علي الصلابي لـ"الاستقلال": القرضاوي سيظل باقيا بعلمه.. وهذه رسالتي لليبيين
أكد المؤرخ الإسلامي، نائب الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الدكتور علي الصلابي، أن وفاة العلامة يوسف القرضاوي مصاب جلل، لكنه سيظل باقيا بعلمه وأخلاقه وفكره وإنجازاته.
وقال الصلابي في حوار مع "الاستقلال" أن الشيخ القرضاوي كان داعية إلى الله عن علم ودراية، وبسلاح الكلمة الطيبة، التي استطاع من خلالها أن يصل إلى قلوب ملايين البشر في مختلف أصقاع العالم.
وأضاف أن ما تركه شيخنا الجليل يوسف القرضاوي من مؤلفات وتصانيف في شتى العلوم الشرعية والطروحات الفكرية، سيربي أجيالا على الدعوة الصحيحة.
وفي 26 سبتمبر/ أيلول 2022، توفي العلامة يوسف القرضاوي المؤسس والرئيس السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في العاصمة القطرية الدوحة، عن عمر ناهز 96 عاما.
على المستوى الشخصي أوضح الصلابي أن مشروعه الذي كرس حياته من أجله هو العمل على تنقية تاريخ الإسلام مما لحق به من أكاذيب تسعى لتشويه الذاكرة الجماعية للأمة وتشكك أبناءها بتاريخهم العظيم وحضارتهم المتميزة.
وشدد على أن مستقبل هذه الأمة مرهون بقدرة أبنائها على مجاراة التطورات العصرية بأدوات فكرية وعملية وعلمية لها قواعد، ركيزتها الأساسية رضا الله والسير على هدي نبيه الكريم.
وبالنسبة للوضع في ليبيا مسقط رأسه، دعا الصلابي الليبيين إلى التحلي بالعزيمة والإرادة الصادقة للتصالح والجلوس معا للتفاوض على أسس بناء الدولة المدنية التي تسع الجميع، مشيدا بالدور التركي في دعم محاولات الاستقرار وإنهاء الاقتتال في ليبيا.
والصلابي (59 عاما) من موالي مدينة بنغازي شرقي ليبيا، وهو فقيه، وكاتب، ومؤرخ، ومحلل سياسي ليبي، وله عشرات المؤلفات في التاريخ والسيرة وتراجم الأعلام.
رحيل القرضاوي
كيف ترى فضيلتكم فقدان الأمة الإسلامية لعالم بقدر الشيخ يوسف القرضاوي؟
لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى وإنا لله وإنا إليه راجعون. لا شك أن إيماننا بقضاء الله وقدره خيره وشره هو ما يعزينا بفقد الصالحين والأئمة والدعاة والعلماء العاملين.
وبكل تأكيد، فإن وفاة شيخنا وإمامنا العلامة الشيخ يوسف القرضاوي هو مصاب جلل وفقد عظيم.
وموت عالم جليل له أثره وحضوره وهيبته في المشهد الدعوي والديني والسياسي والفكري على مستوى الأمة كلها.
وهذا ما جعل أبناء الأمة من مشرقها إلى مغربها يحزنون ويعزون ويصلون صلاة الغائب، وينشرون المراثي والأوصاف والمآثر بحق الشيخ إثر وفاته (رحمه الله).
فالشيخ القرضاوي إمام من أئمة الوسطية الكبار في تاريخ الأمة الحديث، وقد دونت شهادتي في مقال قبل شهور بحق أستاذي وشيخي تحت عنوان: "القرضاوي ترجم الإسلام فكرا وسلوكا وانحاز للإنسان".
وأوضحت فيه أن الشيخ القرضاوي العنوان الأبرز والأنصع للوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر؛ حيث جمع بين الفكر العلمي الدقيق، المتمثل في شرح وتيسير الفكر الإسلامي للأجيال الجديدة، وبين الترجمة العملية للإسلام في حياتنا المعاصرة.
وعرفت الشيخ القرضاوي عن قرب لعدة أعوام، واطلعت على أغلب كتبه التي انشغلت بهموم الفكر الإسلامي ومشاغل المسلمين، وقضايا التجديد التي تفرضها مستجدات الحياة.
