"فاتورة كبيرة".. جون أفريك: العداء لفرنسا في القارة السمراء لا يمكن تغييره
في خطابه بالدورة الـ77 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، اتهم رئيس الوزراء المالي بالإنابة عبد الله مايغا، فرنسا بدعم "الإرهاب" في بلاده وتزويد الجماعات المتطرفة بالأسلحة والمعلومات الاستخباراتية لزعزعة الاستقرار.
وهاجمت مجلة "جون أفريك" الفرنسية خطاب مايغا ووصفته بـ"الانتقامي والبائس والسوداوي"، كما عدته "عنفا لفظيا يغطي على فراغ الرؤية ومأساة الواقع، مؤكدة في الوقت ذاته أن المشاعر المعادية لفرنسا بإفريقيا باتت رؤية راسخة لا يمكن تغييرها.
وفي 22 أغسطس/ آب 2022، عين الرئيس الانتقالي في مالي الكولونيل أسيمي غويتا، مايغا، في منصب رئيس الحكومة بالإنابة.
ونفذ غويتا انقلابا في 18 أغسطس/ آب 2020 ضد الرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا، والتزم تحت ضغط دولي بفترة انتقالية تمتد 18 شهرا يقودها مدنيون، لكنه عاد في 24 مايو/ أيار 2021، واعتقل الرئيس ورئيس الوزراء المدنيين، وأعلنت المحكمة الدستورية إثر ذلك تعيينه رئيسا انتقاليا.
ظلامية الاستعمار
وقال مايغا في خطابه يوم 24 سبتمبر/ أيلول 2022: "تتعارض الأفعال العدائية التي تقوم بها فرنسا ضد بلادي مع ميثاق الأمم المتحدة، كما أنها لا تتفق مع عضوية فرنسا الدائم بمجلس الأمن الدولي".
وتتمتع فرنسا إلى جانب أميركا وروسيا وبريطانيا والصين بعضوية دائمة بمجلس الأمن الدولي، ما يتيح لها استخدام حق النقض (فيتو).
وطالب مايغا "بتدخل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من أجل عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن، لعرض الأدلة التي تمتلكها مالي بشأن تورط السلطات الفرنسية في دعم الإرهاب ووقف الازدواجية والحرب بالوكالة ببلده".
وأكد رئيس الوزراء أنه "يميز بوضوح بين الشعب الفرنسي والسلطات الفرنسية الحالية التي لها حنين إلى الظلامية والعودة إلى الممارسات الاستعمارية، المتعالية والأبوية الانتقامية" على حد قوله.
وعلقت جون أفريك على الخطاب قائلة إن عددا من الدول الإفريقية التي لها ماض استعماري مع فرنسا، أصبحت تبحث عن سبل وآفاق دبلوماسية أخرى بعيدا عن باريس التي أبى حكامها أن ينتهجوا سياسة مصالحة شاملة مع مستعمراتها خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
وأضافت: اليوم، من باماكو (عاصمة مالي) إلى واغادوغو (عاصمة بوركينا فاسو)، أصبح أنصار الطغمة الحاكمة في إفريقيا، يظهرون أكثر فأكثر مواقف مؤيدة لروسيا ومعادية لفرنسا لإعطاء أنفسهم موقفا ثوريا.
وهو موقف يبدو مريحا للغاية عندما يحاول شخص، مثل عبد الله مايغا أمام الأمم المتحدة، إخفاء فشله السياسي والأمني في دولة مالي، وفق المجلة.
وقالت إنه منذ بداية أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1946، جرى الاستماع إلى نوعين من خطابات الزعماء.
يتعلق الأول - وهو الذي يُمثل الغالبية العظمى - بتلك الخطابات التي تمر دون أن يلاحظها أحد، يلقيها في ساعة متأخرة من اجتماعات الهيئة الأممية، حفنة من المندوبين الدائمين.
أما النوع الثاني من الخطاب، فإنه يشمل هؤلاء الزعماء النادرين الذين تبقى ذكراهم راسخة وتُوثق خطاباتهم بسبب قوة شخصيتهم ووجود نوع من الكاريزما في مسيرتهم السياسية.
