مع انشغالها في أوكرانيا.. كيف تواصل روسيا السيطرة على مواقعها بسوريا؟
بدأت آثار الغزو الروسي لأوكرانيا بالانعكاس على الوجود العسكري لموسكو في سوريا، والذي يسير ببطء نحو تخفيف انشغال قاعدة حميميم الجوية التابعة لها في ريف اللاذقية.
لكن ما كان لافتا هو إسناد روسيا لحليفتها على الأرض إيران بالتمركز في بعض النقاط العسكرية الهامشية في مناطق سورية عوضا عنها أو بتفاهمات بينهما سبقت إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن إطلاق العملية العسكرية للسيطرة على العاصمة كييف فجر 24 فبراير/شباط 2022.
ومنذ اليوم الثاني من الغزو الروسي على أوكرانيا وسعت المليشيات الإيرانية في مناطق سيطرة النظام السوري في محافظة الرقة، وجودها على حساب المليشيات المدعومة من روسيا التي انسحبت من مواقعها.
تكتيك المواقع
وذكر موقع الخابور المحلي، أن مليشيات إيرانية هي: "لواء فاطميون وحركة النجباء وحزب الله" نقلت عناصر ومعدات عسكرية من ريف دير الزور الغربي إلى مقرات عسكرية في ريف الرقة، كانت تدار من قبل مليشيا "الدفاع الوطني" و "الفيلق الخامس" المدعومات من روسيا.
وأوضح الموقع أن المليشيات الإيرانية تركزت في مقرات ببلدات السبخة والخميسية ودبسي عفنان وقرية غانم العلي، ومدينة معدان، بدلا من نظيرتها المدعومة من روسيا.
وأشار إلى أن التوسع الجديد لمليشيات إيران جاء بالاتفاق مع النظام السوري، بعد إفراغ مقرات المليشيات الروسية التي تقدمت إلى عمق البادية السورية.
كما استولى لواء فاطميون الأفغاني التابع لإيران في الثاني من مارس/آذار 2022 على مدرسة "الزهراء" الواقعة في مدينة مسكنة شرقي حلب، بهدف تحويلها لمستودع ذخيرة ومركز قيادة لمليشياتها في المنطقة، وغرفة عمليات لإدارة عمليات التمشيط في البادية السورية.
وضمن التحركات الإيرانية في خضم التركيز الروسي على أوكرنيا، دفعت طهران بشاحنات عسكرية من مليشيا فيلق القدس التابع لها، إلى مقر اللواء "47 دبابات" التابع للفرقة 11 بجبل معرين بريف حماة الجنوبي، والذي يعتبر المسؤول الأول عن إدارة التواجد الإيراني بمحافظة حماة.
وكان هدف التواجد الروسي عسكريا في بعض المواقع ولا سيما شمال شرقي سوريا، هو إثبات الحضور وتطويره لاحقا ضمن معادلة النفوذ مع الولايات المتحدة وتركيا.
إلا أن تسرع بوتين بإطلاق العملية العسكرية في أوكرانيا أعاد الحسابات التكتيكية لبلاده في سوريا وإن كانت تبدو إلى الآن مرحلية.
ورغم هذا التطور اللافت والذي يؤكد كثير من المراقبين أنه ما يزال ضمن دائرة المنطق العسكري ولا يضعف الوجود العسكري الروسي في سوريا، فإنه يفتح ثغرة صغيرة لحساب طهران تتعلق بشكل أساسي بمآلات الهجوم على أوكرانيا وما سيسفر عنه من تأثير على موسكو.
فمنذ تدخل روسيا العسكري في سوريا عام 2015 لإنقاذ رئيس النظام بشار الأسد من السقوط بدأ يدور صراع خفي بين موسكو وطهران التي تدخلت لذات السبب عام 2012 على استمالة المليشيات المحلية وبناء أذرع عسكرية لها على الأرض.
لكن القدم الإيرانية كانت أسرع وأكثر تغلغلا وتركيزا على البنية البشرية ضمن معادلة ترسيخ الوجود العسكري بسوريا والوصول إلى البحر المتوسط والذي تشاطرها فيه روسيا.
إذ تمتلك طهران نحو مئة ألف عنصر مقاتل لها في سوريا جرى تنظيمهم منذ تدخلها عسكريا لوأد الثورة السورية عام 2011.
مرحلة مؤقتة
أما روسيا فتؤكد مصادر عسكرية محلية لـ "الاستقلال"، أنها تمتلك أو يواليها نحو عشرة آلاف عنصر ومعظمهم مدرجون في "الفيلق الخامس"، الذي تشكل بأوامر روسية أواخر 2016.