وأدركت حجم الفائدة التي قدمها ليس فقط للإسلام والمسلمين، وإنما أيضا لقضايا التعايش والحوار بين مختلف الثقافات والحضارات".
إن الشيخ القرضاوي داعية إلى الله عن علم ودراية، وبسلاح الكلمة الطيبة، التي استطاع من خلالها أن يصل إلى قلوب ملايين البشر في مختلف أصقاع العالم.
كيف يمكن للأمة أن تملأ الفراغ الذي تركه القرضاوي برحيله؟
حزنت الأمة على وفاة شيخنا العلامة القرضاوي، ولكن هذا لا يعني أن أمتنا تعاني من نقص في العلم أو تفتقر لأهل العلم والدعوة والصلاح.
ففيها علماء ومحدثون ودعاة وفقهاء وأصحاب رأي وحكمة، هؤلاء هم ورثة حقيقيون حملوا علوم القرآن والحديث والفتوى والفقه والأدب والدعوة والاجتهاد، وهم ثابتون في حمل رسالة هذا الدين العظيم.
فالأمة التي فقدت إمامها الأعظم ورسولها ونبيها محمدا (صلى الله عليه وسلم) وجدت العدل والإنصاف والإيمان الراسخ والتمسك بمنهجه القويم في الخليفة الراشدي الأول أبي بكر الصديق، وأمير المؤمنين فاروق الإسلام عمر بن الخطاب (رضي الله عنهما).
وجميع الخلفاء الراشدين والأئمة والتابعين والسلف الصالح والعلماء المجددين ورجالات الدعوة المعاصرين، حملوا التكليف والرسالة عالما بعد عالم، وجيلا بعد جيل.
فهي رسالة التوحيد والدعوة الحقة أساسها إفراد العبودية والوحدانية لله عز وجل، فكيف لها أن تضيع؟!
وإن ما تركه شيخنا الجليل يوسف القرضاوي من مؤلفات وتصانيف في شتى العلوم الشرعية والطروحات الفكرية، سيربي أجيالا على الدعوة الصحيحة.
وسيتعلم من تلك الآثار العلمية أجيال ولدت وأجيال لا تزال في أصلاب آبائها بإذن الله تعالى، وستكون نبراسا للكلمة الصادقة والدعوة اليسيرة والرسالة الوسطية السمحة، وستملأ الفراغ من بعده.
وهذا كله يجعلنا نعلم أن العالم لا يموت لأن حضوره باق بعلمه وأخلاقه وفكره وأثره وإنجازاته.
ما أهم مآثر الراحل القرضاوي في مجالات السياسة الشرعية والاجتهادات الفقهية والتجديد؟
الشيخ القرضاوي مهما ذكرنا عن عمله ومآثره، فلا يمكن أن نحصرها في هذه المقابلة السريعة، هو بحر من بحور العلم الشرعي والاجتهاد الفقهي والتجديد المقاصدي والأثر الدعوي والتنظيم المؤسسي السياسي والإنساني.
فكتابه "الحلال والحرام في الإسلام" على سبيل المثال انتشر في العالم العربي والإسلامي، وأشار إليه كثير من العلماء المرموقين.
أمثال الشيخ مصطفى الزرقا بقوله: "إن اقتناء هذا الكتاب واجب على كل أسرة مسلمة"، وقال محمد المبارك رحمه الله: "هو أفضل كتاب في موضوعه"، وأشاد به الشيخ علي الطنطاوي والشيخ ناصر الدين الألباني.
وكما أن اهتمام الشيخ في الفقه ونزعته الوسطية وقدرته الإقناعية في الطرح جعله يصدر كتابه "فقه الزكاة" في ضوء القرآن والسنة، وقال عنه الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله: "إنه كتاب هذا القرن (أي الرابع عشر الهجري) في الفقه الإسلامي".
وأصدرت مجلة الأمة كتابه الشهير "الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف" الذي طبع منه مئات آلاف النسخ باللغة العربية، وترجم إلى لغات عالمية كالإنجليزية والفرنسية والروسية والأوردية والتركية والمالوية والإندونيسية والماليبارية وغيرها، فهو مشروع تجديد ونهوض أخلاقي ودعوي وفكري رصين.
