أعلن فشلهم ودعا لعودة المدنيين.. لماذا قفز حميدتي من مركب عسكر السودان؟

12

طباعة

مشاركة

عندما أطاح الجيش السوداني برئاسة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، بحكومة عبد الله حمدوك في أكتوبر/ تشرين الثاني 2021، كان ذلك تحت دعوى "منع انقسام البلاد، وجرها نحو الفوضى، ولتصحيح مسار المرحلة الانتقالية". 

لكن بعد أشهر من تلك الإجراءات ازداد الانقسام على جميع الأصعدة، ووصل إلى داخل المكون العسكري في مجلس السيادة الانتقالي الحاكم، وكان بطل ذلك الانقسام نائب رئيس المجلس، محمد حمدان دقلو "حميدتي".

وأدلى حميدتي بتصريحات صادمة عن الوضع القائم، إذ عبر من طرف واحد عن ندم العسكريين في التورط في الخطوة التي أسموها "تصحيح المسار" بينما أسماها خصومهم "انقلابا عسكريا". 

ذلك الطرح أفرز عددا من الأسئلة عن واقع السودان المعقد، وهل تصريحات حميدتي جادة أم مناورة سياسية؟ وهل سببها خلافات جوهرية مع البرهان وجنرالات الجيش؟ ولماذا عاد حميدتي إلى الجنينة في دارفور واستقر بها أخيرا؟ 

تصريحات صادمة 

في 2 أغسطس/ آب 2022، أعلن حميدتي الذي يشغل منصبي نائب رئيس المجلس السيادي السوداني وقائد قوات الدعم السريع "الجنجويد"، فشل الحكم العسكري في السودان. 

وقال في تصريحات لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي): "للأسف الشديد، نحن لم ننجح في التغيير، لأسباب لن أتحدث عنها الآن، عندما تفكر في التغيير يكون لديك هدف ورؤية للتغيير. لكن للأسف الشديد لم يتم الشيء الذي كان مخططا له، وفشل الأمر، والآن سرنا نحو الأسوأ". 

ثم دعا حميدتي سائر القوى السياسية للاتفاق على حكومة كفاءات مستقلة تمثل القوى كافة في البلاد للخروج من الأزمة.

وأكد أنه سيدعم أي شخص مدني يرغب في التقدم لقيادة البلاد، على حد وصفه. 

وجاءت تلك التصريحات بعد أيام من بيان أصدره حميدتي، قال فيه "إن المجلس السيادي قرر ترك الحكم للمدنيين وتفرغ الجيش للمهام الوطنية".

ودعا كل القوى السياسية والثورية للإسراع في الوصول لحلول عاجلة تؤدي إلى تشكيل مؤسسات الحكم الانتقالي، حيث أن انتشار الصراعات القبلية، وإراقة الدماء، والكراهية والعنصرية ستقود للانهيار.

وزاد حميدتي، أؤكد التزامي بالعمل مع الجيش السوداني، والعمل على إصلاح المنظومة العسكرية والأمنية وتنفيذ اتفاق جوبا لسلام (اتفاق سلام مع الحركات المسلحة في أكتوبر 2020).

وأثار حميدتي حالة من الصدمة والجدل في 22 يوليو/ تموز 2022، عندما تحدث نيابة عن مجلس السيادة، وقال "قررنا معا إتاحة الفرصة لقوى الثورة، والقوى السياسية الوطنية، بأن يتحاوروا ويتوافقوا، دون تدخل منا في المؤسسة العسكرية".

ورغم أن قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، والجبهة الثورية، وعددا من القوى السياسية الأخرى، رحبوا بتصريحات حميدتي، لكنه خلف أحاديث عن خلافات جوهرية مع الجيش، تحديدا البرهان. 

خلافات عميقة 

حميدتي ليس بالرجل العادي فهو الثاني في تراتبية الحكم، ومع ذلك لم يتردد في وسم إجراءات البرهان بالفشل. 

لكن أبعاد الخلاف بين البرهان وحميدتي ليست وليدة اللحظة، أو في كينونتها هي بين شخصين متفردين. 

لكنها خلافات مؤسسات منذ البداية، فقادة الجيش يمارسون ضغوطا على قائد الجيش لإبعاد قوات الدعم السريع التي يقودها حميدتي.

ويحاولون تحجيم دورها، لأنها قوات خارجة عن سلم الرتب والهيكلة الطبيعية للجيش، ويرونها مجرد مليشيات (الجنجويد) تم تدجينها خلال عهد الرئيس المعزول عمر البشير. 

في حين يحاول حميدتي توسيع نفوذ قواته على الصعيد الأهلي والنظامي. 

وأطلق في 19 يونيو/ حزيران 2022، تصريحات حادة، أبرزها تهديده بالتوزيع اللا مركزي لكل القوات النظامية، في خطوة غير مسبوقة منذ الإطاحة بنظام البشير في 11 أبريل/نيسان 2019، تعني فرط عقد الجيش.

وعزا حميدتي هذا التهديد إلى وجود عملية ممنهجة وأجندة تستهدف قوات الدعم السريع على وجه الخصوص، ما أثار مخاوف بشأن وقوع تصادمات بين العسكريين تمهد لتفكيك جيش السودان.

ولم تقف مفاجآت حميدتي عند هذا الحد، بل أتبع حديثه بإعلان آخر مثير للجدل عندما أشار إلى تفعيل الخدمة الإلزامية من أجل "الاستفادة من الشباب وتدريبهم، وبسط هيبة الدولة وتطبيق القانون على كل المتفلتين"، على حد وصفه. 

