نظام السيسي يفرم أرشيف "وثائق أمن قومي".. عشوائية وتخبط أم تدمير متعمد؟
الباحث المصري الدكتور محمد نعمان نوفل كان على موعد مع القدر في 27 ديسمبر/ كانون الأول 2021، عندما دُعي إلى ندوة علمية، بمعهد التخطيط القومي المصري، أحد أهم المؤسسات الرسمية العلمية في البلاد.
ففي خضم الحدث سأل نوفل عن بحث قديم داخل أرشيف محفوظ منذ سنوات، ليتفاجأ بأن إدارة المعهد تخلصت من الأرشيف بالغ الأهمية الذي يتضمن مشاريع قومية إستراتيجية، ودراسات وأبحاثا علمية خاصة بالأمن القومي المصري، وحماية مدن وقرى الدلتا والساحل من المتغيرات البيئية.
ما يعني أن جزءا أصيلا من تاريخ البحث العلمي في مصر، ذهب طي النسيان، مخلفا وراءه تساؤلات محورية حول أسباب التخلص من الأرشيف والوثائق على هذا النحو، ولماذا لم يتم تحويله إلى نسخة إلكترونية؟ وما هي عواقب وخطورة فقدان هذه المواد العلمية على البلاد آنيا ومستقبلا؟
اكتشاف الفاجعة
انتشرت على نطاق واسع تدوينة للدكتور محمد نعمان نوفل، عبر فيسبوك، في 27 ديسمبر/ كانون الأول 2021، قال فيها: "كان يوما محبطا، ذهبت إلى معهد التخطيط القومي لحضور ندوة جيدة عن الزراعة الحيوية، ولأني خرجت من الندوة سعيدا، سألت عن أرشيف د. كمال الجنزوري (رئيس وزراء مصر الأسبق)".
وأضاف: "أعرف أن أرشيف الجنزوري به دراسات هامة جدا، من بينها دراسة التخطيط الإقليمي لمصر التي قام بها عدد من أهم الأساتذة، على رأسهم أبو التخطيط الإقليمي في مصر الدكتور إبراهيم الصياد، وكانت النسخة الوحيدة من الدراسة".
واستطرد أن "الجنزوري لديه أيضا الدراسة الأولى التي أعدت حول آثار ارتفاع مستوى سطح البحر علي المناطق الساحلية بالتطبيق علي ساحل البحر المتوسط في مصر، وهي أول دراسة تنبأت بمخاطر غرق قسم كبير من الدلتا يصل إلى 18 في المائة، حيث أعد الدراسة فريق من معهد علوم البحار "وودز هول" بالولايات المتحدة التابع لجامعة بوسطن عام 1989".
وذكر أن "بعثة المعهد تركت في مصر ثلاث نسخ واحدة لدى رئاسة الجمهورية، وفقدت، وأخرى لدى جهاز شؤون البيئة واستولى عليها المرحوم مدير إدارة البيئة البحرية وتخلصت منها الأسرة بعد وفاته والثالثة أهدتها إلى مجلس الوزراء واستحوذ عليها الجنزوري، إذن كان لديه النسخة الوحيدة المتبقية من الدراسة".
وشدد أن أهمية الدراسة تكمن في نموذج المحاكاة الذي يعتمد على نظم المعلومات الجغرافية للتنبؤ بموضوع المناطق الساحلية في العالم ودلتات الأنهار حسب السيناريوهات المختلفة لارتفاع درجة حرارة الأرض.
وأوضح نوفل: "توجد دراسات أخرى بالغة الأهمية حول إمكانيات التنمية في مصر، وقد سألت عن ثلاثة مجلدات كانوا من ضمن ما تفخر به مكتبة المعهد وتوضع قيود صارمة للإطلاع عليها، وهي مجلدات الأوراق الإحصائية لـ"أرنولد فيشر" لأعوام (1936، 1937، 1938)".
واستدرك: لكني اصطدمت بالحقيقة المفزعة وهي أنه بعد أعمال تجديد المعهد تشكلت لجنة ورأت ضرورة التخلص من جميع الكتب والدراسات الصادرة قبل عام 1990 وتنفيذا للقرار تم فرم (التخلص نهائيا)، وهذا ما حدث مع أرشيف الجنزوري"، دون توضيح أسباب ذلك.
وأردف: "أعدمت اللجنة الموقرة تراث 30 عاما لمعهد التخطيط القومي، التراث الذي أنتجه الأساتذة المؤسسون للتخطيط في مصر، كما أعدموا أكثر من ثلاثة أرباع كتب المكتبة، بما فيها المراجع الأساسية للعلوم، والأوراق الإحصائية لفيشر التي كنت أبحث عنها تعتبر عملية إعادة تأسيس لعلم الإحصاء".
واختتم أن مصدر معلوماته مدير عام مكتبة معهد التخطيط الحالي (لم يسمه)، وهو من استوثق منه عن جريمة فرم الكتب، وقال إنه "كان رئيس اللجنة التي قامت بالفرم وحدث ذلك تحت عينيه".
