تمييز ضد ملايين النساء.. هذا ما جناه المصريون من عداء السيسي للمتدينين

12

طباعة

مشاركة

"المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم، والتمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض". 

هكذا تنص المادة "53" من الدستور المصري المعدل في عام 2019، ومع ذلك لا تزال تعاني طبقات بعينها في المجتمع المصري من تمييز ممنهج، تحديدا الطبقة المحافظة، التي تمثل غالبية الشعب المصري.

وفي الآونة الأخيرة تداولت وسائل إعلام دولية، مثل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، تقارير تتحدث عن تمييز واضطهاد تعاني منه النساء المحجبات في مصر، التي تصل نسبتهن في بعض الإحصائيات إلى 80 بالمئة من النساء.

وأوضحت أن في مصر التي تبلغ نسبة مسلميها نحو 90 بالمئة، هناك مطاعم ومقاهٍ ومنتجعات سياحية ترفض استضافة المحجبات أو من يبدو عليهن مظاهر التدين. 

وتثير هذه التقارير تساؤلات عن علاقة نظام عبدالفتاح السيسي بذلك الأمر، خاصة في ظل حملته الأمنية والإعلامية المتواصلة منذ انقلابه في 2013 ضد المتدينين ورواد المساجد.

المحجبات والمتدينون 

في 26 أغسطس/ آب 2022، نشر موقع بي بي سي تحقيقا استقصائيا، كشف أن هناك نسبة تمييز ضد مجتمع المحافظين والمحجبات في مصر. 

وقال الموقع البريطاني: "حاولت بي بي سي نيوز عربي الحجز في 15 مطعما راقيا في مختلف أنحاء القاهرة، وهي مطاعم تعرضت عبر الإنترنت إلى أكثر الاتهامات بممارسة التمييز ضد المحجبات". 

وأضاف أن "غالبية الأماكن طلبت الاطلاع على حسابات وسائل التواصل الاجتماعي لكافة الضيوف، و11 من الأماكن التي ردت علينا قالت إن أغطية الرأس (الحجاب) غير مسموح بها". 

وأوضح التحقيق أنهم قاموا بإرسال فردين متنكرين في صورة رجل وزوجته المحجبة، إلى بعض هذه الأماكن التي أخبرتنا بأنها لا تسمح بدخول النساء المحجبات، وبالفعل لم يسمح لهم بالدخول على الإطلاق. 

وأورد أن أحد المطاعم الراقية في منطقة "مصر الجديدة" بالقاهرة، رفض طلب دخول الفريق (المتنكر)، ولكن بعد الاعتراض، أدخلهم إلى المطعم، ولكن فرض عليهم أن يجلسوا في زاوية بعيدة. 

وبرر المدير ذلك بقوله: "هذه تعليمات وزارة السياحة، وإذا وجدوا امرأة محجبة فسيفرضون علينا غرامة".

وربما يبرر التعليق الأخير من مدير المطعم، أن حالة الرفض والتمييز ضد الحجاب، نابعة من النظام نفسه، الذي أعطى تعليمات مشددة بعدم ارتياد شريحة معينة، لبعض الأماكن. 

ووصل الأمر بحسب بي بي سي إلى قطاع العقارات، وضرب المثل بشركة "لافيستا" المصرية للتطوير العقاري، وهي من الشركات الكبرى في السوق. 

وأشار التقرير إلى أن هذه الشركة تضع قيودا على النساء المحجبات الراغبات بشراء شقق في القرى السياحية. 

والشركة لديها مشاريع راقية في القاهرة وعدد من المناطق الساحلية، وكلها باتت محرمة على المحجبات ومن ثم الشريحة المحافظة. 

تصريحات فجة 

تلك الحالة القائمة من التمييز، ترجع إلى سياسة نظام السيسي، الذي طالما سعى إلى ربط المتدينين ورواد المساجد بـ"الإرهاب" عبر تصريحاته المستمرة في مؤتمراته ووسائل الإعلام.

ففي يوليو/ تموز 2016 وبحضوره، نفذت طائرات حربية مصرية مناورة تحاكي عملية لـ"محاربة الإرهاب" تضمنت قصف مجسم مسجد بحجة أنه يؤوي إرهابيين، واستخدمت في المناورة مروحيات عدة من أنواع مختلفة، إضافة إلى مجموعات قتالية من وحدات المظلات.

وربط رئيس النظام المصري بين الإسلام والتطرف، أثناء مقابلة مع شبكة "سي إن إن" الأميركية، في سبتمبر/ أيلول 2016، حين وافق على استخدام مصطلح "التطرف الإسلامي".

وقال: "نعم إنه تطرف، إنه حقا تطرف إسلامي ينبغي مواجهته، وأنا إنسان مسلم وصعب علي جدا إني أقول هذا، لكن هذه الحقيقة".

