تهديدات مرعبة.. كيف فضحت وفاة طبيب مصري تدخل "أمن الدولة" في النقابات؟

12

طباعة

مشاركة

رغم أن تدخل جهاز "أمن الدولة" المصري في النقابات المهنية من المسلمات والأمور المعروفة، لكن أعضاء النقابات يعزفون عن كشف هذه التدخلات خوفا من "البطش بهم".

إلا أن أزمة مقتل طبيب بنقابة الأطباء تعذيبا في قسم شرطة مدينة "جمصة" بمحافظة الدقهلية، ومطالبة النقابة بالتحقيق مع مأمور القسم وضباطه، ثم تراجع النقابة تحت التهديد، فضحت أدوارهم في التدخل المباشر.

وانتقد أطباء ونشطاء على منصات التواصل الاجتماعي طريقة تعامل أجهزة أمن رئيس الانقلاب عبدالفتاح السيسي مع الكوادر الطبية، معتبرين أن ذلك يؤدي إلى هجرة الكثير منهم خارج مصر.

كواليس الأزمة

وفي 30 مارس/آذار 2023 اتهمت نقابة الأطباء، في بيان، مأمور قسم شرطة جمصة وجميع الضباط وأفراد الشرطة الموجودين في القسم بقتل استشاري الطب النفسي، رجائي وفائي في 6 مارس.

وقالت إنهم قتلوه عمدا، بتعذيبه نفسيا وبدنيا خلال حبسه احتياطيا في قضية "خطأ مهني"، خلال الفترة من 28 فبراير/شباط وحتى 6 مارس 2023، ما ترتب عليه إعياؤه الشديد ووفاته.

وطالبت النقابة النائب العام بإجراء تحقيق عاجل مع جميع مسؤولي قسم الشرطة الذين اتهمتهم بأنهم "خالفوا المواثيق والمعاهدات الدولية والدستور فيما يتعلق بحقوق الإنسان ومناهضة التعذيب".

وحدد عضو مجلس نقابة الأطباء ومقرر لجنة الحريات، أحمد حسين، في بيان صادر عن النقابة ملابسات التعذيب كما روتها زوجته وبعض الأشخاص الذين كانوا موجودين معه بمحبسه، بـ"حلق الرأس والتعذيب النفسي والقتل العمد".

فجأة، وفي مطلع أبريل/نيسان 2023، كتب الدكتور "حسين" عبر حسابه على فيسبوك يؤكد أن "ضابطا بجهاز أمن الدولة (الأمن الوطني) اتصل به وطلب منه حذف خبر اتهام مأمور القسم والعاملين به بتعذيب الطبيب الضحية، من على صفحة نقابة الأطباء".

وقال: "رفضت أن أحذفه وأرفض أي تهديد ولو مبطن"، مرحبا ضمنا بسجنه لو "كان الضابط والشرطي في مصر فوق المساءلة وغير مقبول حتى الكتابة عن اتهام له"، مؤكدا: "ما زلت خارج السيطرة وما زلت أحاول أن أحترم نفسي".

واستغرب حسين انزعاج الأجهزة الأمنية من نشر خبر عن تجاوز أفرادها وقضاء وقتها "في مراقبة الأخبار وأنفاس البشر"، بدل أن تشغل بعض وقتها في "متابعة أداء أفرادها وتوعيتهم بمواثيق حقوق الإنسان التي انزعجت لنشرها ومحاولة فهم أسباب السخط والإحباط الذي يسيطر على المجتمع وأن تنقله بصدق لصاحب القرار".

وفي منشور آخر، قال حسين تعليقا على بيان وزارة الداخلية بشأن وفاة الطبيب رجائي، إن "ضابط أمن الدولة منزعج وطالبني مهددا بأن أحذف الخبر المنشور عن تقديم النقابة بلاغا للنائب العام لوجود فقرة في الخبر تشير إلى المواثيق والمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان!".

واستغرب انزعاج الضباط أو قيادات وزارة الداخلية "من التنويه عن حقوق الإنسان ومنها المقيد حريته ومحاولة استبعاد أية اتهامات لأفراد في جهاز الشرطة"، ووصفه بأنه "أمر مفجع".

وقال حسين إن "هذا يعني إما أن أفراد جهاز الشرطة منزهون عن الخطأ، وإما أن يكون هذه التصرفات المنسوبة إلى بعض أفراده هي السمة المميزة للجهاز، أو أن يكون المواطنون عدا أفراد الشرطة مواطنين درجة ثالثة لا يصح أن تكون لهم حقوق عند أصحاب الدرجة الأولى".

وأكد حسين أن ضابط أمن الدولة طلب منه أيضا حذف بيان آخر به إشارة إلى النص الخاص بتجريم التعذيب والوارد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 ديسمبر/ كانون الأول 1948.

وينص النص على أنه "لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب، ولا للمعاملة ولا العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو الحاطة بالكرامة".

