اقترحت أبوظبي.. لماذا تطالب روسيا والأسد بنقل المفاوضات السورية من جنيف؟
منذ بداية غزوها لأوكرانيا أواخر فبراير/شباط 2022، جعلت روسيا من سوريا "ساحة للمساومة ومناطحة الغرب"، وأدخلت ملف الحل السياسي فيها ضمن لعبة لي الذراع.
وما تزال مفاوضات الحل السياسي بين نظام بشار الأسد والمعارضة التي اتخذت من جنيف السويسرية مقرا لها قبل عقد من الزمن، شبه مجمدة وتأخذ طابعا شكليا، لادعاء وجود مسار دبلوماسي سوري برعاية أممية.
لكن على ضوء الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وتلقي موسكو عقوبات قاسية من الغرب الرافض للاجتياح غير المبرر، اقترحت روسيا بشكل مفاجئ نقل المفاوضات السورية إلى مكان وصفته بـ "المحايد".
متاهة جديدة
وقال ألكسندر لافرنتييف، الممثل الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا، في 16 يونيو/حزيران 2022، إن بلاده أشارت في محادثات نور سلطان بكازاخستان مع الدول الضامنة الأخرى لمسار "أستانا" (تركيا وإيران) إلى اهتمامها بنقل موقع المفاوضات واجتماعات اللجنة الدستورية السورية من جنيف.
وأضاف لافرنتييف، أن القرار سيعتمد إلى حد كبير وبشكل مباشر على الدول الضامنة، واستدرك قائلا: القضية هنا ليست تقنية أو لوجستية بحتة، بل تتسم بالفعل بدلالة سياسية، لأن سويسرا تتهافت أكثر من الآخرين بشأن العقوبات والخطاب المناهض لروسيا وهو ما يجعل العمل هناك صعبا في مثل هذه الظروف، حسب وصفه.
وبشكل منفصل، قال لافرنتييف إن روسيا اقترحت نقل اجتماعات اللجنة الدستورية السورية إلى أبوظبي ومسقط والمنامة، مضيفا: "كما أعربت الجزائر عن استعدادها لاستضافة الدورات العادية للجنة، وأيضا مدينة نور سلطان محتملة"، وفق ما نقلت وكالة تاس الروسية.
وسرعان ما انضم النظام إلى مطالب روسيا في وصف جنيف بأنها مكان غير مناسب لعقد اجتماعات اللجنة الدستورية السورية.
إذ قال أيمن سوسان معاون وزير خارجية النظام فيصل المقداد على هامش اجتماعات أستانا حول سوريا "سويسرا تخلت عن حيادها التاريخي".
وأضاف سوسان أنه "بانضمام سويسرا للعقوبات الغربية على سوريا وروسيا فإن جنيف ليست بمكان صالح لإجراء اجتماعات اللجان الدستورية".
وسعي روسيا لنقل مفاوضات الحل السياسي السوري، إلى دول عربية يحظى رئيس النظام بشار الأسد بعلاقة وطيدة معها، ما هي إلا خطوة نحو إدخال الحل في "متاهة جديدة"، وفق كثير من المراقبين.
فحتى الآن ما يزال القرار الأممي 2254 الصادر عام 2015، والممهد للحل بسوريا دون تطبيق، ولم يحقق أيا من سلال العملية السياسية الأربع وهي: الحكم الانتقالي، والدستور، والانتخابات، ومكافحة الإرهاب.
كما فشلت اجتماعات اللجنة الدستورية المكلفة برعاية أممية بصياغة دستور جديد لسوريا، بين النظام والمعارضة والمجتمع المدني، في نسختها الثامنة التي انتهت في 3 يونيو 2022، في التوافق على مادة واحدة من الدستور.
واتخذ قرار تشكيل اللجنة الدستورية ضمن مخرجات مؤتمر الحوار السوري، الذي انعقد بمدينة سوتشي الروسية في 30 و31 يناير/كانون الثاني 2018، وبرعاية الدول الضامنة. وفي 4 نوفمبر 2019، عقدت لجنة الصياغة أولى اجتماعاتها بجنيف
واللجنة الدستورية هي فنية ولو نجحت في صياغة دستور جديد لسوريا فسيجرى إقراره بالاستفتاء الشعبي.
وهي غير مخولة بالتوقيع على أي حلول أو تسويات سياسية ونقاش أي من السلال الأخرى المتعلقة بالعملية السياسية.