وقبل شهر من "مذبحة المسجدين" في مدينة "كرايستشيرش" النيوزيلندية، وتحديدا في فبراير/ شباط 2017، دعا السيسي في خطابه أمام مؤتمر ميونيخ للأمن، الأوروبيين إلى مراقبة المساجد في الغرب، وحثهم على "الانتباه لما ينشر في دور العبادة الإسلامية".

وهو ما أغضب شريحة واسعة من المجتمع الإسلامي في مصر والعالم والعربي، وسط اتهامات للسيسي، أنه من أسباب انتشار الإسلاموفوبيا في الغرب. 

وفي 29 أبريل/ نيسان 2017، قال السيسي "إنه ظل يؤدي الصلوات الخمس في المسجد لمدة تزيد عن 30 عاما، دون أن يسمح لأحد من أبنائه بمشاركته أو دخول المسجد".

تلك التصريحات عدها البعض مسوغا لفرض حالة تمييز ضد كل ما هو إسلامي أو محافظ عموما، سواء محجبات أو من تبدو عليهم مظاهر تدين، وبالتالي انتشرت ظاهرة الإقصاء، التي بدأ المجتمع عموما يدفع ثمنها. 

حصاد مر

وفي 15 أغسطس/ آب 2021، كشفت دراسة صادرة عن جامعة عين شمس الحكومية بالقاهرة، عن ارتفاع معدل الجرائم بشكل لافت في مصر.

أوضحت أن قضايا القتل والعنف الأسري والزوجي والتحرش وجرائم الشرف، جعلت مصر تحتل المركز الثالث عربيا، والـ24 عالميا في جرائم القتل، بحسب تصنيف "ناميبو" لقياس معدلات الجرائم بين الدول.

وذكرت الدراسة أن جرائم القتل العائلي وحدها باتت تشكل نسبة الربع إلى الثلث في إجمالي جرائم القتل. 

ولا يكاد يمر يوم في مصر إلا وتنشر الأخبار عن جرائم عنف بالشارع، ما بين شجار أفضى إلى موت لاعتداء بآلات حادة وقتل عمد.

حتى وصل الأمر حد الذبح وسط المارة في وضح النهار، مثلما ذبح شاب جامعي، زميلته الطالبة نيرة أشرف، في يونيو/ حزيران 2022، أمام حرم جامعة المنصورة (وسط الدلتا) في وضح النهار، وهي جريمة أثارت غضب الرأي العام، وتبعتها سلسلة جرائم مشابهة. 

ولا يقف الأمر على الجريمة فقط، بل التفكك المجتمعي، وانهيار الأسرة، ففي 6 يونيو/ حزيران 2022، أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (رسمي)، تقريرا أكد خلاله ارتفاع عدد شهادات الطلاق في مصر إلى 222 ألفا، بنسبة زيادة بلغت 12 بالمئة، بمعدل 26 حالة طلاق كل ساعة.

فيما انخفض عدد عقود الزواج إلى 876 ألفا، بنسبة انخفاض بلغت 10 بالمئة، بمعدل 101 عقد زواج كل ساعة.

وذكر المتحدث باسم مجلس الوزراء نادر سعد أن حوالي 20 بالمئة من حالات الزواج السنوي في البلاد تنتهي بالطلاق.

وفي لقاء تلفزيوني أكد أنه من بين 980 ألف زواج سنويا، يفشل 198 ألفا قبل السنة الثالثة، وهي نسبة كبيرة للطلاق المبكر تتجاوز 20 بالمئة.

تلك الأرقام الصادمة دفعت للتساؤل عن خطورة استمرار تلك الأوضاع، خاصة أنه لا يوجد معيار لوقف الحالة القائمة، إضافة إلى اتجاه عكسي يفضي إلى سحق المبادئ، والطبقات المحافظة التي تمثل الشريحة المتوازنة للمجتمعات. 

معيارية (دور كايم) 

وفي قراءته للمشهد، أكد أستاذ علم الاجتماع الدكتور محمد مندور، لـ"الاستقلال"، أن ما يحدث في مصر من حرب على المحافظين، نتاج هزيمة تعيشها الدولة والمجتمع، وهي ليست حربية وإنما شاملة.

وأوضح مندور أن حالات الانحدار الأخلاقي والفشل المجتمعي والأزمات الاقتصادية والسياسية، إنما هي هزيمة تشبه النكسات العسكرية، وأحيانا توابعها تكون أشد وأقسى. 

وقال: "عندما تحدث مؤسس علم الاجتماع الحديث، العالم الفرنسي (إميل دوركايم) عن الاهتمام بالقضايا الأخلاقية، كان يعدها عنصرا أساسيا في بناء المجتمعات، وأن تدني قوة الأخلاق العامة تؤثر على الفرد والمجتمع، لأنها جعلت الإنسان عبدا لشهواته وغرائزه". 

وأضاف: "من المثير أن (دوركايم) عد اللامعيارية (عدم خضوع الإنسان لمعايير) للأفراد، بمثابة المرض، وأنه عندما لا تكون هناك قيود أخلاقية، فلن يكون هناك مفهوم واضح عما هو صحيح ومقبول كسلوك وما هو غير ذلك".

