"الخوذ البيضاء".. منظمة تطوعية تغيث السوريين وقت الأزمات رغم ضعف الإمكانات
تحت شعار اقتبسته من الآية القرآنية "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، بدأت منظمة الدفاع المدني السوري المعارضة الملقبة بـ"الخوذ البيضاء" عملها الإنساني في إنقاذ السوريين من قصف طائرات ومدافع نظام الأسد عام 2013.
منذ ذلك الحين، بقيت صورة مجموعة من المتطوعين المدنيين الذين يرتدون خوذهم البيضاء المميزة، نقية لدى السوريين الذين لقبوهم بـ "الأبطال" لعملهم الإنساني الصرف.
هؤلاء "الأبطال" كانوا "اليد الحنون" للسوريين في مناطق المعارضة شمال غربي سوريا على مدار عقد من الزمن، ليثبتوا أنهم جاهزون لتلبية النداء، وإنقاذ الآلاف من تحت ركام الزلزال المدمر الذي ضرب شمالي سوريا وجنوبي تركيا فجر 6 فبراير/ شباط 2023.
وبلغت قوة الزلزال 7,8 درجات، وتسبب هو والهزات الارتدادية الكثيرة التي تلته في سقوط عشرات آلاف القتلى والمصابين.
وقاد رجال "الخوذ البيضاء" وحدهم عمليات الإنقاذ وانتشال ضحايا الزلزال في ريفي حلب وإدلب الخاضعين للمعارضة السورية، من دون أي مساعدات دولية أو مدهم بمعدات حديثة رغم هول الكارثة وسوء الطقس.
النشأة التطوعية
"الخوذ البيضاء"، منظمة إنسانية يبلغ عدد أفرادها 3 آلاف متطوع معظمهم من الرجال، لكن بينهم أيضا نساء، يخاطرون بحياتهم لإنقاذ الآخرين وزراعة الأمل لدى السوريين.
بدأ عملهم عام 2013 عندما التقى عدد من المتطوعين من الانتماءات كافة معا للاستجابة للقصف الجوي والبري على المدن والبلدات السورية من قبل نظام بشار الأسد.
وكذلك لسد الثغرات الحاصلة بسبب سحب الخدمات الحكومية الأساسية مثل الإطفاء والرعاية الصحية من المناطق التي باتت خارجة عن سيطرة الأسد.
يعمل الدفاع المدني في جميع مناطق المعارضة السورية، ويسعى لإنقاذ حياة الناس ومساعدتهم على التعافي من آثار الحرب.
كما تعهدت المنظمة، بعدم التخلي عن التزامها تجاه المدنيين وتأمين الاستقرار لهم، ومواصلة العمل على تقديم الأدلة والشهادات حول جرائم الحرب التي يرتكبها النظام السوري، إلى أن تصل كل أسرة سورية عانت من الظلم إلى العدالة، وفق ما تؤكد في بطاقتها التعريفية.
ويعود الفضل لهم في إنقاذ حياة عشرات الآلاف من السوريين، حيث تمكن الدفاع المدني من إنقاذ 125 ألف شخص من الموت، بينما فقد 300 متطوع حياتهم جراء قصف النظام السوري لسياراته ومراكزه.
تقول المنظمة إنهم يخاطرون بحياتهم بدون أجر مادي، وهم غير مسلحين، لمساعدة المحتاجين "في جميع مناطق" سوريا التي "يمكنهم الوصول إليها".
وحظيت منظمة "الخوذ البيضاء" التي يرأسها رائد الصالح، باهتمام دول الغرب لاستجابتها الحيوية لانتشال الضحايا في المدن السورية رغم خبرتها ومعداتها المحدودة.
وكثيرا ما أكد رائد الصالح حيادية المنظمة بقوله: "نحن مستقلون، حياديون وغير منحازين. لسنا مرتبطين بأي جهة سياسية أو مجموعة مسلحة".
ولذلك عام 2013، سافر بعض المتطوعين إلى تركيا المجاورة لتلقي أول تدريب مهني لهم في البحث والإنقاذ في المناطق الحضرية.
وآنذاك عملت منظمة "ماي داي رسكيو" (غير ربحية لها مكاتب في أمستردام وإسطنبول وتمول الأمم المتحدة وحكومات مختلفة مشروعاتها)، على تدريب الطلائع الأولى لفرق الدفاع المدني في تركيا.
وسمح التدريب الإضافي والأكثر تقدما على مر السنين للخوذ البيضاء بتطوير الخبرة في استخدام الأدوات الثقيلة، وإنشاء فرق متخصصة ومرافق مفتوحة.
