أميركا والصين.. لماذا تخلف منتخبا أكبر قوتين عالميتين عن مونديال قطر؟
لفت انتباه كثيرين حول العالم، اهتمام الرئيس الأميركي جو بايدن على غير العادة بمنتخب بلاده المشارك في بطولة كأس العالم لكرة القدم المقامة في قطر بين 20 نوفمبر/ تشرين الثاني و18 ديسمبر/ كانون الأول 2022.
ورغم تمتع الولايات المتحدة بالنفوذ الأكبر في العالم، سياسيا وعسكريا واقتصاديا وفنيا، فإنها لا تعد من فرق الصف الأول في الساحرة المستديرة التي يتابعها الملايين من مختلف ربوع الأرض.
والأمر نفسه ينطبق على غريمتها الصين، التي تصاعدت قوتها العسكرية والاقتصادية في العقود الأخيرة لتؤهلها لمناطحة أميركا، لكنها أيضا لا تتمتع بقوة تذكر في عالم كرة القدم، رغم أن الفضل يرجع لها في ظهورها.
اهتمام لافت
وقبل مباراة أميركا الأولى أمام ويلز في مونديال قطر، شد بايدن من أزر منتخب بلاده، باتصال مع مدرب الفريق غريج بيرهالتر، وحث كل الحاضرين حول الهاتف على اللعب بقوة.
وعبر تويتر، نشر اتحاد كرة القدم الأميركي وبايدن مقتطفات من الاتصال، أعرب فيه عن ثقته بالفريق، فهو "يمتلك بعضا من أفضل اللاعبين في العالم وسيفعلون شيئا رغم صعوبة المنافسات".
ووجه بايدن حديثه للاعبين قائلا: "أنتم تمثلون هذا البلد، دعونا نصدمهم، حافظوا على ثقتكم في بعضكم البعض، والعبوا بأقصى ما تستطيعون، من أجلكم ومن أجل عائلاتكم، وزملائكم".
Please hold, the President is on the line… �� pic.twitter.com/N6CxwOhqgN
— U.S. Men's National Soccer Team (@USMNT) November 20, 2022
ولم يقتصر الاهتمام على هذا الحد، فبعد تلقيه خبر انتصار المنتخب الأميركي على نظيره الإيراني في الجولة الثانية من دور المجموعات، دبت روح الشباب والحيوية في بايدن.
وشوهد بايدن يركض في لقطة عفوية بخطوات سريعة نحو منصة قاعة في ولاية ميشيغان، لمشاركة الحضور بخبر الفوز على إيران.
وقال في فيديو شاركه عبر تويتر بنبرة المنتصر في معركة سياسية: "أميركا، أميركا، أميركا، إنها مباراة كبيرة، لقد تحدثت مع المدرب واللاعبين أخبرتهم أنه بإمكانهم فعلها. وعندما ذهبوا فعلوها، الرب يحبهم!".
Big wins mean big announcements. Way to go, @USMNT. pic.twitter.com/tLXLYwN6pY
— President Biden (@POTUS) November 30, 2022
ومع تأهل الولايات المتحدة إلى دور ثمن النهائي، نشر بايدن مجددا، مقطعا مصورا طريفا عبر تويتر، يظهر فيه قائد المنتخب تايلز أدامز وهو يركل الكرة من أحد ملاعب التدريب في قطر فتطير في الهواء وتستقر داخل البيت الأبيض.
ليتلقف الكرة بايدن ثم يقول: "هذه تسمى سوكر (كرة القدم بالولايات المتحدة)، هيا يا أميركا، مردفا: "ستفعلونها يا شباب!".
لكن حظوظ أميركا تبخرت أمام الطواحين الهولندية التي تأهلت إلى ربع النهائي إثر فوز كاسح بثلاثة أهداف لهدف واحد.
وكان طريفا أيضا أن رئيس الوزراء الهولندي مارك روته أعاد نشر تغريدة بايدن بعد المباراة، ساخرا بالقول: "آسف جو، فازت كرة القدم"، بالمسمى الشائع في أوروبا.
وتعرف اللعبة في أوروبا وأغلب دول العالم باسم فوتبول (كرة القدم) بينما تسميها أميركا سوكر، وهي الكلمة التي رددها الجمهور الأميركي في مباراة إنجلترا بالمونديال ليرد عليهم الإنجليز بالصياح "فوتبول".
Sorry Joe, football won. ��#NEDUSA @OnsOranje https://t.co/v27gYK7niv
— Mark Rutte (@MinPres) December 3, 2022
ضعف كبير
لأسباب متباينة، يتفق الخصمان الأميركي والصيني على أن كرة القدم ليست الرياضة الأكثر شعبية في بلديهما، فبينما تبرز الألعاب الفردية أكثر في بكين، تولي واشنطن أهمية خاصة لمنافسات أخرى.