ولم تمض ساعات حتى عاد الدكتور حسين ليعلن في منشور لاحق أنه تقدم بـ"استقالة نهائية" إلى نقيب الأطباء ومجلس النقابة من عضوية المجلس.

والسبب، وفق قوله: "اعتراضا على الرضوخ للضغوط من خارج المجلس، وحذف خبرين تم نشرهما على الصفحة الرسمية لنقابة الأطباء بشأن تقديم بلاغ للنائب العام في واقعة وفاة الطبيب وفائي، بدلا من أن نؤكد ونفخر أننا نتخذ المسار القانوني لمحاسبة المخطئ مهما كانت الجهة المنتمي إليها".

ماذا جرى؟

وفق متابعة "الاستقلال" وسؤال أعضاء بالمجلس، حذف مجلس النقابة بيان اتهام مأمور قسم جمصة وضباطه بتعذيب الطبيب وفائي حتى وفاته، من حساب النقابة على فيسبوك، ورفعه لساعات من موقعه على الانترنت.

ثم أعادته على الموقع الرسمي، عقب غضب واستقالة حسين، لكنها حذفت نسخا مختلفة من البيان من على صفحة فيسبوك، حيث لا يزال البيان موجودا على صفحة النقابة الرسمية.

وظهر تراجع في صيغة البيان "التوضيحي" الجديد للنقابة بشأن البلاغ للنائب العام في واقعة وفاة وفائي، المنشور مطلع أبريل/نيسان 2023.

البيان التوضيحي المتراجع، قال إن البلاغ الذي تقدمت به النقابة في 30 مارس إلى النائب العام "كان بناء على شكوى من زوجة الطبيب لجأت بها إليها"، وأن ما أورده بلاغ النقابة "هي اتهامات للتحقيق فيها لا تحمل الإدانة كما لا تحمل التبرئة".

وأكدت مصادر طبية لـ"الاستقلال" أن وزارة الداخلية ضغطت بشدة على النقابة وهددت بمقاضاتها بسبب اتهامها الداخلية مباشرة بالتعذيب والقتل، بينما تقرير الطبيب الشرعي التابع للوزارة أثبت أن الوفاة طبيعية، وفق بيان الداخلية.

ونفت وزارة داخلية النظام، في بيان مطلع أبريل/نيسان 2023 أن تكون وفاة "طبيب محتجز في قسم شرطة جمصة نتيجة للتعذيب والإهمال الطبي"، عقب بلاغ النقابة العامة لأطباء مصر إلى النائب العام.

وزعمت أن الطبيب شعر بحالة إعياء في محبسه "ونُقل على الفور إلى مستشفى جمصة المركزي لتلقي العلاج إلا أنه توفي، وورد تقرير من المستشفى يفُيد بأن الوفاة طبيعية ونتيجة أزمة تنفسية حادة".

لكن عضو مجلس نقابة الأطباء ومقرر لجنة الحريات، حسين، حدد في بيان صادر عن النقابة ملابسات التعذيب كما روتها زوجته وبعض الأشخاص الذين كانوا موجودين معه بمحبسه.

وقال إن زوجة الطبيب أحاطت النقابة بأنها عندما عاينت جثمانه، اكتشفت أنه تم حلق شعره في قسم الشرطة، كما أن مسؤولي القسم منعوه من قضاء حاجته بدورة مياه مناسبة له.

وتعذر على وفائي استخدام دورة مياه المحبس نظرا لوزنه الذي يتعدى 160 كيلوغرام، وإصابته بأمراض الضغط والسكري وتيبس بمفاصل الركبة وغضاريف عنقية ضاغطة على الحبل الشوكي.

ونقل حسين عن زوجة الطبيب أن مسؤولي قسم الشرطة كانوا يعاملون الطبيب معاملة مهينة، وعلى أثر التعذيب البدني والنفسي ساءت حالته ونقل إلى مستشفى جمصة، ومنه إلى مستشفى بلقاس لوجود ارتشاح بالرئتين وحاجته لدخول العناية المركزة إلا أنه توفي قبل الوصول إلى المستشفى الأخير.

وأضاف أن "زوجة رجائي أكدت لي أنه أجرى معها مكالمة تليفونية مسربة من محبسه قبل وفاته بأربعة أيام، قال ضمنها "أنا عرفت هنا معنى قهر الرجال!".

وقالت المنظمة الحقوقية المصرية "كوميتي فور جستس"، إن "وفاة الدكتور وفائي هي الحالة الخامسة أثناء الاحتجاز داخل أحد مقرات الاحتجاز في مصر خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2023"، منددة بـ"سوء أوضاع الاحتجاز والإهمال الطبي". 