بالإضافة إلى مهام البحث والإنقاذ وإعادة تأهيل الأحياء، يقول الخوذ البيضاء إنهم يقدمون الآن "مجموعة من الخدمات الأساسية" لأكثر من 4 ملايين مدني في جميع أنحاء شمال غرب سوريا.
وتشمل هذه الخدمات إطفاء الحرائق والرعاية الصحية وإصلاح الشبكات الكهربائية وصيانة الصرف الصحي وإزالة الأنقاض والأسلحة غير المنفجرة من الطرق وكذلك توعية المجتمعات وإعدادها لهجمات مستقبلية، بحسب موقع المنظمة.
أعداء الأسد
ومنذ البداية عمل فريق الدفاع المدني في الاستجابة الفورية لإنقاذ ضحايا القصف على المدن وتوثيق ذلك عبر كاميرات مثبتة على خوذهم وعبر فرق تصوير خاصة به ونشرها للعالم وتزويد وسائل الإعلام به.
وهذا ما شكل نقطة العداء الكبير لهم من قبل النظام السوري، الذي راح يشوه صورتهم ويعدهم إرهابيين وأنهم يزيفون الحقائق ويفتعلون الأكاذيب حول القصف.
حتى وصل الأمر برأس النظام بشار الأسد إلى تخيير عناصر الدفاع المدني السوري"، بين المصالحة مع الحكومة أو تصفيتهم".
وعد الأسد في مقابلة موسعة مع عدد من وسائل الإعلام الروسية نشرت في 26 يوليو/تموز 2018، رجال "الخوذ البيضاء" بأنهم يشكلون "غطاء للإرهابيين"، حسب وصفه.
حتى إن وكالة إعلام النظام السوري الرسمية "سانا" تصفهم بـ "الإرهابيين" في أخبارها، وتنشر بشكل متكرر أنهم يحضرون ويروجون "لاستخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين".
ولأجل ذلك، أنتج نظام الأسد عام 2019 مسلسلا يدعى "كونتاك"، وصور في حلقته الـ 23 عناصر الدفاع المدني، بأنهم كانوا "يفبركون" تعرض المدن السورية لقصف النظام بالأسلحة الكيماوية عبر مسرحية منسقة مسبقا من قبلهم، وفق زعمه.
وأظهرت الحلقة، تصوير عناصر الدفاع المدني، وهم يحملون كاميرات تصوير ويمثلون مشاهد الاختناق من المواد السامة داخل أقبية سكنية، في محاولة لتغيير صورة الرأي العام حولهم.
إلا أن الكثير من الدول تعرف حقيقة ما يفعله الأسد به وأن النظام تقلقه عمليات توثيق جرائمه وتقديمها كأدلة للمحاكم الدولية.
واللافت أن روسيا برئاسة فلاديمير بوتين أيضا تدعم رواية النظام السوري في إعلامها الرسمي وتصفهم بـ "الإرهابيين"، وكذلك داخل مجلس الأمن وتهاجم دول الغرب الذين يقدمون لهم الدعم المادي واللوجستي.
وإلى الآن يتعرض رجال "الخوذ البيضاء" لحملة تضليل مركزة ومستمرة من قبل أجهزة الإعلام الروسية بالرغم من الإجماع العالمي على أهمية دورهم وتقديم عدد من دول الغرب على رأسهم الولايات المتحدة بريطانيا أموالا لهم بشكل علني على اعتبار أن عمل هؤلاء ليس سياسيا بل هو إنساني محض.
حتى إن ديميتري بوليانسكي النائب الأول لمندوب روسيا لدى الأمم المتحدة قال في اجتماع لمجلس الأمن الدولي بتاريخ 11 أبريل/نيسان 2022، إن "النازيين الأوكران والغرب يزيفون الأخبار والأقاويل ومقاطع الفيديو كما فعل إرهابيو ما يسمى الخوذ البيضاء في سوريا"، وفق تعبيره.
ومما يدحض ذلك، قبول كثير من دول الغرب على رأسها الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، قبول لجوء وتوطين المئات من عناصر الدفاع المدني السوري وعائلاتهم الذين كانوا يعملون في مناطق سيطر عليها الأسد لاحقا بدعم روسي.
محاولات الطمس
وأمام محاولات الأسد وموسكو لطمس جهود الدفاع المدني في توثيق لحظات انتشال ضحايا القصف من قبل الطيران الروسي، أنتجت منصة نتفليكس فيلم "القبعات البيضاء" عام 2016، في خطوة لإظهار طبيعة عمل هذه المنظمة الإنساني ونفي رواية النظام السوري حولهم.