شأن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عام 1974 ، وزعيم جنوب إفريقيا الراحل نيلسون مانديلا عام 2004، أما الخطاب الذي ألقاه العقيد عبد الله مايغا، فكان نوعا من "الأشياء" الغريبة التي لا تقع في أي من هاتين الفئتين.
شر لا محدود
حيث إنه بغض النظر عما يقوله "العامة" على مواقع التواصل وبغض النظر عن آلاف الماليين المتحمسين الذين استقبلوا مايغا استقبال الأبطال عند عودته إلى باماكو، فإن ذلك الخطاب الانتقامي ضد فرنسا لن يُسجل في التاريخ إلا من جانب واحد وهو جانب ثانوي نسبيا.
إذ إن الأمر الواقع والسعي المحموم من أجل "الشرعية'" من جانب هذا الجنرال البالغ من العمر 41 عامًا الذي لم يقاتل أو يشارك في الانقلابات التي ارتكبها زملاؤه، والذي تدرب في فرنسا، حيث يعيش جزء من عائلته، أقرب ما يكون إلى رواية البؤساء للأديب الفرنسي فيكتور هوغو، أو سوداوية الشاعر الفرنسي ألفريد دي فيني.
وأضافت أن "شرعنة" الزعماء لحكمهم من قبل جانب واحد ظاهرة معروفة، وكذلك استخدام العنف اللفظي لإخفاء فراغ الرؤية، وعدم كفاءة الفكر، ومأساة الواقع.
وهي ممارسات لجأ إليها المجلس العسكري المالي من أجل الإطاحة بالحكومة المنتخبة ديمقراطياً.
ومع ذلك، بعيدا عن أن مروره دون أن يلاحظه أحد، فقد حقق خطاب العقيد مايغا في الأمم المتحدة هدفه.
وذكرت أن قادة المجلس العسكري في باماكو يتهمون فرنسا بوصفها الشر اللامحدود الذي يؤمن المعلومات الاستخباراتية والأسلحة والذخيرة للإرهابيين.
واستدركت زاعمة أن هذا الهوس بفرنسا الشريرة المحاطة بشياطين إقليمية صغيرة لا يخلو من التناقضات.
وشرحت ذلك بالقول إن أسطورة هيمنة فرنسا على إفريقيا مدفوعة بالرغبة في احتكار القارة السمراء.
وهي "سردية سياسية" مريحة للغاية وأساس للعديد من التلاعبات، في باماكو بالتأكيد، وفي داكار (السنغال) وأبيدجان (كوت ديفوار) وواغادوغو (بوركينافاسو) وياوندي (الكاميرون) أو في أي مكان آخر.
عداء راسخ
نعم، لا يهم هذا الكلام، في الوقت الذي تمثل البلدان الـ15 في "منطقة الفرنك" فقط 0.6 بالمئة من التجارة الخارجية الفرنسية والصادرات الفرنسية إلى هذه البلدان أقل من تلك المخصصة لجمهورية التشيك وحدها.
ما يهم أن هذا الاستياء لا يبدو أن أي إجراء مضاد سيكون فعالا ضده، فالمشاعر المعادية للفرنسيين باتت تعبر بشكل واضح عن رؤية راسخة في القارة الإفريقية.كما أن حروب التحرير في أنغولا وموزمبيق وغينيا بيساو لم تثر مشاعر معادية للبرتغاليين، ولا ضد البريطانيين في كينيا على الرغم من القمع الدموي هناك، إلا أن السلطات البرتغالية عرفت كيفية إدارة رحيلها بحذر ودون تعثر.
لكن هذا لم يحدث في حالة فرنسا وهي الآن مازالت تدفع الفاتورة، الحقيقية والمتخيلة.
إذا كان عبد الله مايغا قد عرف كيف ينتشل نفسه من منطقه القائل بالعجز والإيذاء، لكان هناك مع ذلك مادة لخطاب جيد، بعد أربعة أيام من الخطاب الذي ألقاه إيمانويل ماكرون على نفس المنبر، والذي عاتب خلاله بلدانا مُقربة من الجنوب "لتقليدها معركة عدم الانحياز وخدمة الإمبريالية الجديدة لروسيا على الرغم من نفسها أو سرا، مع بعض التواطؤ".