وهنا، لن أستطيع ذكر كل علم الشيخ وآثاره، ومشاركاته العلمية والسياسية، الرسمية وغير الرسمية، المحلية والعالمية، لكن باختصار تميز علم الشيخ القرضاوي بالقدرة على مخاطبة العقل وإلهاب العاطفة معا.
واستلهام التراث والاستفادة من ثقافة العصر، والمزج بين الدعوة النظرية والعمل الحركي والجهادي والنشاط الواقعي من أجل الإسلام، والربط بين الدعوة والفقه، والوقوف على قضايا وهموم الأمة الكبرى والمصيرية.
تنقية التاريخ
ما المشروع الإسلامي الذي كرس الدكتور الصلابي حياته من أجله؟
تنقية تاريخ الإسلام مما لحق به من أكاذيب سواء من مدرسة الاستشراق أو أعداء الصحابة في سعيهم لتشويه الذاكرة الجماعية للأمة وتشكيك أبنائها بتاريخهم العظيم وحضارتهم المتميزة.
كما أحاول الاهتمام بالشخصيات الإسلامية العظيمة السياسية والفكرية والعلمية، والتي اهتمت بالتزكية وفقه النهوض على مر التاريخ من علماء وفقهاء ومحدثين وقادة.
وكذلك العمل على إيجاد موسوعة مرجعية في تاريخ الأمة وحضارتها منذ عهد النبوة إلى التاريخ الحاضر، وأكملت منها صدر الإسلام والسيرة النبوية، والخلفاء الراشدين والدولة الأموية وموسوعة الحروب الصليبية من سلاجقة وزنكيين وأيوبيين ومماليك والتتار والعثمانيين.
فضلا عن الحركات النضالية المعاصرة مثل الحركة السنوسية، وكفاح الشعب الجزائري، وتاريخ شمال إفريقيا من مرابطين وموحدين، وقضايا متعلقة بالتاريخ الإسلامي.
ويدخل في إطار المشروع الاهتمام بالقرآن الكريم في استلهام الأبعاد الحضارية، وسنن الله في حركة المجتمعات والنفوس، وانتشار الحضارات واضمحلالها، وفي قيام الدول وسقوطها، وصفات قادة التغيير وفق الرؤية القرآنية، والدورات الحضارية من خلال القصص القرآني.
كما أحاول عبر هذا المشروع إيجاد مرجعية من خلال قصص القرآن وسيرة النبي المصطفى والتيسير على الناس قدر الاستطاعة وتيسير الحصول على المعلومة قدر الإمكان وربط الناس بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
وتسهيل الحصول على المعلومة في الإجابة عن الأسئلة الوجودية والمرجعيات الكبرى في قضايا القيم والجانب الروحي والعقائدي على أصول أهل السنة والجماعة.
إضافة إلى أنني أحاول في كتاباتي استشراف المستقبل وسنة التدافع للشهود الحضاري الإنساني كمرجعية للبشرية في المستقبل على ضوء الرؤية القرآنية والسيرة النبوية في قراءة طبيعة الصراع بين الخير والشر في الماضي والحاضر.
والسعي للوقوف ضد الكفر والشرك والإلحاد بالحجج المنطقية ونشر التوحيد بالحكمة والموعظة الحسنة وخطاب المنطق والوجدان والفطرة الإنسانية، واستمرار محاولة سد الثغرات الموجودة في القضايا التاريخية والحضارية، واستيعاب فقه السنن لما له من أهمية بالغة في التدافع الحضاري.
كيف يرى الدكتور الصلابي مستقبل الأمة الإسلامية اليوم في ظل المعطيات الراهنة؟
إن ما يحدث في وقتنا الحاضر هو سنة طبيعية من سنن الله سبحانه وتعالى في الابتلاء والامتحان والتمحيص.
فكثرة الأعداء لهذا الدين الحنيف، واتساع ساحة الصراع وانتشار الفتن في أمتنا، وتضييق الطغاة وأعداء الأمة على المسلمين في الرجوع إلى دينهم، هذا كله سنة باقية في التكليف والابتلاء جرت على الأنبياء وأولي العزم من الرسل.
ابتداء من أبينا آدم عليه السلام ونوح وحدوث الطوفان العظيم وسيدنا إدريس ولوط وصالح وأيوب وإبراهيم وإسماعيل ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى ومحمد (صلوات ربي وسلامه عليهم جميعا).