ما بين نصر وهزيمة
وتأسس معهد التخطيط القومي سنة 1960 كمؤسسة عامة تابعة للحكومة، لكن لها شخصية اعتبارية مستقلة، تهدف إلى تعزيز نهج وفكر التخطيط العلمي في مصر من خلال الأنشطة البحثية والتدريبية والتعليمية، ودعم دور ومهام وزارة التخطيط.
ويعد من أوائل المعاهد من مثل هذا النوع نشأة في المنطقة العربية.
وسبق أن ترأسه رئيس الوزراء المصري الدكتور كمال الجنزوري، في الفترة ما بين أعوام 1977، و1982.
ويرأسه حاليا الدكتور علاء زهران، وهو معروف بالتبشير بما بات يُعرف بـ"الجمهورية الجديدة"، ويرفع شعار "مصر 2030" الذي أطلقه رئيس النظام عبدالفتاح السيسي، لكن يبدو أن مسألة التخلص من الوثائق الإستراتيجية لم تكن على خارطته.
وتعليقا على الواقعة، قال الأمين السابق للمركز القومي للبحوث بالقاهرة الدكتور ياسر عبدالله إن "مسألة ضياع وثيقة واحدة داخل دولاب الدولة لا تمر مرور الكرام، ما بالنا بدراسات وأبحاث قومية نادرة وفريدة من نوعها".
وأضاف لـ"الاستقلال": "لابد من تشكيل لجنة مختصة من أكاديميين وباحثين ومسؤولين في الدولة للوقوف على حقيقة الوضع وتطوراته، والتحقيق مع المتسببين في هذه الكارثة، التي سوف يكون لها عواقب وخيمة".
وشدد الأكاديمي المصري أن "خطورة مسألة الوثائق والدراسات تصل إلى أقصى حد يمكن تخيله، وأنه على سبيل المثال انتصرت مصر على إسرائيل أمام المحاكم الدولية، واستعادت طابا عام 1989 بفضل مجموعة الوثائق والخرائط الموثقة التي امتلكتها الدولة في أرشيفها التاريخي، ولولاها لما انتصرنا في المحاكم الدولية".
واستطرد: "على مر السنوات الماضية فقدت مصر كما هائلا من الأرشيف والأوراق والمستندات، كما حدث في حريق مجلس الشعب عام 2008، وحريق المجمع العلمي المصري سنة 2011، وكانت هذه أم المصائب، حيث خسرت مصر مجموعة هائلة من الوثائق والكتب النادرة التي ليس لها مثيل، كان الأمر أشبه بحرق مكتبة الإسكندرية أو بغداد".
جريمة أمن قومي
ومبررا هذه الوقعة، زعم زهران أن المعهد به أكثر من 14 ألف وثيقة، لكن لا يمكن إتاحة جميع هذه الوثائق على الموقع الإلكتروني أو لأي أحد غير المتخصصين.
كما هاجم منتقديه في تصريحات نقلتها صحيفة الأهرام الحكومية في 2 يناير/ كانون الثاني 2022، وحرض على التحقيق معهم بالقول: "دعاوى فرم وضياع الوثائق إساءة للدولة".
بينما وصف الباحث السياسي المصري، محمد ماهر، عملية التخلص من مستندات ودراسات معهد التخطيط القومي بـ "الجريمة الكاملة".
وقال في حديثه "للاستقلال": "نحن أمام نظام متمرس في التخطيط للمصائب والنكبات من هذا النوع، ولا أستطيع القول إن عملية الفرم تمت بعشوائية، ونتاج حالة تخبط، بل هي فوضى خلاقة ومقصودة، أن تحطم كل وثيقة ودراسة ممكنة لأهداف مستقبلية للنظام ورئيسه لا يمكن كشفها بطبيعة الحال، وإنما توقعها".
وأضاف: "هكذا الأمم في حالة الهزيمة والفشل تجد أحداثا مريبة غير مفهومة، ولكنها ستؤدي إلى مشهد سوداوي في النهاية، فنحن نعيش في عالم الفضاء والجيل الرابع والخامس من التكنولوجيا، وما زالت البيروقراطية المصرية تمشي بنظام (المفرمة)، ولو أرادوا الحفاظ على الأوراق لأدخلوا نظام الأرشيف الإلكتروني مثل معظم دول العالم الآن".
وتابع: "فهذا النظام عمل به في الخليج مثلا منذ بداية القرن الحالي، وتمت أرشفة الوثائق الحكومية والمطبوعات والصحف القومية، ما بالنا في مصر التي تملك تاريخ المنطقة بأسرها، لم يدخل فيها نظام الأرشفة الإلكترونية بعد".
وأردف: "رأينا أن رئيس المعهد علاء زهران، ينفي الجريمة بعدما حدثت، ويقول لدينا 13 ألف وثيقة سرية، بينما كشف أحد أبرز الباحثين المصريين دخول آلاف الوثائق في عملية فرم منظمة، والسؤال الذي يطرح نفسه هل يملك أحد داخل الدولة التأكد من الحقيقة أمام نظام عسكري فج، وهل يستطيع أحد محاسبة المسؤولين أو التحقق مما حدث ومن أسبابه وتداعياته".
واستدرك: "بالطبع لا، وبالتالي تدخل الأزمة في بئر عميقة لعشرات الإشكاليات المماثلة، التي لن تكتشف إلا مع الزمن، أو مع وقوع مصيبة غير محتملة".