كما يوجد لديها بسوريا نحو ألفين من الشرطة العسكرية وثلاثة آلاف من مرتزقة فاغنر، إضافة إلى حوالي 1500 عنصر بين فنيين وتسليح وذخيرة وحراسة في مطار حميميم وتوابعه، وفق المصادر ذاتها.
ولديها كذلك "الفيلق الخامس" الهجين من مدنيين وعسكريين، وهو قوة عسكرية رديفة ساعدت نظام الأسد على استعادة السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي السورية، قبل أن يتحول عام 2018 إلى أشبه بـ"جيش خاص" لروسيا وذراعها في سوريا.
وتؤكد تقارير صحفية أن رجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوزين، المقرب من الرئيس، هو مالك شركة " فاغنر"، والتي باتت أشبه بـ"جيش بوتين السري".
وتقاتل "فاغنر" وفق مصالح روسيا في كثير من دول العالم، وأدرجتها واشنطن في قائمة العقوبات على المؤسسات الروسية في يونيو/حزيران 2017.
وعملت "فاغنر" على تجنيد المرتزقة عبر وكلاء محليين في سوريا وتمارس أنشطتها بتنسيق تام مع موسكو، وتنفذ عمليات أمنية في الخارج ترقى لـ"جرائم حرب" نيابة عن القوات الحكومية الروسية للتهرب من المسؤولية القانونية المترتبة على هذه العمليات.
وحول خطوة الانسحابات التكتيكية للمليشيات الروسية من بعض النقاط العسكرية بسوريا، يوضح المحلل والخبير العسكري والإستراتيجي العقيد أحمد حمادة أنه "من خلال اعتراف الأسرى الروس في كييف يتبين بأن موسكو نقلت طيارين روسيين وجنود من سوريا للقتال في أوكرانيا".
وهذا يعني سحب قوات روسية وبالطبع سيحل مكانهم إيرانيين ومن قوات الأسد، وفق ما قال حمادة لـ "الاستقلال".
ولفت العقيد إلى أنه "رغم التركيز على أوكرانيا فإن سوريا تبقى مركزا مهما للروس عسكريا وإستراتيجيا وسياسيا، لكن بالمقابل ستستفيد إيران من حالة الحرب وسيكون هناك اعتماد روسي عليها وخاصة في دمشق رغم إدانة المرشد الإيراني علي خامنئي الشكلية للعدوان الروسي".
وذهب الحمادة للقول: "إن المصالح تجمع موسكو وطهران بسوريا، وخاصة في تثبيت حكم الأسد الذي يؤمن مصالح بوتين وإيران".
واستدرك قائلا: " إن تسليم نقاط للمليشيات الروسية لإيران ربما يساهم في تحول ولاء هؤلاء لطهران إن طالت معركة أوكرانيا، وخاصة إذا حصل انفراج بالاتفاق النووي فربما تنتعش طهران اقتصاديا وتعوض الغرب بالنفط".
وأردف قائلا: "هنا ستهتم بهؤلاء العناصر وبالوضع العسكري بسوريا كون واشنطن ستركز مع أوروبا على حفظ أمن التكتل الأوروبي من السد الأخير المتمثل بأوكرانيا، لكن بالنهاية كل شيء مؤقت ومرتبط بتطور الأحداث سواء بوقف القتال هناك، أو استمراره أو حدوث تسوية أو مقايضة ما".
إبقاء القيادة
واتبعت روسيا تكتيكا في إبقاء الرواية الرسمية من إعلامها هي السائدة حول اجتياحها لأوكرانيا، لما لذلك من انعكاس على سمعتها، ولهذا عمدت إلى حجب فيسبوك وتويتر على أراضيها مع دخول الغزو على أوكرانيا يومه التاسع.
وسبق ذلك منع وسائل الإعلام الروسية من استخدام أي معلومات غير تلك التي تقدمها السلطات، وحذف أي إشارة إلى مدنيين قتلوا على يد الجيش الروسي في أوكرانيا، وكذلك مصطلحات "الغزو" أو "الهجوم" أو "إعلان الحرب"، في وقت ندد فيه وزراء خارجية دول مجموعة السبع الصناعية الكبرى في 4 مارس 2022 "بالتضليل الإعلامي الروسي".
وأعلنت وزارة الدفاع الأوكرانية في 5 مارس 2022 أنها "أسقطت مقاتلة روسية وأسرت طيارها".
وبعد انتشار الفيديو، أشارت وسائل إعلام عدة منها أوكرانية، إلى أن الطيار الروسي هو نفسه الذي جمعته بعض الصور ببشار الأسد وبوتين في قاعدة حميميم السورية في 11 ديسمبر/كانون الأول 2017.
