حال بدء الغزو "الكبير".. مصر أبرز المتضررين من الحرب بين روسيا وأوكرانيا
يترقب العالم نتائج الصراع الروسي الأوكراني ذي الجذور التاريخية والسياسية والاقتصادية، وسط مخاوف من اندلاع حرب ربما يتسع مجالها لتشمل الصين إلى جانب موسكو، ودول أوروبا وأميركا كداعمين لكييف.
ويستعد نحو 100 ألف جندي روسي مدججين بالسلاح لغزو جارتهم أوكرانيا في ظل تحذيرات من اشتعال حرب عالمية ثالثة.
وفي المقابل يُرسل الغرب وحلف شمال الأطلسي "الناتو" تحذيرات لموسكو من أي عمل عدائي، يشابه ما فعلته قبل نحو عقد بضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية إليها.
وفي ثلاثينيات القرن الـ20، تسبب الصراع السوفييتي الأوكراني في مجاعة أدت إلى مقتل ما بين 4 و7 ملايين أوكراني.
وإزاء هذا الوضع المتفاقم منذ يناير/كانون الثاني 2022، يُحذر خبراء الاقتصاد من أن تلقي تلك الصراعات بظلالها على الوضع الاقتصادي العالمي، وخاصة لدول العالم الثالث التي تعاني الفقر والتضخم والبطالة والديون، وخاصة مع استمرار جائحة "كورونا".
وبالطبع فإن مصر ورغم أنها تبعد آلاف الأميال عن بؤرة الصراع؛ فإن الخبراء العالميين والمحللين الدوليين وأيضا المصريين أشاروا إلى أن اندلاع تلك الحرب له تأثير شديد على القاهرة، ووضعها الاقتصادي الذي يعاني الأزمات، بل ويؤثر على حياة الفقراء فيها.
وعلى اعتبار أن أوكرانيا رابع مورد للقمح والذرة في العالم وتستورد القاهرة منها ومن وروسيا الغلال، فإنه وبلا شك ستتأثر الدولة حال اندلاع أي مواجهات عسكرية روسية أوكرانية.
ولأن أي توغل روسي سيؤثر على تدفق البضائع من أوكرانيا، فقد يحدث اضطراب كبير بحركة صادرات كييف، خاصة بالتزامن مع أي انقطاع محتمل لصادرات الحبوب الروسية أيضا.
تمثل روسيا وأوكرانيا نحو 29 بالمئة من صادرات القمح العالمي، وبالتالي من المتوقع أن يؤثر الصراع بينهما بشكل كبير على صادرات القمح.
ومصر، أكبر مستهلك للقمح الأوكراني، إذ استوردت نحو 3 ملايين طن متري عام 2020، أي حوالي 14 بالمئة من إجمالي قمح أوكرانيا.
تلك الاحتمالات القائمة بشدة؛ تأتي في وقت قفزت فيه أسعار المواد الغذائية العالمية بنحو 28 بالمئة منتصف 2021 ونهايته، لأعلى مستوى لها منذ 10 سنوات، وفقا لتقرير "وكالة الغذاء" التابعة للأمم المتحدة مطلع 2022.
غلاء واضطرابات
وفي السياق، سرد أنتوني فايولا، الكاتب في صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية 28 يناير 2022، تبعات الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا، مؤكدا أنه سيؤدي لارتفاع أسعار المواد الغذائية العالمية ويثير الاضطرابات بمناطق بعيدة عن منطقة الصراع وخاصة بإفريقيا وآسيا.
وقال إن "تكلفة الغزو الروسي الكبير لأوكرانيا ستنال كل أنحاء العالم، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية وزيادة مخاطر الاضطرابات الاجتماعية"، مشيرا إلى مناطق شمال إفريقيا وإيران والسودان وأفغانستان ومصر.
