رغم حملات التشويه.. ما سر تصاعد نسبة التدين بين الشباب بالعالم العربي؟
يسير الشباب العربي بقوة نحو التدين، في مفارقة كبيرة، رغم صعود نجم دعاة العلمانية في البلدان العربية أخيرا وسماح الحكومات لهم باعتلاء المنابر الإعلامية والصحفية.
استطلاع رأي أجرته بين أواخر 2021 وربيع 2022، شبكة "البارومتر العربي" لصالح شبكة "بي بي سي" البريطانية، في تسع دول عربية، كشف عن تحول كبير لدى الشباب العربي نحو التدين.
وجاء ذلك في نتيجة تخالف مخرجات استطلاع سابق للشبكة عن ذات الموضوع نشر عام 2019. ويأتي هذا رغم تراجع دور الدعاة وتشويه العلماء والنيل من الرموز الإسلامية والتشكيك بكثير من الثوابت.
نتيجة الاستطلاع
نتيجة الاستطلاع الجديد الذي نشرته الشبكة في 11 يوليو/تموز 2022، أشار إلى حالة من التحول الكبير نحو التدين في سبع دول عربية من أصل تسعة جرى فيها ليشمل نحو 23 ألف شاب.
دول تونس، وليبيا، والمغرب، والسودان، ومصر، والأردن، وفلسطين، شهدت جميعها تراجعا في عدد من وصفوا أنفسهم بغير المتدينين من كل الفئات العمرية. وشهدت تونس التراجع الأكبر بنسبة 15 بالمئة.
وبالمقارنة بنسبة 46 بالمئة عام 2018 فإن 31 بالمئة فقط من الشباب التونسي يقولون بالاستطلاع الجديد إنهم غير متدينين، بينما يصف نحو الثلثين منهم أنفسهم بالمتدينين.
المغرب شهد ثاني أكبر معدل انخفاض في عدد الشباب الذين وصفوا أنفسهم بأنهم غير متدينين.
إذ إنها ووفق الاستطلاع الجديد حققت انخفاضا بنسبة 7 بالمئة، تليها مصر بانخفاض إلى 6 بالمئة من 18 بالمئة باستطلاع 2018.
ليبيا، أيضا شهدت انخفاضا في أعداد غير المتدينين من 36 بالمئة عام 2018 إلى 30 بالمئة عام 2022، بنسبة 6 بالمئة، فيما تراجعت نسب غير المتدينين بنحو 4 بالمئة عن استطلاع 2018، في فلسطين، والأردن، والسودان.
لكن، ووفق الاستطلاع الجديد ارتفعت نسب من هم تحت سن الثلاثين ممن يصفون أنفسهم باللا تدين في لبنان من 17 بالمئة عام 2018 إلى 30 بالمئة في 2022.
فيما شهد العراق ارتفاعا في نسب غير المتدينين بنسبة 1 بالمئة، من 9 بالمئة إلى 10 بالمئة في الاستطلاعين.
وكانت الشبكة قد أجرت استطلاعا مماثلا أواخر 2018 وربيع 2019، نشرته في يوليو 2019، شمل الفئة نفسها من المبحوثين، ووجهت إليهم نفس الأسئلة.
لكن الإجابات كانت مختلفة للغاية، ليكشف الاستطلاع قبل نحو 4 سنوات أن عددا متزايدا من العرب أداروا ظهرهم للتدين وممارسة الشعائر الدينية.
الاستطلاع، الذي شارك فيه حينها حوالي 25 ألفا من 11 دولة، أكد أن "عددا متزايدا باطراد من العرب يديرون ظهورهم للدين والتدين"، وأنه منذ عام 2013 ارتفعت نسبة الذين يصفون أنفسهم بأنهم "غير متدينين" من 8 بالمئة إلى 13بالمئة.
وهو ما أرجعه حينها مراقبون لتأثير انتكاسة ثورات الربيع العربي، وانخفاض طموح الشباب وآمالهم.
وحينها وصف ثلث المستطلعة آراؤهم من التونسيين، وربع الليبيين أنفسهم بغير المتدينين، وتضاعف حجم هؤلاء في مصر مرة واحدة، إلا أنه في المغرب تضاعف حجمها 4 مرات، وفق نتائج الاستطلاع.
وأكد الاستطلاع أن اليمن انخفضت به نسبة غير المتدينين من 12 بالمئة عام 2013 قبيل اندلاع الحرب في البلاد إلى 5 بالمئة عام 2019.
