير القاهرة عبر إزالة مقابر السيدة نفيسة والإمام الشافعي.

ولمقبرة الإمام الشافعي رمزية خاصة ليس للمصريين فحسب بل لعموم المسلمين، فالشافعي هو ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، واسمه بالكامل محمد بن إدريس الشافعي. 

وكتب عنه المؤرخ الإسلامي الدكتور محمد الصلابي في كتابه "محطات من حياة الإمام المجدد محمد بن إدريس الشافعي" أنه "من أقرب الأئمة الأربعة لبيت الرسول صلى الله عليه وسلم.

فهو قرشي، كما أن المالكية يفتخرون به لكونه من تلاميذ الإمام مالك، والإمام أحمد بن حنبل يجله ويحترمه ويعده من شيوخه، كما أن الشافعي تتلمذ على يدي محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة". 

وكان الشافعي محبا لمصر وهاجر إليها وكتب فيها الشعر حيث قال: "لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر.. ومن دونها أرض المهامه والقفر". 

وفي مصر كتب الشافعي كتابه "الرسالة" المعروفة بـ "الجديدة" لأنه كتب في العراق "الرسالة" القديمة، وقد جدد مذهبه الفقهي في مصر. 

ورحل على أرضها سنة 204 هجري الموافق 820 ميلادية، ودفن في مقامه الحالي المعروف بمقابر الإمام الشافعي في القاهرة التاريخية، وهي المقابر التي تسعى حكومة السيسي إلى إزالتها بدافع التطوير المزعوم. 

العز بن عبد السلام 

ومن المشاهد والصور التي تم تداولها بكثافة، صورة شاهد قبر الإمام العز بن عبد السلام، وقد تم هدمه وتحول إلى ركام. 

والعز بن عبد السلام من كبار فقهاء الإسلام، ومعروف بسلطان العلماء وشيخ الإسلام، وعاش خلال فترة حكم المماليك والدولة الأيوبية، وعاصر اجتياح المغول للعالم الإسلامي.

وهو الذي حرّض أمراء المسلمين والناس على جهاد المغول، وشارك بنفسه في المعارك خاصة معركة "عين جالوت" عام 1260 ميلادية، عندما انتصر الجيش الإسلامي بقيادة السلطان المظفر قطز. 

وتوفي الإمام العز بن عبد السلام في مصر عام 1262 ميلادية، ودفن في مقابر صحراء المماليك، التي تم هدمها وتجريفها في عهد السيسي.

وتسبب مشهد حطام مقبرته في حزن كبير لدى المصريين خاصة الباحثين والمؤرخين، الذي أكد بعضهم أن المقبرة كانت مهملة لسنوات من الأساس. 

 

شواهد محطمة 

لم يقف الأمر عند كبار علماء الإسلام والفقهاء فقط، فأعمال الإزالة التي زادت وتيرتها في منطقة القاهرة التاريخية وصلت إلى 2700 قبر، ونالت مقابر تعود ملكيتها لعائلات عريقة كانت لها أدوار وطنية في حقب تاريخية مختلفة.

ومنها أشخاص يرتبط بهم تاريخ مصر الحديث، وتدرس سيرهم ومواقفهم في المناهج الدراسية التعليمية.

من بينهم الشاعران حافظ إبراهيم ومحمود سامي البارودي (كان وزيرا للحربية خلال الثورة العرابية 1881 ميلادية)، وقبة إسماعيل صدقى باشا ومقبرة شيخ الأزهر السابق محمد مصطفى المراغي.

وأيضا مدفن علي باشا فهمي (كبير الياوران خلال عهد الملك فؤاد) أخطرت عائلته بقرار إزالة المدفن، وهو في حد ذاته يمثل طرازا فريدا للفن والعمارة. 

وكذلك الزعيم الوطني محمد فريد، الذي قاوم الاستعمار الإنجليزي لمصر، وناضل لجلاء الاحتلال، حتى تم تهديده وكان هناك خطرا على حياته فغادر إلى ألمانيا ومات في برلين عام 1919. 