فعلى سبيل المثال، مالي ترى في الحرب في أوكرانيا معركة حول توازن جديد للقوى في أوروبا، لا معركة من أجل مبادئ انتهكها الجميع تقريبا، بما في ذلك فرنسا عندما حافظت على علاقات جيدة مع السعودية من خلال غض الطرف عن حرب محمد بن سلمان في اليمن.
كما أن باماكو تحلم بأن تكون "عاصمة المقاومة المناهضة للفرنكوفونية"، وعاصمي غوتا يحلم أن يكون مثل المناضلين البروكيني لتوماس سانكارا والجزائري هواري بومدين.
وفي بوركينا فاسو، فإن استيلاء النقيب إبراهيم تراوري على السلطة أدى في الواقع إلى فشل أمني هائل، على غرار ما حدث في مالي، في نفس الوقت الذي عكس فيه رغبة القوات في الانتقام من مجموعة من النخبة المدللة بشكل خاص.
وبالتأكيد، ليس هذا هو السبب الوحيد للانقلاب العنيف في واغادوغو، الذي أشاد به حشد ضعيف بشكل قاطع لأنه كان مطابقا تماما لذلك الذي احتفل به، قبل ثمانية أشهر، رئيس المجلس العسكري الحاكم الرئيس بول هنري داميبا.
مستقبل غامض
ومنفذ الإنقلاب الأخير في بوركينافاسو، كان أحد الضباط الشباب الذين ساعدوا داميبا، على الإطاحة في يناير/ كانون الثاني 2022، بالرئيس المنتخب ديمقراطيا روش مارك كريستيان كابوري.
لكن لا أحد يجهل أن أولئك الذين شاركوا في انقلاب تراوري، إما لأنهم لا يرون أنفسهم قد حصلوا على مكافأة كافية، أو لأنهم أعجبوا بالمؤامرة، سيكونون دائمًا أول من يتآمر ضد أولئك الذين، في عيونهم مدينون لهم بكل شيء.
ومن هنا جاءت الفكرة الشائعة القائلة إن على مؤلف الانقلاب أن يتخلص أولا من أولئك الذين ساعدوه على ارتكابه - وهو ما لم يفعله بول هنري داميبا، الذي كان داعموه يوافقونه الرأي، لسوء حظه.
من الواضح أنه من السابق لأوانه القول إذا ما كان إبراهيم تراوري، ضابطا برتبة نقيب يبلغ من العمر 34 عاما وله لغة منظمة، سينحاز إلى المواقف المناهضة للفرنسيين والمؤيدين لروسيا للقادة الماليين وجزءا من المجتمع المدني في بوركينا فاسو.
لهجة تصريحاته الأولى وحقيقة أنه أعطى "إذاعة فرنسا الدولية"، وهي محطة إذاعية فرنسية احتقرها صناع القرار الموالين لـ روسيا في باماكو، يبدو أن إحدى المقابلات الأولى التي أجراها تشير، إن لم يكن العكس، إلى رغبته في تنفيذ -على الأقل- سياسة مستقلة.
ويؤكد لنا أن أولويته المطلقة هي وضع حد للاستشهاد اللامتناهي لسكان الشمال والشرق البوركينابي .
مثل سلفه، الذي استولى على السلطة بنفس النوايا، سيتم الحكم عليه بناءً على قدرته على مواجهة هذا التحدي مع تجنب أي اندفاع أيديولوجي في مالي.
لكن إذا فشل، بعد زمن الضباط ثم الزعماء من النقباء، سيظهر ملازم آخر، كما هو الحال بعد كل انقلاب فاشل.
لا يزال الجيش يتمتع بنفس الشعبية، ولكنه سريع الزوال، سيستمر الجيش في وضع يده على أجهزة التلفزيون المحاطة بأتباع ملثمين، مدججين بالسلاح، وسيواصل وعوده بمستقبل مشرق مثل السراب.