فهذه هي سنة الله الماضية عبر الأجيال وعلى مر الأزمان والقرون؛ فمن يقرأ في سير هؤلاء القادة العظام رسل الله إلى الأمم، والابتلاءات التي تعرض لها الصحابة والتابعون والأئمة الأربعة وعلماء عصرنا وأهل الإيمان، يدرك أن حياة المؤمن تنتقل من الابتلاء إلى التمكين ومن الصبر واليقين والأذى إلى النصر والعزة والكرامة.
ومستقبل هذه الأمة مرهون بقدرة أبنائها على مواكبة رهانات العصر والتصدي للأفكار الملوثة والشذوذ الفكري والأخلاقي، والأباطيل الإبليسية، وترسانة الشر في تزوير الحقائق.
والتعاون للخلاص من الظلم ومناصرة المظلومين والتمسك بنهج الأولين الثابتين على العلم والإيمان بالله، والقول الصادق والعمل الصالح، ومجاراة التطورات العصرية بأدوات فكرية وعملية وعلمية وعقلية لها قواعد، ركيزتها الأساسية رضا الله والسير على هدي نبيه الكريم (صلى الله عليه وسلم).
وأساليبها متنوعة فكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية وعسكرية، شريطة أن تكون قادرة على الاستمرار والتحدي والظفر بنهاية الأمر بإذن الله تعالى.
مستقبل حساس
كيف يرى الدكتور الصلابي واقع ومستقبل ليبيا والدور التركي في ليبيا خاصة، وفي العالم الإسلامي بصفة عامة؟
المستقبل الليبي مرتبط بلغة الحوار والعقل ومخافة الله في القول والعمل، فهو قرار وطني يتخذه أبناؤه كعزيمة وإرادة صادقة للجلوس على طاولة واحدة والمصالحة والتفاهم على أسس بناء الدولة المدنية.
فضلا عن الاحتكام إلى لغة العقل والمنطق والاتزان والإنصاف بين جميع الأطراف الليبية لتعزيز قيم السلام والتآخي وحقن الدماء ومحاسبة الخارجين عن القانون وتفعيل المؤسسات الدستورية والقضائية.
ومن ثم الوصول إلى دستور يحافظ على هوية المجتمع ودينه وقيمه وأخلاقه وحضارته، وذلك بعد الانتقال إلى مرحلة توافقية مقنعة لجميع الأطراف الساعية وبنية صادقة لهذا الخيار الإستراتيجي.
والدور التركي مهم في التواصل مع كل ألوان الطيف الليبي لإيجاد قاعدة في السلام والمصالحة ودعم الاستقرار والأمن وتحقيق التوازن الإقليمي بالتنسيق مع الأمم المتحدة والدول الفاعلة والمؤثرة.
وهو ما يدعم مشروع السلام في ليبيا، ودفع عجلة التنمية، لما لدى تركيا من إمكانات اقتصادية وتقنية وصناعية في هذا المجال.
فتواصل الأتراك مع كل الليبيين يساهم في تعزيز الانتقال السياسي، وإجراء الانتخابات الوطنية الحرة والشفافة، وبناء الدولة المدنية.
كيف ننهض بأمتنا العربية والإسلامية اقتصاديا وسياسيا وعلميا واجتماعيا من وجهة نظركم؟
الجمع بين الأصالة والمعاصرة، والاستفادة من تجارب وسير الحكام والزعماء والقادة البارزين عبر التاريخ، واستلهام التجارب الإنسانية، وتعلم الدروس التاريخية من خلال قراءة سنن التدافع والنهوض الحضاري في القرآن الكريم.
وأيضا الوقوف على أحوال الأمم السابقة وتجارب الشعوب الحديثة التي خرجت من كبوتها بعد أن مرت بأزمات، ونجدها اليوم بلغت مراتب عالية في التقدم والاستقرار والرخاء مثل اليابان وألمانيا والصين وكوريا الجنوبية وتركيا وماليزيا وغيرها.
فأساس هذا النهوض في الأخذ بسنن التمكين وتعزيز القيم والمثل والمبادئ الأخلاقية والإنسانية والروحية والإيمانية الرفيعة.