ويقول الناقد الرياضي الأميركي كونور سميث، إن السبب الرئيسي وراء عدم شعبية كرة القدم في أميركا، أنها ليست جزءا من الثقافة حتى الآن، فهي رياضة جديدة نسبيا مقارنة بكرة القدم الأميركية (فوتبول)، وكرة السلة، والبيسبول الأكثر شعبية.
ويوضح لموقع "سوكر برايم" الأميركي، أن عدم وجود إنجازات بالنسبة لكرة القدم للرجال هو أحد أسباب انخفاض شعبيتها، بينما الولايات المتحدة هي الدولة الأولى بلا منازع في كرة القدم الأميركية وكرة السلة والبيسبول.
ولم تفز الولايات المتحدة أبدا بكأس العالم، ولم تكن أبدا قريبة من الفوز، بينما تسيطر دول أوروبا وأميركا اللاتينية على منافسات وألقاب الساحرة المستديرة بلا منازع.
وفي الرياضات الأخرى، يشير سميث إلى أن الاحتراف يوفر فرصا مادية ممتازة ومنحا دراسية كبيرة للاعبين، بينما لاعب كرة القدم الأميركي عليه أن يلعب في أوروبا للحصول على عروض مرضية.
ويواجه المشجعون المشكلة نفسها، فهم عالقون في فرق التوقيت الذي يمنعهم من متابعة فرقهم المفضلة ولاعبيهم المحببين في دول أخرى، يضيف سميث.
ويعني هذا، وفق سميث، أن لاعبي كرة القدم غير قابلين للتسويق في الولايات المتحدة، لأن مبارياتهم تلعب عندما لا يستطيع غالبية الأميركيين مشاهدة التلفزيون.
وفي قراءة أكثر عمقا، قال الباحث المغربي المهدي الزايداوي، إنه بعد استقلال أميركا عن بريطانيا، بدأ الأميركيون ينظرون إلى أوروبا نفسها بجانب مستعمراتها على أنها العالم القديم الذي يجب الابتعاد عنه وعن تفضيلاته، من أجل خلق عالم جديد عصري تقوده الولايات المتحدة.
وأضاف في تقرير نشرته منصة ميدان الإلكترونية في 25 نوفمبر: أخذ الأميركيون مشروع الرياضة على محمل الجد منذ اللحظة الأولى، فالبلاد واسعة وتسكنها جماعات ثقافية وعرقية مختلفة ومتنوعة، ولذا كان من الضروري إيجاد شيء يجمع هؤلاء الناس، ويُشعرهم بانتمائهم لمكان وثقافة واحدة، فلا شيء يمكن أن يفعل ذلك أفضل من الرياضة.
وهكذا ظهرت البيسبول، يوضح الزايداوي، وصارت مع بداية القرن العشرين رياضة وطنية، وأثارت إعجاب الأميركيين لأنها تتطلب الشجاعة والقتال والسرعة والمهارة، وهي قيم تمثلهم بشكل أو بآخر كما يعتقدون، فيما ظلت كرة القدم رياضة هامشية ينعتها كثيرون باللعبة النسائية.
مهد الكرة
يُرجع الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا"، تاريخ نشأة اللعبة إلى قبل 2300 سنة في مدينة "لين زي" الصينية، حيث استعمل الجيش الصيني حينها رياضة كرة القدم من أجل الإعداد البدني للجنود.
ونشأ الاتحاد الصيني لكرة القدم عام 1924، وانضم إلى الفيفا في 1931، وزاد الاهتمام بها مع تأسيس الجمهورية الشعبية الصينية عام 1949، وعدت كرة القدم رمزا للصين العصرية، حيث تأسس أول منتخب قومي للبلاد عام 1951.
لكن رغم الحماس الكبير الذي أبداه الصينيون لكرة القدم، تسببت التباينات السياسية مع الفيفا في تعثر هذا التقدم، ووقع الخلاف الأبرز إثر أزمة تايوان بين الصين الشيوعية والمجتمع الدولي الذي انحاز للموقف الغربي.
وفي عام 1954 اعترفت الفيفا بتايوان عضوا جديدا فيها، وهو ما عدته الصين قرارا سياسيا معاديا لها، وبعد رفض الاتحاد طلبها بطردها، أعلنت بكين انسحابها من التكتل الدولي.
واستمر غياب الصين عن المشهد الكروي العالمي حتى سبعينيات القرن العشرين، حينها بدأت علاقاتها تتحسن مع الغرب والولايات المتحدة، وفي عام 1979 أعلنت رجوعها إلى الفيفا.
لكن عودة الصين إلى الاتحاد الدولي لم تمنحها العصا السحرية لإنعاش اهتمام المواطنين الذين كانوا يكافحون من أجل لقمة العيش إزاء كرة القدم بينما كانت ترسخت الثقافة الكروية في غالبية دول العالم مع توالي المونديالات.
ولم تحقق الصين منذ ذلك الحين شيئا يُذكر في كرة القدم، سوى تأهل يتيم لكأس العالم عام 2002 الذي أقيم في الجارتين كوريا الجنوبية واليابان.