تعطيل متعمد
واتبع نظام الأسد بتخطيط روسي منذ تشكيل اللجنة الدستورية في سبتمبر/أيلول 2019، تكتيك المماطلة وتمييع الوقت وحرف مناقشات الجولات جميعها بعيدا عن المبادئ الأساسية للدستور التي يتقرر مداولتها قبل انعقاد الجلسة.
وهذا ما خلق رأيا عاما لدى السوريين تجاه هيئة التفاوض المعارضة بضرورة الانسحاب من تلك اللجنة، وخاصة أن الأخيرة قبلت بضغط دولي تجاوز سلة "هيئة الحكم الانتقالي" التي تسبق مسألة إعداد دستور جديد للبلاد.
كما أن نوايا نظام الأسد وروسيا مبيتة مسبقا حول نتائج ومخرجات اللجنة، إذ إن بشار الأسد رأى أن صياغة دستور جديد للبلاد "لعبة سياسية"، وذلك خلال لقاء مع وكالة "سبوتنيك" الروسية، في أكتوبر/تشرين الأول 2020.
وأيقن الشارع السوري المعارض أن "تصريح الأسد يدلل على استهتاره بالحل الأممي"، وأظهر عدم الجدية من طرفه، لأن النجاح في اجتراح دستور جديد للبلاد، سيقود لانتخابات برلمانية ورئاسية قادمة وستضعه خارج المعادلة السورية وبالتالي القضاء على أحلام الروس في الوجود على البحر المتوسط.
وأكثر من ذلك، فإن ضربة مفاجئة من موسكو وجهت للأوساط السورية، على لسان ألكسندر لافرنتييف ذاته، حينما قال إن "كتابة وإعداد دستور جديد ينبغي ألا يهدف إلى تغيير السلطة في دمشق".
وعدت تصريحات المسؤول الروسي بمثابة "شهادة وفاة" للجنة الدستورية السورية، لا سيما أنه لم يكتف بذلك بل مضى يقول إن النظام "راض عن الدستور الحالي، ولا يرى ضرورة لإحداث أي تغيير فيه"، وفق ما نقلت عنه وكالة تاس في 27 ديسمبر/كانون الأول 2021.
وتابع لافرنتييف قائلا: "طبعا إذا رأت المعارضة ضرورة إجراء تغييرات، فيجب النظر في القضايا التي تهمها، وطرحها على التصويت سوءا عبر الاستفتاء أو من خلال طرق أخرى لإقراره".
ورؤية روسيا أن جنيف لم تعد منصة مناسبة لمتابعة المفاوضات السورية بين نظام الأسد والمعارضة، مرتبط بجوانب متشابكة وفق الباحث في مركز الحوار السوري، أحمد قربي.
متغير أساسي
وقال القربي لـ "الاستقلال": "إنه بالأساس كانت هناك رغبة روسية في حرف المسار الأممي ورعايته للحل السياسي بسوريا، خاصة أن منحى أستانا كان وما يزال يسعى لأخذ دور جنيف.
بمعنى أن يكون مسار أستانا هو المكان المناسب لإيجاد صيغة ما تساعد على فرض روسيا رؤيتها خارج إطار الأمم المتحدة وقرار مجلس الأمن 2254.
وأضاف الباحث أن النظام في فترة من الفترات أشار إلى أنه من المفترض أن يجرى نقل اجتماعات اللجنة الدستورية المكلفة بصياغة دستور جديد إلى سوريا والجارية في جنيف، إلى العاصمة دمشق وهو ما ترفضه المعارضة.
و"أستانا" مسار عسكري، يضم الدول الضامنة الثلاث (روسيا تركيا إيران)، ووفدي المعارضة والنظام، وتشارك فيه بعض الدول العربية، بدور المراقب فقط، كالأردن ومصر والعراق ولبنان، وبدأت أولى جولات المحادثات في 23 و24 يناير 2017.
ولفت القربي إلى وجود "تمييع للرعاية الأممية للحل السياسي في سوريا، وتحويله إلى خطة روسية تتناسب مع رؤية إحداث (إصلاح داخل نظام الأسد) أشبه بحكومة وحدة وطنية".
وعد القربي أن "المتغير الأساسي الذي حدث ودفع روسيا نحو تغيير وجهة اجتماعات جنيف، هو أنه في ضوء الحرب الروسية الأوكرانية، بات واضحا أن الغرب وموسكو يحاولان استخدام بعض الأوراق من أجل إضعاف الطرف الآخر في ملفات إقليمية ودولية ومنها الملف السوري".
