كيريل الأول.. راعي الكنيسة الروسية ومرشد بوتين وواجهته الدينية أمام العالم
يبرز بطريرك موسكو ورئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية كيريل الأول، كبطانة دينية واسعة الأفق في تبرير الحرب على أوكرانيا التي يقودها الرئيس فلادمير بوتين.
فمنذ البداية اهتم كيريل بـاستعمال التوصيفات الدينية لحشد التأييد الشعبي لقتال الأوكران، حتى وصل به الأمر لإصدار "فتوى نارية" قال فيها: "إن الموت في قتال أوكرانيا يغسل كل الذنوب".
في الواقع، لقد كان البطريرك كيريل أحد الذين وفروا لبوتين خلطة "قومية دينية" ليجيز لحاكم روسيا الأوحد غزو أوكرانيا فجر 24 فبراير/ شباط 2022.
ولم يتوقف كيريل، عند هذا الحد، بل راح يسبغ على بوتين صفات من رحم الحرب وتصوره على أنه "المخلص" للاتحاد الروسي.
وجديد ذلك، تعيين البطريرك كيريل، في 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، الرئيس فلاديمير بوتين بمنصب "كبير طاردي الشياطين".
وكان بوتين عندما غزا أوكرانيا، استخدام تعبير "اجتثاث النازية"، قائلا إن هذا هدف ما أطلق عليه "العملية العسكرية الخاصة"، وهو التوصيف الرسمي الروسي للحرب.
النشأة والتكوين
ولد كيريل الأول، واسمه الأصلي فلاديمير ميخائيلوفيتش غوندياييف، في عام 1946 في سان بطرسبرغ مسقط رأس الرئيس بوتين.
كان والده قسا وتوفي عام 1974، بينما كانت والدته مدرسة للغة الألمانية، وتوفيت عام 1984.
وبعد إنهاء كيريل المرحلة الثانوية من الصف الثامن، عمل في بعثة لينينغراد (بطرسبرغ حاليا) الجيولوجية الشاملة التابعة للإدارة الجيولوجية الشمالية الغربية من عام 1962 إلى عام 1965 كرسام خرائط تقني.
وبعد أن أنهى دراسته الثانوية عام 1965 التحق بمدرسة لينينغراد اللاهوتية ثم أكاديمية لينينغراد اللاهوتية التي تخرج فيها بامتياز عام 1970 بدرجة مرشح لاهوتي.
وكان ممثل بطريركية موسكو في مجلس الكنائس العالمي في جنيف من عام 1971 إلى عام 1974، قبل أن يُرقى في عام 1977 إلى رتبة رئيس أساقفة.
كما شارك في العمل التشريعي كممثل للكنيسة الأرثوذكسية الروسية في لجان تطوير قانون اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية "بشأن حرية الضمير والمنظمات الدينية" الصادر في عام 1990.
وبصفته رئيسا للجنة المجمع المقدس لإحياء التعليم الديني والأخلاقي والعمل الخيري، بادر لإنشاء أقسام مجمعية للتربية الدينية والخدمة الاجتماعية والعمل الخيري بالتعاون مع القوات المسلحة الروسية وسلطات إنفاذ القانون.
وهو مؤلف كتاب "مفهوم إحياء التربية الخيرية والدينية" الذي اعتمده المجمع المقدس في 30 يناير/ كانون الثاني 1991.
وتعد علاقة كيريل مع المؤسسة العسكرية الروسية قديمة منذ أن قام عام 1994 بإعداد وتقديم "مفهوم تعاون الكنيسة الأرثوذكسية الروسية مع القوات المسلحة" في المجمع المقدس.
وكان كيريل أول رئيس للكنيسة الأرثوذكسية الروسية يجرى انتخابه بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وورث عن سلفه ألكسي الثاني (1990-2008) الكنيسة.
وشارك كيريل مع أليكسي اعتقادا صريحا بأن الكنيسة يجب أن تلعب دورا ديناميكيا في الحياة الروسية.
وتولى كيريل البالغ من العمر 75 عاما، منصب بطريرك موسكو الأرثوذكسي الروسي وعموم روسيا منذ عام 2009، وحينها حضر بوتين المراسم وكان رئيسا للوزراء آنذاك.
تعويم كيريل
ولعب الإعلام الروسي دورا في بروز كيريل كشخصية شهيرة وجعله مقبولا بين المواطنين، من خلال استضافته لأكثر من عقد من الزمان في برنامج تلفزيوني أسبوعي حول مواضيع دينية.
وحدثت علاقة وثيقة بين كيرل وبوتين، وصلت لحد تحالف وثيق ومفيد للطرفين، عبر تقديمه غطاء روحيا للرئيس الروسي، بحيث تتلقى كنيسته، وربما هو نفسه، موارد هائلة في المقابل من الكرملين، بما يسمح له بسط نفوذه في العالم الأرثوذكسي.