ولفت إلى أن "أي توغل روسي سيؤثر على تدفق البضائع من أوكرانيا، ما يُحدث اضطرابا كبيرا بالصادرات ويزيد تراكم دورة التضخم العالمية، خاصة مع أي انقطاع محتمل بصادرات الحبوب الروسية".
وقال: "بالنسبة لمصر، وهي مشتر أوكراني رئيس للقمح، وأمة أدى ارتفاع أسعار المواد الغذائية فيها لاندلاع أعمال شغب ضخمة عام 1977، فإن تحديد مصادر شرائها للقمح وارتفاع الأسعار سيأتي بوقت تسعى فيه الحكومة المصرية لتقليل دعم الخبز المهم للغاية".
وفي أغسطس/آب 2022، وجه رئيس النظام في مصر عبدالفتاح السيسي، برفع دعم الخبز المدعوم.
ولفت الكاتب فايولا، إلى أنه "قد يكون التأثير على المستهلكين العالميين أسوأ بكثير إذا سعى الروس لاتخاذ خطوات - بما في ذلك زيادة الرسوم الجمركية على الصادرات- لتجميع إنتاجهم من القمح لضمان الأمن الغذائي خلال أي حرب محتملة".
واهتمت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية بهذا الملف، وكتب محلل الأغذية والزراعة بـ"معهد بريكثرو"، أليكس سميث أن الحرب بين روسيا وأوكرانيا ستؤثر في إفريقيا وآسيا.
وحذر من ارتفاع أسعار المواد الغذائية واندلاع الثورات إذا تعطلت صادرات الحبوب الأوكرانية.
سميث قال في تحليل نشر في 22 يناير 2022، إن "التهديدات لصادرات القمح الأوكرانية تشكل أكبر خطر على الأمن الغذائي العالمي، ومن بين زبائنها الصين والاتحاد الأوروبي، لكن العالم النامي هو المكان الذي أصبح فيه القمح الأوكراني مستوردا أساسيا".
وأشار إلى أنه "عام 2020 جاء نصف القمح المستهلك في لبنان من أوكرانيا، وتستورد اليمن وليبيا على التوالي 22 و43 بالمئة من استهلاكهما للقمح من أوكرانيا، وأكثر من 20 بالمئة من استهلاك القمح في ماليزيا وإندونيسيا وبنغلاديش".
وأكد أن "قمح أوكرانيا له التأثير الأكبر على الأمن الغذائي بالعالم، إذ صدرت عام 2020، نحو 18 مليون طن قمح من 24 مليونا أنتجتها، ما يجعلها خامس أكبر مصدر بالعالم"، وفق المقال.
وأوضح أن مصر، أكبر مستهلك للقمح الأوكراني، واستوردت أكثر من 3 ملايين طن عام 2020، أي حوالي 14 بالمئة من إجمالي قمح أوكرانيا، الذي يأتي لسوء الحظ، أغلبه من الأقاليم الشرقية الواقعة غرب دونيتسك ولوهانسك، والتي تحتلها قوات مدعومة من روسيا.
سميث لفت إلى خطورة الموقف في مصر ملمحا إلى أنه "لم يمض سوى عقد على الربيع العربي، وكانت أسعار المواد الغذائية المتزايدة هي الشرارة التي أشعلت فتيل ثورة يناير 2011"، مؤكدا أنه "لا ينبغي الاستخفاف بهذه السيناريوهات".
وحذر من "تفاقم انعدام الأمن الغذائي في العديد من البلدان النامية التي تعتمد على أوكرانيا في قُوتِها.
وأضاف: "يمكن أن يؤدي ارتفاع الأسعار وانعدام الأمن الغذائي لاشتعال الصراع، وزيادة التوترات العرقية، وزعزعة استقرار الحكومات، وامتداد العنف عبر الحدود".
تداعيات مباشرة
ويرى الخبير الاقتصادي أحمد ذكر الله، أن "تداعيات الحرب المحتملة بين روسيا وأوكرانيا على مصر ستكون في صورتين، الأولى: مباشرة، لاسيما أن موسكو وكييف بخلاف كونهما المورد الأكبر للقمح إلى القاهرة فإن لهما ثقل عالمي كبير بالعديد من الاتجاهات".
