رغم الدعم الإيراني.. ما سر نقص التوريدات النفطية إلى النظام السوري؟
في صفعة جديدة، يوشك النظام السوري الذي يعاني نقصا حادا بالمحروقات، أن يعطل جزءا من القطاعات الحكومية لتفادي انهيارها الكامل.
ورغم أن إيران الغنية بالنفط تواصل مد نظام بشار الأسد حليفها الأول بالشرق الأوسط بالبترول بشحنات تسد رمقه لا أكثر، إلا أن نقصا كبيرا في الإمداد طفى على السطح مجددا.
شح المحروقات
ومنذ سبتمبر/أيلول 2022، تراجعت شحنات النفط الإيرانية التي تصل إلى سواحل سوريا عادة بطرق التفافية، مما خلق حالة توتر داخل أروقة مؤسسات النظام.
حالة عدم اليقين من وصول شحنات النفط بالشكل الذي كانت عليه خلال الفترة الماضية، دفعت رئيس حكومة النظام السوري، حسين عرنوس، لإصدار بيان في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 طلب فيه من الجهات العامة اتخاذ عدد من الإجراءات حتى نهاية العام المذكور.
شملت تلك الإجراءات، تخفيض الكميات المخصصة من مادتي البنزين والمازوت للسيارات السياحية التابعة للمؤسسات الرسمية، بنسبة 40 بالمئة من الكميات المخصصة حاليا لكل سيارة، واستثنى البيان وسائل النقل الجماعي للموظفين.
وعزت حكومة الأسد في بيانها النقص إلى تعذر وصول توريدات النفط والمشتقات النفطية نتيجة الحصار والعقوبات الاقتصادية.
وعقب ذلك بيوم، اعترف وزير النفط لدى النظام، بسام طعمة، أن أزمة المحروقات مستمرة منذ 50 يوما، وأن الحكومة كانت تحاول معالجتها من المخزون لكنها لم تتوقع تأخر التوريدات إلى هذا الحد، وفق قوله.
وأضاف طعمة في حديث للتلفزيون الحكومي في 30 نوفمبر 2022، أن التأخير فرض على الحكومة اتخاذ إجراءات أكثر قسوة، للحفاظ على مخزونها من أجل تغطية الحاجات الأساسية.
وبين أن قرار الحكومة تخفيض مخصصات المحروقات للجهات العامة، جاء في إطار توجيه المخزون المتوفر للخدمات الأساسية للمواطنين.
ولفت إلى أن "الوزارة تتابع من جانب آخر مع الأصدقاء من أجل استمرار وصول التوريدات ومعالجة أي خلل بشأنها".
ومضى طعمة قائلا: "سوريا أصبحت عرضة للتأثر بمتغيرات قطاع الطاقة العالمي نتيجة حرب أوكرانيا نظرا لأنها تستورد الجزء الأكبر من احتياجاتها من الخارج".
احتجاز أميركي
مدى حجم النقص الكبير بالمشتقات النفطية لدى نظام الأسد، تفجر أخيرا، كونه لا يملك كفاية من المحروقات إلى الحد الذي يسمح بتكوين مخزون إستراتيجي يغطي الانقطاعات.
بحسب طعمة، فإن كميات المحروقات التي تورد إلى سوريا من الخارج "كانت حسب الحاجة فقط".
وعلاوة على أن أزمة المحروقات مزمنة في مناطق نظام الأسد منذ سنوات، إلا أنها اشتدت في موسم الطلب الأكبر على المازوت سواء للتدفئة أو للزراعة.
وكذلك في وقت اتجهت فيه الولايات المتحدة للرقابة أكثر على مخصصات النظام السوري النفطية القادمة من إيران.
ولهذا كشف "طعمة" أن إحدى الناقلات السورية كانت محتجزة من قبل البحرية الأميركية في اليونان، ولم يفرج عنها إلا منذ أيام، حيث وصلت إلى مصب بانياس على البحر المتوسط.
لكن رغم ذلك، فإن الإعلان عن وصول ناقلة تحمل مليون برميل إلى مناطق النظام التي تبلغ حاجتها 200 ألف برميل يوميا، يعني تغطية 5 أيام فقط، وفقا لوزارة النفط.
ونقلت وكالة "رويترز" البريطانية في 3 نوفمبر 2022، عن كلير جانجمان، المسؤولة لدى "جماعة الضغط الأميركية" (متحدون ضد إيران النووية)، والتي تتعقب حركة الناقلات التابعة لطهران من خلال بيانات الشحن والأقمار الصناعية، قولها إن بيانات الرصد تظهر أن سفينة "لانا" أفرغت حمولة تبلغ نحو 700 ألف برميل في ميناء بانياس السوري.