لدرجة أن البطريرك كيريل وصف فوز بوتين في انتخابات عام 2012 بأنه "معجزة من الله".
وهذا الترتيب جعل كيريل أكثر بكثير من مجرد شخصية أوليغاركية (حكم الأقلية) أو عامل تمكين لبوتين، حتى بات جزءا أساسيا من الأيديولوجية القومية في قلب مخططات الكرملين التوسعية.
وذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" في 21 مايو/ أيار 2022 أن بوتين اعتمد على نظرية "مير" كما وفر له البطريرك الروسي كيريل الأول خلطة قومية دينية.
وتدمج هذه الأخيرة بين رؤية دينية وأخرى قومية (هي فكرة العالم الروسي لـ "مير") ليبرر غزو أوكرانيا.
ولهذا فإن عناق الزعيم الديني كيريل لبوتين، حوّل الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تحت قيادته إلى فرع "روحي فاسد داخل دولة سلطوية".
ومثل جميع رجال الدين الروس من النخبة تقريبا، يعتقد أن كيريل قد تعاون مع جهاز الاستخبارات الروسية "KGB" السوفيتي، حينما شغل رئيسا لقسم العلاقات الخارجية لبطركية موسكو في عام 1989.
خاصة أن ذاك الجهاز عمل فيه بوتين بين عامي 1985 – 1990 في المديرية الرئيسة الأولى في مدينة دريسدن بألمانيا الشرقية في ذلك الوقت.
مفتي الغزو
لكن كيريل وجد في حرب أوكرانيا فرصة لأن يزيد من ثقته لدى بوتين، إذ أنه في أول خطبة له أيد فيها الغزو الروسي قائلا: "لقد دخلنا في صراع ليس له أهمية جسدية، بل أهمية ميتافيزيقية".
وأراد كيريل أن يعبر عن رأيه بأن هناك فرقا روحيا بين الغرب والعالم الأرثوذكسي وراء الحرب في أوكرانيا، ومن الواضح أن الأخير هو الأفضل بالنسبة له، وأن الحرب لا تتعلق بأهداف أو نفوذ سياسي، بل تتعلق بأهداف روحية".
ولم يكتف بذلك بل ألقى رأس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، التي تضم نحو 150 مليون "أرثوذكسي" في العالم وخصوصا في روسيا، عظات تؤيد الهجوم على أوكرانيا والذي اعتبره في قداس بموسكو في 27 فبراير بأنه قتال ضدّ "قوى الشر" التي "تحارب الوحدة التاريخية" بين روسيا وأوكرانيا.
كما دعا كيريل الروس إلى الالتفاف حول السلطة، الأمر الذي دعا الاتحاد الأوروبي في مايو، لإدراجه ضمن قائمة عقوبات شملت حظرا للسفر وتجميد أصول، بلغت أكثر من ألف روسي فرضت عليهم عقوبات عقب الحرب.
وبما أن بوتين يرى أوكرانيا كجزء من "العالم الروسي" فإن البطريرك كيريل يطالب بالسيطرة على الكنائس في أوكرانيا وبيلاروسيا، وخاصة أن الكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا انفصلت عن بطريركية موسكو في عام 2018.
ولهذا خسرت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية نسبة كبيرة من مؤيديها في أوكرانيا بعد غزو روسيا لها واعتبر البطريرك بأنه "قد خانهم" كونه لم يقف بوجها ويرفضها.
وهذا ما دعا في رسالة مفتوحة في 9 مارس 2022، المطران يوحنا دوبنا، رئيس أساقفة الكنائس الأرثوذكسية الروسية في أوروبا الغربية، لحث كيريل على رفع صوته "ضد هذه الحرب الوحشية التي لا معنى لها والتوسط لدى سلطات الاتحاد الروسي لوقفها".
وجاء ذلك من الأساقفة خارج روسيا، ردا على تحركات كيريل للتسويق لرواية بوتين من أهداف غزو أوكرانيا ومدى تأثيرها على الداخل الروسي.
ومنها حينما قال كيريل خلال خطبة بأحد الأديرة للراهبات في مقاطعة نيجني نوفغورود بتاريخ 23 أكتوبر، إن روسيا لم تدخل بإرادتها في صراع بأرض "روسيا التاريخية"، محذرا من أن كثيرين يريدون القضاء على روسيا كونها بالنسبة لهم "شوكة في العين".
بابا بوتين
وفي عهد كيريل سمح بوتين للكنيسة باستعادة صدارتها ومجدها، وقدم لها الدعم كما لم يفعل أي حاكم روسي منذ الثورة البلشفية.
وبالمقابل، مدت الكنيسة بوتين بالدعم الفكري والثقافي لتوفير أرضية لرؤيته، وتوسيع مجال نفوذ روسيا حول العالم.
وتقول المؤرخة الدينية الأميركية "ديانا باتلر باس" في مقال بمجلة "ريلجن نيوز 24" نشر في فبراير 2022 إن لبوتين أسبابا دينية "مبطنة" أخرى لغزو، من بينها تتويج نفسه إمبراطورا مسيحيا أرثوذكسيا لروسيا وأوكرانيا.