في التداعيات المباشرة، قال ذكر الله، لـ"الاستقلال"، إن "الأمر يتعلق هنا بتأثر كبير لواردات القمح المصرية من أوكرانيا؛ وفي المقابل لن يتأثر الجانب الروسي لأن المساحات المنزرعة لديه بعيدة عن بؤرة الصراع والحدود مع كييف".
الأكاديمي المصري أشار إلى أن "التأثير المباشر سيكون على أسعار القمح وليس على حجم الواردات".
وأوضح أنه "بمجرد نشوب الحرب سترفع بورصات القمح بالعالم الأسعار نتيجة للمخاطر التي تتعلق بإمداد وتوريد القمح من الدولتين أكبر منتجي العالم".
وعن البديل المحتمل أمام مصر لو حدث توقف للصادرات الروسية والأوكرانية من الحبوب: "للأسف المشكلة لن تكون في واردات القمح لمصر، ولكن في الأسعار، فيمكن للقاهرة أن تتحول من سوق لآخر ويمكنها استخدام مخزونها الإستراتيجي من القمح لـ4 أشهر".
"وبالتالي يمكنها أن تؤجل مناقصة أو أكثر لاستيراد القمح من الخارج ولكن هذا لا يمكن أن يستمر طويلا وستضطر مصر لشراء القمح بأسعار مرتفعة للغاية بغض النظر عن المصدر".
وإلى جانب أزمة الغلال والحبوب والقمح المحتملة إزاء استمرار التوتر الروسي الأوكراني أو تحوله إلى حرب شاملة، تحدث خبراء عن احتمالات نقص الطاقة، وما يتبعه من تداعيات خطيرة، تنال بالطبع أوروبا وبالتالي تمس مصر ولو بشكل غير مباشر.
وتمد روسيا دول أوروبا بأكثر من 40 بالمئة من احتياجاتها للغاز الطبيعي الذي يمر عبر أراضي أوكرانيا، ما يهدد الخط الإستراتيجي للغاز، ويمثل أزمة محتملة في وقود القارة العجوز.
وأشاروا إلى أن احتمالات تعطل تدفق الغاز الروسي إلى أوروبا، ستؤدي لارتفاع الأسعار الحالية للوقود في العالم والتي ستؤثر بشكل كبير على الدول الفقيرة وبينها مصر.
ولفتوا أيضا إلى مخاطر خفض إمدادات النفط الروسي، خاصة أن موسكو ثاني أكبر منتج بالعالم، ما يشير لتفاقم أسعار النفط، التي ارتفعت لمستويات قياسية هي الأكبر لها في 7 سنوات 14 فبراير/شباط 2022.
ووفق موقع "إيكونومي بلس" المحلي، فإن التوقعات تشير إلى أن سعر البرميل قد يقفز لـ120 دولارا، ما يزيد العبء على موازنات الدول التي تحدد سعرا محتملا للبرميل بين 65 إلى 70 دولارا، وبينها بالطبع القاهرة.
وعن الجزء المتعلق بالآثار غير المباشرة على مصر وهو الوقود، أوضح ذكر الله، أن "الأمر أولا يتعلق بإمدادات الغاز الروسي لأوروبا، والتي دفعت احتمالات نقصانها الأوروبيين للاعتراف بأنها ستكون على المحك وستشوبها مخاطر كبيرة".
أستاذ الاقتصاد كلية التجارة بجامعة الأزهر، لفت إلى أن "أوروبا الشريك التجاري الأول لمصر والمصدر الأكبر للسياح إليها والباب الأوسع للاستثمار الأجنبي بها، وأي خلخلة باقتصادها، يمس القاهرة".