وذكرت المؤسسة في 9 مارس/آذار 2023 أن "سوء أوضاع الاحتجاز والإهمال الطبي أديا لوفاة استشاري الأمراض النفسية، الذي كان محتجزا على ذمة التحقيقات في قضية مسؤولية طبية بعد صدور قرار بحبسه من النيابة العامة".

جدير بالذكر أن المؤسسة رصدت من خلال منصتها "أرشيف مراقبة العدالة"، الذي يعد أول وأكبر منصة لرصد الانتهاكات داخل مقار الاحتجاز في مصر، 1163 حالة وفاة داخل مقار الاحتجاز والسجون منذ 2013.

تهديدات متكررة

وأكد العضو المستقيل من مجلس نقابة الأطباء، حسين، أن حذف نقابة الأطباء بيانا حول تقدمها ببلاغ للنيابة ضد مأمور قسم الشرطة وآخرين "جاء بعد ضغوط أمنية على مجلس النقابة".

وأوضح لموقع "مدى مصر" في 2 أبريل/نيسان 2023 أنه تلقى مكالمة هاتفية من ضابط بقطاع الأمن الوطني يطلب منه حذف بيان النقابة، متسائلا "ما أنتوا قدمتوا البلاغ، لازمته إيه التفاصيل بتاعة حقوق الإنسان والدستور والقانون!!".

وحاول حسين إيضاح أن النصوص المذكورة كانت المواد القانونية التي استند إليها البلاغ، لكن الضابط صمم على حذف البيان وهو ما اعترض عليه حسين، حسبما قال.

وشدد حسين في تصريحاته على أن قرار استقالته لا علاقة له بقرار حذف البيان، أو الاعتراض على أداء مجلس النقابة، لكنه احتجاج على ما وصفه بـ"الضغط المتكرر في مناسبات مختلفة من قطاع الأمن في العمل النقابي، والتهديدات والتوجيهات في أمور نقابية بحتة لا علاقة لها بأمن أو بخرق قانون".

وأيضا "محاولات الجهات الأمنية وأد أي مطالب للفئات المختلفة"، مضيفا "لا يتدخلون بشكل قانوني من خلال قرار أو ورق رسمي، لكن توجيهاتهم تأتي عن طريق تليفونات ليست رسمية وغير ودودة وتحمل تهديدات مبطنة وغير مبطنة".

وفي 2 أبريل 2023، قال الدكتور مصطفى جاويش مغردا: "مهزلة ومهانة أن تقوم نقابة الأطباء بحذف بيان موجه للداخلية ضد قسم شرطة جمصة فى واقعة وفاة رجائي وفائي، وذلك تحت ضغوط أمنية بعد إصدار الداخلية بيان نفي حدوث تعذيب أدى لموت الطبيب".

من جهتها، قالت مصادر نقابية لـ"الاستقلال" إن ما قاله حسين علنا حول كواليس الأزمة والتهديدات الأمنية هو ما يخشى كثير من أعضاء مجلس النقابات المختلفة في مصر قوله في العلن، خوفا من التعرض لتهديدات بالاعتقال وفبركة قضايا.

ورجحت أن يكون تعامل "أمن الدولة" العنيف والتهديدي، كما أوضح حسين لموقع "مدى مصر" له علاقة بتكثيف الأمن رقابته على النقابات وتهديدها عقب انتصار "المستقلين" في نقابة الصحفيين، ومن قبل في نقابتي المهندسين والمحامين.

وكان لافتا أن نقيب الأطباء حسين خيري وأمين مساعد النقابة حسين (المستقيل) زارا في 29 مارس 2023، نقابة الصحفيين عقب انتصار "تيار الاستقلال" في الانتخابات الأخيرة، للتهنئة بـ"تمسك الصحفيين بحق اختيار ممثليهم وانتصار الديمقراطية".

وكانت نسبة التصويت في آخر انتخابات لمجلس نقابة الأطباء، في أكتوبر/ تشرين الأول 2019 شهدت عزوفا كبيرا، حيث بلغت 9.3 بالمئة وشارك فيها 17 ألفا و468 طبيبا من إجمالي 186 ألفا و610.

وفسر خبراء سياسيون ونقابيون وحقوقيون هذا العزوف عن الانتخابات بأنه "مؤشر واضح" على غياب الحراك السياسي وحرية العمل النقابي، وموت المنافسة الانتخابية في مصر منذ انقلاب السيسي عام 2013، خصوصا مع غياب ممثلي "جماعة الإخوان المسلمين".

وأكد "المرصد الأورو متوسطي" لحقوق الإنسان، في بيان، أن تراجع نسبة المشاركة في انتخابات نقابة أطباء مصر "دليل على تدني أهمية العمل النقابي بشكل عام، والذي يعد أحد أهم مساحات الحراك السلمي والدفاع عن حقوق العاملين"

وأعرب المرصد في تغريده على حسابه بتويتر في 12 أكتوبر 2021، عن مخاوفه من "تداعيات تدهور حريات النقابات العمالية" في مصر.