وتبرع أحد كبار التجار لنقل جثمانه إلى أرض وطنه مصر ليدفن في مقابر الإمام الشافعي، ولكن قبره الآن على وشك الإزالة بفعل قرار الحكومة المصرية. 

ومن المقابر التي تمت إزالتها مقبرة الأمير يوسف كمال مؤسس مدرسة الفنون الجميلة عام 1905 وجمعية محبي الفنون الجميلة عام 1924 وأحد مؤسسي الأكاديمية المصرية للفنون بروما.

إذا كان الحديث عن جزء من مئات الرموز تم العبث بأضرحتها، فهناك الآلاف من الجثامين طويت قبورها بالفعل، وهو ما رواه الناشط محمد عبد الملك في تدوينة نشرها يوم 28 مايو 2023، كشاهد عيان على إزالة مقابر القاهرة التاريخية.

وقال: "قدر لي أن أشهد تجربة لا أنساها ما حييت، تلك هي عملية إنشاء طريق الأوتوستراد، فكانت البلدوزرات تشق قلب المقابر في قسوة جهنمية بشعة، بمحاريث تغوص في قلب التربة فترمي بعظام الموتى على الجانبين، لكي يجيء وابور الزلط فيدوس الأرض يبططها ليعبدها". 

 

أمن قومي 

وليست هذه هي المرة الأولى التي يثور فيها جدل في مصر بشأن هدم مقابر تخص رموزا من أجل بناء جسور.

فعلى مدار عامي 2020 و2021، أزال نظام السيسي آلاف المقابر التاريخية في القاهرة القديمة، لإفساح الطريق أمام جسور توصل أطراف العاصمة المتسعة بامتدادها في العاصمة الإدارية الجديدة. 

بدأت قصص هدم مقابر تاريخية منذ 18 يوليو/ تموز 2020، حين انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي في مصر صور ومقاطع فيديو تظهر هدم قبور قديمة بهدف بناء طرق وكباري للسيارات في القاهرة التاريخية. 

في هذه المنطقة يوجد ما يسمى "مدينة الأموات" أو "القرافة" باللغة العامية المصرية، وتضم مجمعا للمقابر الشاسعة التي تعود للقرن السابع ميلادي.

وتعد المقابر والمساجد والمعالم في تلك المنطقة ضمن القاهرة التاريخية التي تدخل ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، ففيها يدفن منذ قرون الحكام التاريخيون والنخبة والعامة خلال الحقبة التاريخية الإسلامية.

وعلق الباحث في التاريخ الإسلامي خالد خيري، على ذلك النهج من النظام قائلا: "هذه جريمة كبرى ووصمة عار في تاريخ الأمة المصرية، فنحن نمر بأسوأ عصور مصر قاطبة، حيث يسحق التاريخ والماضي أمام مستقبل مبهم". 

وأضاف لـ"الاستقلال": "المناطق الأثرية والتاريخية في دول العالم هي مسألة أمن قومي، لننظر إلى دول مثل إيطاليا وتركيا واليونان وفرنسا، فلا يمكن أن يحرك فيها حجر أو يزال بيت، ما بالنا بمناطق ومقابر كاملة يعود عصرها إلى أكثر من ألف عام". 

واستطرد: "نستطيع القول إن منطقة القاهرة التاريخية ومقابر الإمام الشافعي والسيدة نفيسة والقلعة، هي روح مصر القديمة، فهناك آلاف الأضرحة من رموز وعلما بعضها حتى غير معلوم للعامة، مثل الإمام الليث بن سعد وابن حجر العسقلاني والسادة الثعالبة، وكذلك السبعة الأطباء والقاسم الطيب وغيرهم". 

وأتبع: "فأي مكان أو بقعة يمكن أن تحمل هذا العبق في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وقد كانت تلك المناطق تعاني الإهمال، وكانت الحكومات المتعاقبة تتشدق بنية التطوير وإحياء التراث، لكن المفاجئ الآن أنها محقته حتى تقيم كباري وطرقا، فهذا واقع سيكتب في صفحات التاريخ السوداء، تماما مثل حرق مكتبة الإسكندرية، وسقوط بغداد على يد التتار، وتدمير الحضارة".