وألمح إلى أن نقص إمدادات الغاز الروسي يمس استقلال اقتصاد أوروبا، إذ إن المعروض من الغاز الطبيعي من الدول الأخرى لن يكفي اقتصاديات ضخمة كفرنسا وألمانيا وغيرها من دول أوروبا.
رئيس قسم الاقتصاد في أكاديمية العلاقات الدولية أكد أن "اختلال الوضع الاقتصادي في أوروبا نتيجة نقص إمدادات الغاز سيؤثر بلا شك ولكن بصورة غير مباشرة على الاقتصاد المصري من خلال السياحة والميزان التجاري وغيره".
الحالة المصرية
تلك المخاوف تأتي في ظل ارتفاع معدل التضخم السنوي بمصر خلال يناير 2022، للشهر الثاني على التوالي مسجلا 8 بالمئة مقابل 6.5 بالمئة في ديسمبر/كانون الأول من نفس العام، بحسب بيان للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، 10 فبراير 2022.
القفزة بمعدلات التضخم في مصر تأتي بسبب الارتفاع الحاد بأسعار المواد الغذائية والمشروبات، نتيجة لارتفاع أسعار السلع الأساسية العالمية وتكاليف المواد الخام.
توقعات تأثر مصر الكبير بالحرب الروسية الأوكرانية المرتقبة وارتفاعات أسعار الغذاء وخاصة رغيف الخبز تأتي قبل نحو شهر من حلول شهر رمضان المبارك، والذي يمثل للمصريين خصوصية شديدة في الطعام والشراب والاستهلاك.
وتعاني الموازنة العامة المصرية من ضعف لقلة الموارد، إذ تعتمد بشكل أساسي على الضرائب، بجانب ضغوط فوائد وأقساط الديون على الموازنة التي زاد فيها حجم الدين الخارجي عن 137.4 مليار دولار بنهاية سبتمبر/أيلول 2021.
وتواجه مصر نقصا في السلع الإستراتيجية كالقمح والذرة وفجوة غذائية كبيرة في أغلب المحاصيل الزراعية وهي الأزمة التي تتفاقم في ظل اهتمام النظام العسكري الحاكم بقطاع البناء والتشييد فقط، وهو ما حذر منه الخبراء، مطالبين باستدراك الأمر.
وبشأن خطورة إهمال النظام المصري قطاع الزراعة على حساب البناء وإهماله زراعة السلع الإستراتيجية، أكد ذكر الله، أن "موضوع القمح ذو شجون، لأنه يتعداه إلى قضية الفجوة الغذائية بالسلع الرئيسة".
وأشار إلى أن "الفجوة الغذائية للقمح بمصر نحو 45 بالمئة والفجوة الإنتاجية للذرة حوالي 70 بالمئة وكذلك معظم المحاصيل الرئيسة".
وأعرب الخبير الاقتصادي عن استغرابه من عدم "تقديم الدولة الدعم للمزارعين والقطاع الزراعي لتحقيق طفرات إنتاجية تسد الفجوات وتقلل الاعتماد على الاستيراد".
وقال: "إذا كانت الحكومة تتحجج بأن الأراضي والمياه ليستا كافيتين؛ فبعض الدول التي تعاني نقصا في ذلك تستأجر أراضي صالحة للزراعة بدول أخرى".
وبين أن "السودان الشقيق والجار الجنوبي لمصر متوفر لديه المياه والأراضي الشاسعة، وهي البديل المناسب لمصر لتعويض فجوة الغذاء".
ويعتقد ذكر الله، أن "ما يحدث الآن يجعل المواطن وليس الحكومة تدفع ثمن هذا التراخي أو الإهمال في إستراتيجية الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية على حساب قطاعات أقل أهمية".
ولفت إلى أثر آخر على الاقتصاد والمواطن والموازنة وهو أن "الحكومة حددت القمح بسعر منخفض للغاية بالميزانية العامة للدولة للعام المالي 2022، وستدفع أسعارا لشراء القمح أكبر مما حددته ما يزيد ذلك من عجز الموازنة".