لكن هذا الخمول لم يطل كثيرا، إذ بدأت الصين في العقد الأخير، في أعقاب نهضتها الاقتصادية، بإجراء تغييرات كبيرة لإنعاش كرة القدم بالبلاد.
وأكدت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، في تقرير بتاريخ 14 ديسمبر 2015، أن المستثمرين الصينيين بدأوا في السنوات الأخيرة شراء حصص في أندية كرة قدم في إنجلترا وإسبانيا وفرنسا وهولندا والتشيك.
كما لفتت إلى تعهد الرئيس الصيني شي جين بينغ المعروف بتشجيعه كرة القدم بتحويل الصين إلى قوة كروية، معربا عن رغبته أن تستضيف بلاده أولا نهائيات كأس العالم ثم تفوز بالبطولة قبل 2050.
تنافس محتدم
وأشارت "بي بي سي" إلى أن هناك أسبابا عديدة وراء هذا الاهتمام الصيني، أبرزها الرغبة في الظهور بصورة جيدة على الساحة الدولية، واستخدام الأندية كموطئ قدم لتعزيز النفوذ في الدول المهتمة بكرة القدم.
ونقلت عن الأستاذ في كلية إدارة الأعمال في جامعة كوفنتري البريطانية سيمون تشادويك قوله، إن "الصين تريد أن تكون مسيطرة وناجحة في كل شيء تقوم به".
وأضاف تشادويك: "الشيء الذي لا يجيدونه حاليا هو كرة القدم، اللعبة العالمية. فالصين تريد أن ترتقي إلى مركز تنال فيه احتراما عالميا بصفتها جزءا من المجتمع الدولي لكرة القدم".
وأوضح أن "الأسر الصينية عادة ما تفضل تعليم أولادها حرفة بدلا من امتهان رياضة، ولتحسين مستويات اللعب تعكف البلاد في الوقت الحالي على إنشاء نواد ومدارس لكرة القدم على غرار الولايات المتحدة".
وخلال السنوات الأخيرة باتت أميركا تسيطر على عدد كبير من أعرق الأندية الأوروبية في كرة القدم، مثل مانشستر يونايتد، وآرسنال، وليفربول، وتشيلسي، وروما.
كما أن هناك نموا من عام إلى آخر لهذه الرياضة داخل الولايات المتحدة، وأصبح دوري كرة القدم الرئيسي أكثر سمعة عالميا كدوري محترف، وفق موقع "سوكر إنترأكشن" الأميركي.
وفي ضوء شعبية اللعبة المتصاعدة عالميا، أوضح الموقع أنه قبل ثلاثين عاما كانت كل دوريات كرة القدم الأوروبية مجتمعة أقل قيمة من دوري البيسبول الأميركي "إم إل بي".
بينما تجاوزت عائدات الدوريات الأوروبية اليوم مثيلتها بعمالقة الرياضة الأميركية، دوري كرة القدم الأميركية "إن إف إل"، ودوري كرة السلة "إن بي إيه"، فضلا عن "إم إل بي".
وعن مستقبل هذه المنافسة، يقول مؤسس موقع "وايلد إيست فوتبول" كاميرون ويلسون إن "الإصلاحات الصينية لا تملك فرصة كبيرة لتحقيق أي تحسين ملموس لمستوى كرة القدم داخل البلاد".
وأرجع ذلك إلى أن "الإصلاحات لا تستهدف الجوانب الجذرية للعبة التي تمنعها من التطور بصورة فاعلة على غرار ما يحدث في الدول الناجحة كرويا كالبرازيل والأرجنتين التي تتمتع بثقافة كروية شعبية عريقة".
أميركيا، توقع الناقد الرياضي سميث أيضا ألا تهيمن كرة القدم أبدا على المشهد الرياضي في الولايات المتحدة، قائلا: "ببساطة لأن هناك الكثير من الخيارات التي يمكن للناس الاختيار من بينها".
فيما يرى الباحث المغربي الزايداوي أنه "لربما لا يكون سيئا ألا يهتم الأميركيون ولا الصينيون كثيرا بكرة القدم رغم محاولاتهم إنعاش هذه الرياضة، ولعل ذلك أيضا من مصلحة المشجعين الذين سئموا من تسييس الكرة".
وأضاف أن أمورا مثل تحويل ملاعب الكرة إلى مساحات للعراك والتنابز الأيديولوجي وشراء المواهب بالمال والسيطرة على الدوريات كانت ستتفاقم إذا ما أولت أميركا والصين اهتماما أكبر بكرة القدم.
وختم بالقول إنه "رغم سيطرة الرأسمالية على كرة القدم، يظل هناك متنفس تثبت من خلاله أنها رياضة الجميع، وأنه يمكن لـ11 لاعبا من أي دولة مُهمشة أن يهزموا نظراءهم من قوة عظمى عالمية، فوق المستطيل الأخضر الذي لا يزال فيما يبدو يمتلك سطوته الخاصة رغم كل شيء".