وتتفاوت واردات نظام الأسد النفطية من إيران من شهر إلى آخر. ووفقا لتحليل جماعة "متحدون ضد إيران النووية"، فإن النظام تلقى شحنات قدرها 1.39 مليون برميل من طهران في نوفمبر 2022، انخفاضا من 3.5 مليون برميل في أكتوبر، و3.7 مليون برميل في سبتمبر من العام ذاته.
والنظام السوري يصله كل شهر شحنتان من النفط الإيراني، عبر ناقلات اسمها "سويز ماكس" التي تستطيع العبور ضمن عمق قناة السويس. وكل ناقلة منهما حمولتها مليون برميل نفط خام.
وتصل ناقلات النفط الإيرانية إلى سواحل سوريا، عبر طرق التفافية لتجنب العقوبات الأميركية، إذ تعمد في بعض الحالات إلى تفريغ حمولتها في سفن أصغر بالمياه الدولية.
أو تعمل السفن الخاصة على تعطيل أجهزة التعقب فيها، عند الوصول إلى جبل طارق أو تضع وجهات كاذبة للهروب من المراقبة الدولية للوصول إلى السواحل السورية.
ترشيد صارم
أمام ذلك، لجأ نظام الأسد إلى اتباع ترشيد أكثر صرامة من السابق حول استهلاك الوقود نتيجة النقص فيه، مما أدى زيادة الانقطاعات في قطاعي الكهرباء والاتصالات.
وشهدت مناطق النظام توقف عدد من أبراج الهواتف المحمولة عن العمل، نتيجة نقص الوقود اللازم لعمل المولدات الكهربائية، الأمر الذي يعني شل كثير من مناحي الحياة في القطاع الخاص نظرا لاعتماد التجارة على الاتصالات.
وانعكس بطء الإمدادات النفطية على حصول المواطنين على الوقود المدعوم بسعر (نصف دولار للتر الواحد) في مناطق النظام، حيث ينتظر الناس في كثير من الأحيان أسابيع للحصول على إشعارات على الهاتف المحمول لملء أقل من خزان وقود كامل.
لكن ذلك أنعش شراء الوقود غير المدعوم من السوق السوداء (من دولار ونصف إلى دولارين للتر الواحد) التي يديرها مقربون من النظام، وبأسعار مضاعفة.
وخلال عام 2022، رفعت وزارة التجارة الداخلية التابعة للنظام سعر لتر البنزين بنسبة 127 في المئة في ثلاث زيادات كان آخرها في أغسطس، من 3500 إلى 4000 ليرة (الدولار الواحد يساوي 5600 ليرة).
وحاليا، تبلغ ساعات التقنين الكهربائي في العاصمة دمشق 22 ساعة قطع يقابلها ساعتا وصل على فترات متقطعة، بسبب نقص الفيول.
ويأتي ذلك مع استمرار انخفاض قيمة الليرة السورية بشكل غير مسبوق. وبما أن نظام الأسد يعتمد على إيران بشكل أساسي لتأمين المشتقات النفطية، فإن ارتفاع أسعار المحروقات يؤدي إلى زيادة أسعار السلع الغذائية والمواد الخام بشكل جنوني.
وبالكاد يمتلك النظام القدرة على تكرير النفط لتلبية الطلب المحلي على الوقود، إذ توجد في مناطقه مصفاتا نفط حكوميتان، هما "بانياس" في طرطوس الساحلية على البحر المتوسط التي تأسست عام 1974، ومصفاة "حمص" وسط البلاد التي تأسست عام 1959.
لكن مصفاة بانياس أكبر إنتاجا، بطاقة إنتاجية 130 ألف برميل يوميا، مقابل 110 آلاف برميل في حمص.
وتسيطر قوات سوريا الديمقراطية "قسد" المدعومة أميركيا، على قرابة 90 بالمئة من حقول النفط، و45 بالمئة من إنتاج الغاز بسوريا، وهي تكرر النفط عبر طريقتين، الأولى هي المصافي التي تعمل بشكل بدائي وتسمى محليا "الحراقات".
والثانية عبر اتفاق عقدته "قسد" مع نظام الأسد يقضي بمنح الأخير النفط مقابل تزويدها بالمشتقات من البنزين والمازوت، والسماح للتجار بتمرير المواد الغذائية وبعض السلع الصناعية والكهربائية لمناطقها.