وفي الاستطلاعين جاءت الأسئلة عن ممارسة الشعائر الدينية مثل أداء الصلاة وقراءة القرآن بانتظام، وعن تولي المتدينين المناصب العليا ببلادهم، وتأثير رجال الدين على القرارات الحكومية، ومن أين يجب أن تستمد قوانين بلدانهم، فضلا عن رأيهم بتعليم الدين في المدارس.
إلا أن ما يكشفه الاستطلاع الجديد عن زيادة نسب التدين بين الشباب في سبعة بلدان عربية من تسعة، يدعو لطرح التساؤل عن الأسباب المباشرة في تصاعد عدد المتدينين الشباب وتراجع عدد غير المتدينين؟
متحدثون أكدوا لـ"الاستقلال"، أن هذا التغير مبشر وهو الوضع الطبيعي وبداية لموجة تدين بعد ارتداد إثر انتكاسة الربيع العربي والانقلاب العسكري في مصر.
وأشاروا إلى أن موجة عدم التدين لها أسبابها، وأن عودته للشارع العربي وفق الاستطلاع تعني انتصار المجتمعات العربية على العلمنة وتشويه الدين، وأنها في طريقها لإنهاء حملات الإباحية والشذوذ الجنسي والعلاقات خارج إطار الزواج.
اتساق مع الفطرة
ويرى الأكاديمي المصري وأستاذ الفقه المقارن عطية عدلان، أن "الارتفاع في أعداد المتجهين للتدين هو الوضع الطبيعي الذي يمثل الخط الصاعد للإسلام، بسبب إفلاس الحضارة المعاصرة وبقاء الإسلام قويا في ذاته، وفي اتساقه مع الفطرة".
وأضاف لـ"الاستقلال": "أما ما حدث بعد صدمة الانقلاب العسكري في مصر 2013 على ثورات الربيع العربي من تراجع في أعداد المتدينين في المجتمع العربي فكان استثناء بسبب تراجع الأداء المنتظر من التيار الإسلامي".
وأكد عدلان، أنه لا شك أن توجه الشباب العربي نحو التدين، يؤكد فشل حملات تشويه الإسلام وعلماء الدين ويرد على موجات العلمانية المنتشرة، والإباحية والشذوذ الجنسي والفكري وغيرها من الآفات.
وقال إن "فشلها جميعها قديم ودائم في المجتمعات العربية والإسلامية؛ ولكنها فقط على وجه الاستثناء استطاعت عقب صدمة الانقلاب أن تحقق بعض النجاحات المؤقتة بسبب الانهيار النفسي والعصاب الجماعي الذي أصاب الناس وقتها".
وخلال السنوات الماضية ومنذ الانقلاب العسكري الذي قاده قائد الجيش المصري سابقا ورئيس النظام حاليا عبدالفتاح السيسي 3 يوليو 2013، ضد أول رئيس مدني منتخب ديمقراطيا في مصر الرئيس الراحل محمد مرسي، انتهت حلقة صعود موجة التدين في مصر، وفق مراقبين.
ومع صعود نجم السيسي تصاعدت موجات تشويه علماء السلفيين وغيرهم، وجرى سجن العشرات من الدعاة ومشايخ الأزهر بتهم الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين.
وهو أمر قابله ظهور حملات علمانية تتناول بعض كتب التراث وعلماء الإسلام وقادته بالنقد والتشويه وخاصة "صحيح البخاري".
تلك الحملة امتدت لتنال الأزهر الشريف والحجاب، وسط دعوات للإلحاد والإباحية والعلاقات خارج إطار الزواج "الزنا"، بل والدفاع عن ما يدعونه حقوق الشواذ جنسيا، وهو ما تزامن مع مخاوف الكثيرين من الشباب من إعلان تدينهم خوفا من القمع والبطش الأمني والاعتقال.
قاد تلك الحملة في مواقع وفضائيات مصرية، الكاتب سيد القمني، وإبراهيم عيسى، وإسلام بحيري، وخالد منتصر، وفاطمة ناعوت، وغيرهم، وهي الحالة التي انتشرت في العديد من البلدان العربية.
ورغم صعوبة رصد نسب الملحدين في البلدان العربية فإنهم وخلال السنوات السابقة أعلنوا عن أنفسهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بشكل مثير.
فيما رصد موقع "فيتو" المحلي في 30 يونيو/حزيران 2020، نحو 100 حساب يحمل اسم "ملحد" و"ملحدون" يتابعها 10 آلاف و505 أشخاص.