وتابع: "وبالتالي فإن المجتمع يواجه مع الوقت خطرا داهما، لأن كل القيم والمعايير والسلوكيات المقبولة تدخل في طور التحلل الكامل، وبالتالي ينتج إنسان جديد قابل لسحق كل قيمة وأخلاق رفيعة". 

ولفت مندور إلى أن "هذا الإنسان بدأ يتزايد في مصر، ولا يقف الوضع عند هذا الحد، بل بدأت اللامعيارية واللاقيمية تطغى على المجتمع، يكون لها الائتلاف الخاص بها، بل وتكاد تشرع لنفسها قانونا منفصلا يكون هو السائد، فيحارب الحجاب والالتزام والدين عموما لأجلها".

وهو وضع يتخطى حتى العلمانية المناهضة للدين أو المتطرفة، التي تحدث عنها الدكتور عبدالوهاب المسيري، إلى وضع لا نمطي، يجعل للقوة وقدرة التحكم الهيمنة الكاملة، وبالتالي فإنه من المعروف أن لكل موجة رد فعل معاكس في الاتجاه مساوٍ في المقدار"، يوضح الخبير المصري.

وشدد مندور على أنه "سينتج عن هذا مستقبلا موجة دينية متطرفة، ستملك قوتها، وتفرض إرادتها، وهذا مكمن الخطورة، أن يتحول المجتمع إلى طبقي متصارع من أجل الأفكار والدين والقيم". 

خسائر حتمية 

وفي السياق ذاته، أكد الأستاذ بجامعة الأزهر الدكتور محمد أبو زيد، لـ"الاستقلال"، أن كل مجتمع له رصيد من القيم الأخلاقية تحكمه وتكون القاعدة الراسخة لتوازنه بجوار القوانين والدساتير.

وأضاف: "فإذا ما اختلت تلك القيم ينسلخ المجتمع وتحدث بداخله فجوات ضخمة، ينتج عنه اختلالات تتمثل في استفحال جرائم لم تكن موجودة من قبل، وانتهاكات أخلاقية خطيرة لم تكن معروفة للأجيال السابقة". 

وأوضح أبو زيد أن "هذا الأمر لا يقتصر على المجتمعات الإسلامية فقط، بل في معظم المجتمعات المتقدمة في العالم التي طغت عليها المادية.

ومضى يقول: "فمثلا في الولايات المتحدة توجد قيم ومبادئ (الآباء المؤسسين)، وما زالت قائمة وتدرس ويعتد بها، على الأقل لا تحاربها الدولة أو تسعى لإبادتها وتبديلها، لأنها في النهاية تظل القاعدة التي يمكن الرجوع إليها وحماية المجتمع من خلالها". 

"الدين في مصر يمثل ذلك العامل سواء (إسلامي) أو (مسيحي)، يضيف أبو زيد، وينطلق من دور المسجد والكنيسة في إعداد الفرد، وتشريبه الأحكام الأخلاقية المناسبة.

وتابع: "والهدف أن يكون فردا صالحا داخل المجتمع، فوقتها تقل أزمات البيوت مثل الضرب والطلاق، وتقل جرائم القتل وجرائم الشرف، إضافة إلى أمور أخرى كبر الوالدين، وصلة الرحم، ومساعدة الفقراء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". 

وأوضح أن "حرب الدولة على المنظومة المحافظة والدينية ستؤدي بها إلى النهاية، لأن أصل الدولة القوية في مجتمع ثابت وقوي، لا مجتمع ضعيف ومتفكك، فالسعي إلى الانفكاك عن القيم، وبناء تجمعات سكنية وعمرانية على أساس الحداثة البعيدة عن الدين، ستخلق طبقات متصارعة، سيأتي يوما وتأكل بعضها بعضا بلا هوادة". 

فمصر منذ عهد الفراعنة مرتبطة بالأخلاق والمحافظة كأساس لمجتمعها، وظهر هذا فيما كتب على الحوائط والجدران وداخل المعابد، وفي أوراق البردي، وعلى قبور الملوك القديمة، يشرح الأستاذ المصري.

وزاد: "كل ما كتب كان يؤكد أن الحركة الفكرية والاجتماعية في مصر مرتبطة بالدين والقيم، وهذا جزء من شخصية مصر كما كتب عالم الجغرافيا العظيم جمال حمدان رحمه الله في موسوعته (شخصية مصر)". 

واختتم بالقول: "لا يمكن أن ننفك عن ذلك التاريخ، وعن هويتنا وديننا في عارض زمني غير متوقع، وأظن أن نداء التاريخ يستجاب له في وقت ما، حدث هذا كثيرا، في مصر الناصرية، وفي تركيا بعد سقوط الخلافة، وفي تونس بورقيبة، وفي اليمن الجنوبي (الشيوعي)، وانتهت تلك الدول، وعادت الشعوب إلى أصولها مرة أخرى".