وفي هذا السياق يؤكد المختص بالحرب الكيميائية السورية الرائد السابق طارق حاج بكري، أن "روسيا لا تريد فتح جبهتين في آن واحد، فهي لا تريد أن يقال إنها تخسر في سوريا جنودا وفي أوكرانيا جنودا فهذا يؤثر عليها شعبيا ومعنويا، فهي تغيب شعبها عما يجرى من أحداث".
ومضى يقول في تصريح لـ "الاستقلال": "وبالتالي اختفاء روسيا من الجبهات السورية أو انسحابها من بعضها وتسليمها للقوات الإيرانية؛ هو من أجل تقليل الخسائر لكي لا يقال إن هناك من يموت من جنودها في سوريا، وخاصة أنه إذا تزامن ذلك مع ما يجرى في أوكرانيا فهذا يعتبر بمثابة هزيمة وخسارة لها في آن واحد".
ولفت إلى أن "روسيا سحبت بعض قواتها من سوريا وخصوصا مليشيا فاغنر بالإضافة لبعض الطائرات كما جرى رصده وذلك بالتزامن مع تجنيد حاليا بعض المرتزقة السوريين لإرسالهم إلى روسيا ومنها لجبهات القتال بأوكرانيا".
وأكد الخبير العسكري أن "روسيا تريد الاعتماد على إيران ومليشياتها في المواجهة العسكرية، لكنها لن تتخلى عن القيادة والتأثير على النظام السوري والتحكم به ولن تترك هذ الأمر لإيران".
أوراق القوة
وأمام تلقي أوكرانيا مساعدة سياسية واقتصادية وعسكرية من بقية دول العالم وخصوصا في مجال الدفاع الجوي الذي أنهك الروس وأسقط طائراتهم المهاجمة، وحدوث مواجهة عنيفة من الجيش الأوكراني، يؤكد الكثير من المراقبين العسكريين أو موسكو ستكون مضطرة إلى تبريد جبهاتها في سوريا.
وأيضا صب الجهد العسكري من الخبراء والاستشاريين لديها على المعركة الأهم التي تنتهج فيها القوات الروسية تكتيكات الحصار، بهدف تدمير البنية التحتية المدنية وفرض أقصى درجات الضغط على الجيش الأوكراني.
وحسبما نقلت صحيفة "واشنطن بوست" عن وزارة الدفاع الأميركية، فإن الأخيرة تعتقد أن روسيا ستعيد تجميع صفوفها وتضغط على ميزتها الهائلة في قوتها النارية، في ظل تبني الجيش الأوكراني إستراتيجية من شقين في مواجهة هجوم روسي شرس، معتمدا على تكتيكات الكر والفر وتحصين المدن الكبرى.
وضمن هذا الإطار يشير القيادي في المعارضة السورية، العميد فاتح حسون، "إلى أن أوكرانيا تأتي بالمرتبة الأولى من الأهمية بالنسبة لروسيا خاصة أن قواتها بدأت معركة مفتوحة لاحتلالها وتفاجأت بقوة المقاومة غير المحسوبة وزج الغرب بثقل كبير لإحداث توازن في القوى".
واستدرك قائلا لـ "الاستقلال": "هذا أرهق الروس كثيرا وعلى مختلف الصعد ولم يعد لهم الوقت الكافي للتفرغ للوضع في سوريا ولا الإمكانات المادية لدعم قواتهم وخاصة إنهم يواجهون عقوبات شديدة غير مسبوقة أنهكت الاقتصاد الروسي بوقت قصير جدا".
ويتفق العميد مع كثير من المتحدثين بأن "الروس لن يفرطوا بمكاسبهم في سوريا على الأقل بهذه المرحلة، بالرغم مما تعانيه قواتهم من ضعف في الإمداد وحرية الحركة بعد إغلاق المضائق البحرية بين البحرين الأسود والأبيض".
وزاد حسون بالقول: "نتيجة لهذا الموقف المأزوم لروسيا فإن قرارها اتجه إلى تسليم الكثير من مهامها إلى الإيرانيين وإعطائهم الضوء الأخضر لاستعادة بعض المواقع التي جرى طردهم منها في وقت سابق".
ويرى أنه "بلا شك، هذا يعطي للروس بعض أوراق القوة في المنطقة لتكون إيران حليفة لهم في صراعها المحتمل تطوره إلى تحالفات دولية تجر دول المنطقة في حرب تقليدية يقودها الدب الروسي والنمر الأميركي".