والخدمة الإلزامية معروف أنها من حق الجيش وحده، ولا تقوم به قوة خاصة أو مؤسسة عسكرية تابعة للقوات المسلحة. 

ولا يمكن إغفال ما وقع يوم 24 أغسطس 2020 حين وقف البرهان بالمنطقة العسكرية شمال الخرطوم مخاطبا الجنود: "هناك حملات تستهدف تفتيت القوات (النظامية) السودانية، هناك محاولات حثيثة لإيقاع فتنة مع الجيش".

وتركت هذه التصريحات والأفعال انطباعا بأن الخلافات المكتومة حتى الآن بين الجيش والدعم السريع، على وشك الانفجار. 

قلعته الحصينة 

منذ يونيو/حزيران 2022، يتواجد حميدتي في إقليم دارفور، الذي يعد مسقط رأسه وقلعته الحصينة، ومركز قواته الرابضة. 

وذلك بزعم إجراء مصالحات بين المجموعات الأهلية هناك، غير أن تقارير سودانية تشير إلى أنه ذهب إلى دارفور غاضبا بسبب خلافات قوية مع قادة الجيش.

وأكد حميدتي في تصريحات أنه سيبقى في دارفور 3 أشهر قبل أن يعود للخرطوم، وهو ما أثار علامات الاستفهام حول خطط الرجل. 

وسرعان ما تكشفت الأمور مع الرسائل النارية التي بعثها من دارفور، وأشعلت المسرح السياسي السوداني، أكثر مما هو مشتعل. 

وجاءت الحادثة التي وقعت في دارفور، وأكدت على وجود خلافات بين المكونات العسكرية، إذ قال حميدتي أمام جنود من الدعم السريع في 12 يوليو 2022، إن "قائدكم أصبح قائدا للمدرعات في السودان، قبل أن يعود متهكما، أتكلم عن مدرعات الدعم السريع وليس مدرعات أخرى". 

ثم تباهى حميدتي بقواته وبقدراتها الخاصة، قائلا: "نشيد بكم إشادة كبيرة جدا لأنكم لم تقصروا، حافظتم على سلاحكم ليعمل بكفاءة عالية رغم أنه قديم".

ثم أوصاهم بمواصلة التدريبات على كل أنواع الأسلحة، ووعد بحل مشاكلهم كافة، وأضاف مخاطبا قوات المدرعات بمليشياتكم: "صبرتم صبرا لا يطيقه أحد، ونحن معكم ولن نقصر، ولو أردتم دمنا لأعطيناكم إياه".

وتبلغ قوات الدعم السريع زهاء 40 ألفا، متترسين بأسلحة ومعدات ثقيلة ومتوسطة، 10 آلاف منهم كانوا محصنين في قلب العاصمة الخرطوم. 

ويخشى من تفجر صراع بين تلك القوات وغيرها من قوات الجيش، ما ينذر بعواقب وخيمة على السودان بأكمله.

شمشون السودان 

وفي قراءته للمشهد، وصف عضو حزب الأمة السوداني ياسين الطاهر، حديث حميدتي الأخير بأنه أشبه ما يكون بـ"شمشون" الذي هدم المعبد عليه وعلى أعدائه. 

وقال  لـ"الاستقلال": إن تصريحات قائد قوات الدعم السريع الأخيرة، وسلوكه خلال الأيام الماضية يعطي دلالة على مدى تفاقم الخلافات وتصاعدها داخل المكون العسكري. 

وأوضح الطاهر أن الوضع بينه وبين قيادات الجيش الأخرى وصل إلى درجة لا يمكن تداركها، فعمد إلى إخراج ما لديه كنوع من الحرب الباردة بينه وبين عبدالفتاح البرهان وفريقه. 

وأضاف أن "الخلافات المفصلية بين حميدتي وبقية العسكريين جلية منذ اللحظات الأولى للإطاحة بالبشير، فحميدتي رفض أن ينخرط في المجلس السيادي إلا بعد الإطاحة بالفريق أول عوض بن عوف، الذي كان من المقربين للبشير".

وتابع: "وبعد الإطاحة ببن عوف، دخل المجلس كنائب لرئيسه، لكن يتمتع باستقلالية واضحة، ونفوذ وقوة منفصلة تتمثل في قواته المنتشرة في عموم السودان". 

ولفت الطاهر إلى أن "هناك مشكلة أساسية أخرى بين حميدتي والجيش، وهي مسألة فض اعتصام القيادة العامة، تلك المجزرة المتورطة فيها قواته، فهو يرفض تحمل مسؤوليتها ومحاكمة ضباطه المشاركين فيها، وكذلك يرى أن القوات المسلحة تضغط عليه فيها". 

وأكمل: "المشكلة الثانية في طبيعة دمج قواته داخل الجيش وإعادة هيكلتها، وهو ما يرفضه شكلا ومضمونا، بينما يرى كبار القادة أن بقاء الدعم السريع بهذه الطريقة، خطر على الأمن القومي السوداني، وقد يتسبب مستقبلا في اندلاع حرب أهلية، كما حدث في دارفور". 

و"بسبب هذه التفاصيل قفز حميدتي من مركب العسكر، ورأى أن يحدث توازنا بدعم المدنيين أو قوى الحرية والتغيير، ويتسبب في إحراج البرهان وبقية المكون العسكري"، يوضح السياسي السوداني.

وأضاف: "ظهر هذا في التصريحات الأخيرة، وفي خلافه الموازي مع الحركات المسلحة، ويظهر منه أن حميدتي هو المبادر أولا والبقية ردة فعل، والجميع ينتظر النتائج".