وبحسب تقرير نشره موقع "المنصة" في 28 يونيو 2017، فإن هناك 10 آلاف ملحد تقريبا بالمغرب، لافتا إلى أن "تحالف الإلحاد الدولي" يزعم أن عدد أعضائه العرب تزايد بعد ثورات الربيع العربي وهناك 221 تونسيا، و333 مصريا.
لكن، دار الإفتاء المصرية قالت في يناير/كانون الثاني 2014، إن هناك نحو 866 ملحدا بالبلاد.
وفي بحث أجراه "معهد غالوب" الدولي عام 2012، فإن نسب الملحدين بالسعودية بلغت 6 بالمئة، وهو رقم شككت فيه سلطات المملكة.
واختفت الكثير من مظاهر التدين في الشارع العربي، ومنها في مصر على سبيل المثال غياب الدروس الدينية في المساجد وانتهاء ظاهرة افتراش الآلاف الشوارع الجانبية للمساجد خلال تلك الدروس، وهي الحالة التي منعتها وزارة الأوقاف المصرية بدعوى محاربة الإرهاب.
لكن، وفي تعليقه على نتيجة الاستطلاع الجديد، قال أستاذ أصول الدين والدعوة محمد عزب: "يأتي هذا التقرير الميداني ليكشف أن موجات القصف الفكري، وموجات الإلحاد العاتية، التي أحدثت ضجيجا لا يوصف، ثبت أنها تتمدد في فراغ".
وأضاف لـ"الاستقلال": تبين أنها "تبنى على شفا جرف هار، وأن الأموال المرصودة والمساحات التي خصصت لها إعلاميا وسياسيا وعلى مستوى الكتابة والثقافة والأعمال الفنية، تحرث الماء، وتطحن الهواء".
"كما يبث هذا التقرير الميداني الصادر عن مؤسسة غير متهمة بالتحيز، الأمل في نفوس المتصدين للانحراف، العاملين على بقاء المشترك الإنساني الأخلاقي قائما بين الأمم والشعوب والثقافات"، بحسب عزب.
ويعتقد أن "التيارات التي تحاول جاهدة للنيل من الدين، لم تقدم شيئا على مستوى التقدم، وما زادت معها الشعوب إلا هوانا ورجعية وتخلفا.
فضلا عن كون خطابها يفتقر للجدية، وتنقصه النزاهة والتحقيق، وكون المتصدين لهذا الخطاب ليسوا من أولي الجادة، وأصحاب مشروعات فارغة تسقط تباعا كلما شيدوا لها أسوارا أو اختطوا لها البنايات، وفق تعبيره.
ولفت إلى أن "الدول التي كان يُعول عليها في تمكين الانحراف، وإسقاط سلطة الدين من النفوس هي التي توجه اللطمة الكبيرة لمنظمات الإلحاد، ولرواد التغريب.
ولا شك أن هذه بارقة أمل لكل الذين يقولون: (متى نصر الله؟)، فكأن التقرير يرد عليهم: (ألا إن نصر الله قريب)، كما قال عزب.
رد فعل عكسي
وفي رؤيته لأهم أسباب عودة الشباب العربي إلى التدين وفقا لنتائج الاستطلاع، يرى الباحث مصطفى خضري رئيس المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام "تكامل مصر"، أن الهجوم على الدين والتدين بالبلدان العربية أحدث رد فعل عكسي بزيادة التدين.
وقال لـ"الاستقلال": "هذه طبيعة الدين الإسلامي لأنه دين يناسب الفطرة البشرية السوية، وهذا يستحث أصحاب الفطر السوية الذين جرى إغواؤهم للبعد عن الدين بالرجوع إليه".
ويتوافق خضري مع الرأي القائل بأن إدراك الشباب أن توجهات الحكومات العربية ودول الغرب هي إبعادهم عن الدين، ولذا فإنه قام برد فعل عكسي وعقابي لتلك الأنظمة.
وأكد أن "الخلفية التي تتحكم في النظام العالمي حاليا تنتهج النموذج المعرفي العلماني الغربي بتطوراته (الحداثة وما بعد الحداثة) وبشقيه المجتمعي (الحرية المطلقة) والاقتصادي (الرأسمالية المتوحشة)، وهو نموذج مضاد للنموذج المعرفي الإسلامي".