موت سريري
وفي هذا الإطار، يرى الخبير الاقتصادي، رئيس "مجموعة عمل اقتصاد سوريا"، أسامة القاضي، أن "اعتماد النظام على النفط الإيراني لن يحل أزمة الوقود الخانقة في مناطق سيطرته؛ لأن الواضح أن هذا رهن الضوء الأخضر الأميركي لمرور ناقلات النفط الإيرانية من قناة السويس".
وأضاف القاضي لـ"الاستقلال" أن "شحن النفط داخليا من منطقة النفوذ الأميركية شمال شرقي سوريا حيث قسد، عن طريق وسطاء محليين مثل شركة القاطرجي وغيره رهين نفس الضوء الأخضر".
واستدرك: "في ظل العلاقات بالغة السوء بين الروس والأميركيين بعد غزو موسكو لأوكرانيا، فإن النظام لا يمكنه ضمان تهريب النفط بالكميات التي يريدها كما كان سابقا".
وذهب القاضي للقول إن "ارتدادات أجواء الحرب العالمية على أرض أوكرانيا يدفع ثمنها الشعب السوري بينما النظام غير مكترث بالحل السياسي لينهي هذا الاستعصاء السياسي".
إضافة إلى وجود قوى دولية ليس على أجندتها الحل السياسي، بل إن الرؤية الأميركية يبدو أنها قائمة على استنزاف الروس على الجغرافيا السورية، وفق قوله.
وختم القاضي قائلا: "ضمن هذه الأجواء الحساسة دوليا، فإن النفط يستخدم للضغط على النظام السوري كمحاولة أميركية لإثبات فشل الروس في إدارة منطقة نفوذه في سوريا والشعب سيظل يعاني، كما أن ما تبقى من نشاط اقتصادي ضئيل سينحسر تدريجيا إلى أن يدخل حالة الموت السريري".
ويؤكد مراقبون أن الولايات المتحدة منعت "قسد" أخيرا من تصدير النفط إلى نظام الأسد، إذ أن إنتاج قوات سوريا الديمقراطية من النفط حاليا يتراوح بين 80 - 120 ألف برميل يوميا.
وأكدت مصادر صحفية أن "قسد" تبيع نحو 15 ألف برميل نفط خام يوميا إلى نظام الأسد عبر شركة "القاطرجي" بسعر يتراوح بين 24 و28 دولارا للبرميل الواحد.
صراع خفي
وكانت سوريا قبل الحرب من الدول المكتفية ذاتيا في مجال الطاقة، وحسب إحصاءات النظام عام 2021، فإن آبار النفط السورية كانت تنتج يوميا ما يقدر بنحو 385 ألف برميل.
وتقدر خسائر قطاع النفط في سوريا منذ عام 2011 بـ91.5 مليار دولار، فضلا عن تكلفة شحنات تأتي من إيران من حين لآخر، وفق إحصاءات وزارة النفط في حكومة الأسد لعام 2021.
ورغم أن حكومة النظام تتذرع بنقص المخزون الإستراتيجي من المحروقات، لتشغيل قطاعاتها الحكومة بطاقة كاملة، هناك من يتهم النظام في المقابل ببيع تلك الحصص للسوق السوداء.
إذ تهيمن مليشيا "الفرقة الرابعة" التي يقودها ماهر الأسد شقيق رأس النظام السوري بشار ، على قطاع تهريب الوقود بين مناطق النظام ومناطق حزب الله في لبنان.
ولذلك، فإن أزمة المحروقات هي كذلك "جزء من صراع داخلي" بين تجار و"مافيات" يتبعون لآل الأسد ويحققون أرباحا طائلة من فرق الأسعار.
وهذا ما أشار إليه فراس نجل وزير الدفاع السوري الأسبق، مصطفى طلاس، بقوله: "سيحصل انفراج نسبي في توفر مادتي البنزين والمازوت في مناطق نظام الأسد".
ولفت طلاس في منشور على صفحته بـ"فيسبوك" في 3 ديسمبر 2022، إلى أن "الانفراجة ستأتي بعد أن أعطى ماهر الأسد أوامره لحواجز الفرقة الرابعة بالسماح بمرور صهاريج المحروقات بعد أن أوقفها آخر أسبوعين كنوع من إثبات الوجود أمام زوجة بشار، أسماء الأسد".