ويروي الوثائقي القصير، قصة "أبطال من أرض الواقع"، والذين يخاطرون بحياتهم من أجل إنقاذ السوريين من القصف والقنابل التي تمطر المدنيين كل يوم.
تقول منظمة الخوذ البيضاء إن متطوعيها يتعهدون بالالتزام بمبادئ "الإنسانية والتضامن والحياد" على النحو المنصوص عليه في القانون الإنساني الدولي.
وعمل رجال الخوذ البيضاء أكسبهم الحصول على جائزة رايت لايفليهود لعام 2016، التي غالبا ما توصف بـ "نوبل البديل"، بالإضافة إلى العديد من الترشيحات لجائزة نوبل للسلام.
كما منحت في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 جائزة "ديزموند توتو" الخاصة بالسلام مناصفة بين وحدات الدفاع المدني السوري، وبين النائبة السابقة في البرلمان البريطاني عن حزب العمال "الراحلة جو كوكس".
وفي مايو/أيار 2019، أعلن الدفاع المدني السوري، حصوله على جائزة جديدة منحها إياه متحف الهولوكوست بالولايات المتحدة الأميركية، وهي أعلى جائزة يقدمها.
وفي نسخة صناع الأمل عام 2017 برعاية حاكم دبي وحضوره، شاهد محمد بن راشد مأساة السوريين مع الأسد من خلال اختيار أبطال الخوذ البيضاء كنموذج لصناع الأمل، وتكريم رئيس المنظمة حينها رائد الصالح.
وحينها في ربع ساعة جرى تلخيص حجم جرائم النظام السوري، حيث بكي بعض الحضور، إلا أن ذلك لم يغير من موقف الإمارات من الاعتراف بنظام الأسد وتطبيع العلاقات معه بشكل رسمي عام 2018.
وعام 2016، جرى ترشيح المنظمة لنيل جائزة "نوبل" للسلام، لكنها لم تحصل عليها. وفي فبراير 2017، نال فيلم يتحدث عن عملهم وعرضته شبكة نتفليكس جائزة "الأوسكار" عن أفضل وثائقي قصير.
وجه الثورة
وتقديرا لجهودهم التي يبذلونها لإنقاذ المدنيين في ظروف خطرة، حصل هؤلاء على إشادة عالمية بتضحياتهم بعدما تصدرت صورهم وسائل الإعلام حول العالم وهم يبحثون عن عالقين تحت أنقاض الأبنية أو يحملون أطفالا مخضبين بالدماء إلى المشافي.
وتلقت المنظمة خلال سنوات عملها تمويلا من عدد من الحكومات بينها بريطانيا وهولندا والدنمارك وألمانيا واليابان والولايات المتحدة. كما تصلها تبرعات فردية لشراء المعدات والتجهيزات.
وكثيرا ما أقر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بدعم الخوذ البيضاء، ومنها عام 2019، حينما أعلن تقديم 4.5 مليون دولار كدعم مباشر لهم، وذلك بهدف مواصلة دعم الولايات المتحدة لعمل المنظمة المهم والقيم جدا في سوريا.
وأعلنت الحكومة البريطانية تقديمها تمويلا إضافيا لمنظمة "الخوذ البيضاء" بقيمة 800 ألف جنيه إسترليني (963 ألف دولار)، لمواجهة آثار الزلزال، حسبما ذكرت شبكة "بي بي سي" البريطانية في 10 فبراير 2023.
وأوضحت الشبكة أن المساعدات تأتي إضافة إلى 2.25 مليون جنيه إسترليني تمنحها المملكة المتحدة للمنظمة كل عام.
ويرى كثير من السوريين، أن منظمة الدفاع المدني السوري هي المؤسسة الوحيدة التي كسبتها الثورة السورية، وما زالت تمثل الوجه الناصع للثورة، كما يرى الكاتب السوري محمد منصور.
يضيف منصور في منشور على حسابه في فيسبوك في 9 فبراير 2023 قائلا: "سبب نجاح هذه المؤسسة ليس حسن التنظيم والإدارة وحسب، ولا ابتعاد مؤسسها ومديرها رائد الصالح عن الأنا وحب الاستعراض ولغة التفاخر والتباهي وهيستيريا المن والأذى، بل لأنها تعتمد على شهامة السوريين وحبهم للعمل".
ومضى يقول: "هذه الشهامة التي كانت في زمن (رئيس النظام السابق) حافظ الأسد ووريثه من بعده من الجرائم التي لا تساهل فيها لدى أجهزة المخابرات، بقيت أصيلة شفافة في النفس السورية، حتى إذا ما قيض لها أن تعبر عن ذاتها بصدق وحرية، سطعت في كثير من المجالات والملمات كما رأينا على الدوام في عمل الخوذ البيضاء".