وعندما أعلن بوتين عن "التعبئة الجزئية" لقوات الاحتياط في 21 سبتمبر/أيلول 2022، والتي انتهت بتعبئة 300 ألف جندي، قال كيريل خلال عظته يوم 25 سبتمبر، إن "من يموت خلال ما أسماه تأدية واجب الحرب في أوكرانيا تمحى كل ذنوبه".
ويلقب كيريل في الإعلام الغربي بـ"بابا بوتين"، ويرى مختصون في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أن كيريل يعد المرشد الروحي لبوتين، وقد ساهم شخصيا في تلميع المؤسسة العسكرية الروسية في عيون المقاتلين الروس.
ولهذا بات مشهد مباركة الكهنة للجنود الروس والطائرات مألوفا خلال حرب أوكرانيا، والذي بدأ بشكل فج أيضا في سوريا حينما تدخلت موسكو لإنقاذ رأس النظام السوري عام 2015 من السقوط أمام ثورة شعبية في مارس/ آذار 2011.
إذ طلب بوتين من كيريل" بعدم نسيان "الجنود الروس الذين ضحوا بسوريا"، وذلك خلال قداس "للصلاة" أقيم بعد يوم من إعلان وزارة الدفاع الروسية في 10 يوليو/ تموز 2016 مقتل طيارين روسيين بإسقاط مروحية "مي-25" قرب تدمر بريف حمص الشرقي.
وسبق لكيريل أن قال إن "حمل المسيحية على الخروج من سوريا؛ سيؤدي إلى كارثة حضارية"، وذلك أثناء لقاء عقده بوتين في 25 يوليو 2013 بموسكو مع رؤساء الكنائس المحلية الأرثوذكسية.
وعقب التدخل العسكري الروسي اعتبر كيريل أنه جاء بهدف "حماية الشعب السوري من العلل التي جلبها الإرهابيون"، زاعما أن "الشعب الأرثوذكسي رصد العديد من حوادث العنف ضد المسيحيين في المنطقة".
شبهات فساد
ورغم كل أدوار البطريرك كيريل "المشجعة على القتل"، لم يخضع لعقوبات من قبل الولايات المتحدة بعد، على الرغم من نداءات النشطاء الأوكرانيين وغيرهم ممن يرونه "قوة مدمرة في حرب وحشية بالفعل من خلال وعظه الديني لصالح سياسات بوتين".
كما أنه من بين أولئك الذين انزعجوا من تصرفات كيريل عقب غزو أوكرانيا، بابا الفاتيكان فرانسيس، بعدما عقد اجتماع افتراضي معه في مايو، إذ أخبر البابا صحيفة "كورييري ديلا سيرا" الإيطالية أنه "لا يجوز أن يتحول بطريرك إلى مساعد لـ(الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين".
وأمام ذلك، لم يكن كيريل بعيدا عن تهم الفساد، فلقد تعرض لانتقادات من قبل الروس في تسعينيات القرن العشرين، حينما سلم الكرملين الكنيسة الأرثوذكسية الروسية رخصة تبغ للقيام بأعمال تجارية من استيراد السجائر المعفاة من الرسوم الجمركية.
وتلك العملية التي قيل إنها حققت أكثر من 75 مليون دولار، كانت تديرها إدارة العلاقات الخارجية بالكنيسة التي قادها كيريل، مما دفع البعض إلى الاعتقاد بأنها ساهمت في بناء ثروته الشخصية.
لا سيما أنه في عام 2012 اكتشف المدونون الروس أن كيريل يرتدي ساعة "بريجيه" بقيمة 30 ألف دولار في مقابلة تلفزيونية، وهو ترف يفوق إمكانياته نظريا.
كما وجد تحقيق أجرته شركة "بروكت" لوسائل الإعلام الروسية المستقلة في عام 2020 أن تسعة عقارات في روسيا تبلغ قيمتها الملايين إما مملوكة لشركة تابعة لكيريل أو مرتبطة بها.
وكثيرا ما كانت تصريحات كيريل مشبعة بالترهيب طالما توافق هوى السلطة، ومنها حينما قال في 6 يناير 2021، خلال خطبة بعد القداس بكاتدرائية المسيح المخلص في موسكو، إن عدم تصديق وجود وباء فيروس كورونا، وإهمال الاحتياطات ضد انتشاره، هو "أمر مميت مثل الكفر بالرب".
المصادر
- Putin Appointed 'Chief Exorcist' as Kremlin Whips up Satanic Panic
- البطريرك كيريل: روسيا "شوكة في عين" كثيرين ولم تدخل في الصراع بأوكرانيا بإرادتها
- His Holiness Patriarch Kirill of Moscow and All Russia
- عقوبات بريطانية على البطريرك الروسي كيريل..
- Patriarch Kirill: Putin ally faces backlash after ‘blessing’ war