ومضى يقول: "نلاحظ أن روسيا تتحدث عن عدم تمديد القرار الأممي لإدخال المساعدات الأممية عبر معبر باب الهوى بإدلب الحدودي مع تركيا والذي ينتهي مفعوله في يونيو 2022، لأنه سيشكل ضغطا على الغرب ويفرض عليهم التطبيع والتعاون مع نظام الأسد وتعويمه اقتصاديا وسياسيا ومن الباب الإنساني".
وتدخل المساعدات الإنسانية إلى الشمال الخارج عن سيطرة بشار الأسد عبر معبر "باب الهوى" الحدودي الذي يعد الشريان الوحيد المفتوح لإغاثة خمسة ملايين نازح سوري منهم أكثر من مليون ونصف مليون شخص في المخيمات.
وسيتقرر مصير معبر باب الهوى في يوليو/تموز 2022 من خلال تصويت مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث تمتلك روسيا حق النقض.
زخم التطبيع
تعطيل الأسد للمسار السياسي الأممي طيلة السنوات الماضية، رافقه اجتهاد روسي، لتطبيع علاقات النظام السوري مع الدول العربية، وكذلك تسليم موسكو بعض الدول العربية مثل الجزائر وسلطنة عمان، ملف عودة الأسد لشغل مقعد سوريا في الجامعة العربية التي طرد منها أواخر عام 2011 بعد قمعه للثورة بالحديد والنار.
وحول هذه الجزئية ذهب القربي للقول: "الآن روسيا تحاول استخدام ورقة اللجنة الدستورية وسحبها من دول الغرب ورفع يد الأمم المتحدة عنها رعايتها وتحويلها نحو دول ترى أنها يمكن أن تكون مناسبة مثل الإمارات والجزائر وسلطنة عمان، لأن هذه الدول تطبع مع نظام الأسد وتشجع على التطبيع معه".
واستدرك قائلا: "لذلك لم تقترح روسيا دولا عربية مثل قطر أو السعودية، لأنها ترى أنها أقرب في رؤيتها إلى الغرب وعلى الأقل ليست مناصرة للرؤية الروسية وسعيها لفرض حل سياسي على طريقتها".
وتعنت نظام الأسد في تحقيق عملية الانتقال السياسي إلى دولة القانون والعدالة والديمقراطية والمواطنة المتساوية، يعطيه فرصة لكسب الوقت وبناء تحالفات جديدة وإن كان مع بعض الدول العربية.
ولذلك فإن اللجنة الدستورية السورية التي يتولى إدارة جلسات المباحثات فيها الرئيسان المشتركان عن النظام أحمد الكزبري، وعن المعارضة هادي البحرة، ما هي إلا جزء لا يتجزأ من قرار مجلس الأمن رقم 2254، والمدخل لتنفيذ القرار المذكور بكل بنوده.
وبالتالي فإن المحاولات الروسية لإخراج اللجنة الدستورية من المظلة الأممية وطرح دول كبدائل مقترحة لاحتضان المباحثات، تنبع من جوانب عدة أيضا كما يرى مركز "جسور للدراسات" في قراءة تحليلية له وهي:
أولا، لتأكيد روسيا على عدم قبول أي وساطة دبلوماسية غربية كتعبير عن تدني حجم التنسيق بين الطرفين، والرغبة في إضعاف تأثير الغرب في العملية السياسية السورية، وهو ما يبرِز قدرة موسكو على المساس بقضيّة مؤثرة بالسياسة الخارجية الأوروبية.
ثانيا، الحرص على إظهار عدم تراجع قدرة واهتمام روسيا بالملف السوري، رغم تركيز الأولويات على الحرب الأوكرانية.
ثالثا، الرغبة بإعطاء زخم جديد لمسار تطبيع العلاقات العربية مع الأسد؛ لأن جميع العواصم العربية التي اقترحتها روسيا كبديل عن جنيف تمتلك علاقات دبلوماسية مع النظام، بالتالي إلقاء المزيد من الضغط على المعارضة السورية.
وفي تعليق صحفي من هادي البحرة حول تغيير مكان اجتماعات اللجنة، قال في 17 يونيو: "موقفنا واضح، اللجنة تعمل بتفويض القرار (2254) وبتيسير ورعاية الأمم المتحدة وتنعقد في مقراتها، وهي جزء أساسي من العملية السياسية في جنيف حصرا".