"ولما كان دعاة النموذج العلماني يقودون النظام العالمي حاليا، ويدعمون الديكتاتوريات الحاكمة للدول العربية؛ فقد ارتبطت معارضة هذه الأنظمة بمعاداة النموذج المعرفي الغربي، وبالتالي العودة لمظلة النموذج المعرفي الإسلامي"، بحسب الخبير في التحليل المعلوماتي وقياس الرأي العام.
وفي رؤيته لعلاقة هذا التغير بالواقع السياسي العربي والاقتصادي والاجتماعي، وكيف أحدث ذلك حالة من العودة إلى التدين لدى الشباب، قال: "ارتبطت ظاهرة السوشيال ميديا بزيادة مساحة المعرفة بالتاريخ الإسلامي نظرا لنشاط الكثير من شباب المسلمين وعلمائهم بنشر هذا التاريخ الذي كان مصدر عز لكل المسلمين".
وتابع: "ولما كانت المقارنة حتمية بين حال الدول العربية في ظل ديكتاتورية حكامها المدعومين من النموذج المعرفي العلماني وبين تاريخها في ظل النموذج المعرفي الإسلامي تصب في صالح الأخير اقتصاديا وعسكريا وتنمويا وعلما وتطورا؛ فقد أصبح الطريق واضحا جليا".
وبين أن هذا الطريق يتمثل في أن العودة للإسلام شريعة ومنهاجا هو السبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع الذي جعلنا تابعين بعد أن كنا قادة الأمم.
وعن سر عودة الشباب للتدين رغم حملات تشويه الإسلام وعلماء الدين وموجات العلمانية والإباحية والشذوذ، يعتقد خضري، أن "تلك الممارسات والأفكار تعارض الفطرة البشرية السوية ودائما ما ينتج عنها كوارث مجتمعية".
ولفت إلى أن "كثيرا من الدول العلمانية الغربية بدأت في معارضتها أو تقنينها أو تجريمها كنوع من الحفاظ على مجتمعاتهم.
وبرغم ذلك فإنهم يصدرونها للمجتمعات العربية والإسلامية كنوع من الحروب الناعمة "لتدميرنا من الداخل وتفتيت نسيجنا المجتمعي".
وختم بالقول: "لذلك فإن وجود الحد الأدنى من العقل والفطرة عند أي شاب تجعله يدرك الطريق الصحيح بغض النظر عن أي حملة تشويه أو تشهير أو توجيه".
وفي رؤيته، قال الباحث المصري محمد عزب: "التدين في المفهوم الغربي: كل شخص يؤمن بذات إلهية أو مثلا المتدين من يزور الكنيسة مرة أسبوعيا".وفي حديثه لـ"الاستقلال"، أضاف: "لا نريد أن نطمئن أنفسنا بأن الأمور على ما يرام، وينبغي الالتفات إلى نوعية هذا التدين، ودرجة جودته، وتماشيه مع صحيح الدين، أم أنه صنف مغشوش ضرره أكبر من نفعه".
ويرى أن "الحكم على معدلات التدين من خلال التجربة المصرية وظروفها الاستثنائية يجب ألا ينسحب على باقي الأقطار، ففي الحالة المصرية نستطيع تلخيص أسباب عدم تراجع معدل التدين بين الشباب المصري، في عدة نقاط".
عزب، أشار "أولا لطبيعة المصري الذي لم تفلح خطط الاستعمار الإنجليزي في سلخه عن هويته ولا قرنين من التغريب والعلمنة والشيوعية"، مضيفا: "وذلك إلى جانب جهد عقود من العمل الدعوي ألقى البذور ثم جاءت ارتدادات الحصاد وإن غُيب الراعي".
ولفت ثالثا، إلى "عصر السماوات المفتوحة، والتواصل الاجتماعي، إذ أصبح البحث عن صحيح الدين متاحا"، ملمحا إلى أن "استخدام أعداء التدين أسلوب الصدمة في هدم الثوابت أيقظ الجهاز المناعي لجمهور الأمة واستشعار الخطر".
خامس وسادس الأسباب وفق رؤية عزب، هي "الأزمة الاقتصادية الضاغطة، التي جعلت الشباب المطحون يهرع لبيوت ربه يقتبس نفحات السكينة والرضا".
فضلا عن "اضطرار النخب الحاكمة لمسايرة الحالة الدينية لتنفي عنها تهمة معاداة الدين، وإن ظهر في شكل دعم نموذج على آخر، مثل الشكل الصوفي للتدين أو النموذج السلفي المدخلي".