تطبيع المدن بعد تسليم النظام.. هكذا نقل المغرب علاقته بإسرائيل لمستوى أعمق
في وقت كانت الأنظمة العربية تتهاوى نحو التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلية تباعا، كانت المدن ومن بداخلها حصونا ضد تلك الخطوات، إذ ترفض الشعوب إقامة علاقات مع الاحتلال، باعتبارها من "المحرمات"، وانتصارا لقضية فلسطين كأساس للوحدة العربية والعمق الإسلامي لتلك الشعوب.
لكن بعض الأنظمة تحاول اختراق تلك الحصون تباعا داخل بلادها وتسهيل التطبيع، عبر طرق غير مسبوقة، مثلما يفعل المغرب بإقامة توأمة بين مدنه وأخرى إسرائيلية، في "انتهاك فج" لأواصر العروبة والتضامن الشعبي مع فلسطين المحاصرة.
توأمة المدن
في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، كانت "المفاجأة الصادمة" الجديدة، عندما أعلن القائم بأعمال مكتب الاتصال الإسرائيلي في المغرب، ديفيد غوفرين، عن التجهيز لإقامة توأمة بين مدينتي "أزمور" المغربية، و"كريات يام" في الأراضي المحتلة.
وغرد عبر حسابه على موقع "تويتر" قائلا: "يجري حاليا التحضير لتوقيع اتفاق توأمة بين مدينة أزمور المغربية، التي كانت تضم جالية كبيرة من اليهود بداية القرن الماضي، وبين مدينة كريات يام".
وعبر عن سعادته بتلك الخطوة، زاعما أنها "أجمل مظاهر التجانس الثقافي وتعزيز الروابط الاجتماعية بين المغرب وإسرائيل".
وأوردت صحيفة "العين" الإماراتية في تقرير نشرته في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، أن "هناك اتفاقات جارية على قدم وساق بين المغرب وإسرائيل، على إجراء عملية توأمة واسعة بين المدن التي احتضنت في وقت سابق، أو لازالت تحتضن جاليات يهودية مغربية".
وأوردت أن مدن، فاس والصويرة وصفرو وأزمور وتنغير ودمنات، على رأس القائمة المعنية بهذه الاتفاقيات في الجانب المغربي، أما من الجانب الإسرائيلي، فسيدفع بمدن مثل حيفا وأشدود.
أما ما يترتب على الحدث، فإن اتفاقيات التوأمة بين المدن، هو عرف سائد عالميا، حيث إنه اتفاق يعقد بين مدينتين على التعاون في مختلف المجالات والأمور التي تعني التجمعات السكنية المدنية.
ويقوم بالتوقيع عليها عادة من هو في أعلى سلطة في كلا المدينتين مع مصادقة الوزارة المعنية.
وعادة ما تشمل هذه الاتفاقية نقاطا محددة ترسم شكل التعاون بين المدينتين، من حيث تبادل المعلومات والخبرات والحلول.
كما تكون عادة المدينتان مرتبطتين عبر خطوط الطيران بصور مباشرة (هذا الشرط ليس ضروريا)، ونسبيا يكون السفر بينهما سهلا.
لذلك فإنه من المتوقع بعد إتمام اتفاقية أزمور و"كريات يام"، أن يتوافد قطاع كبير من السياح الإسرائيليين إلى المدينة التي شهدت وجودا لليهود في السابق.
من اجمل مظاهر التجانس الثقافي وتعزيز الروابط الاجتماعية بين المغرب واسرائيل، ما يجري حاليا من تحضير لتوقيع اتفاق توأمة بين مدينة ازمور المغربية، والتي كانت تضم جالية كبيرة من اليهود بداية القرن الماضي، ومدينة كريات يام الإسرائيلي. نهنأ جميع الأطراف بهذا الإنجاز الرائع. pic.twitter.com/AAgmJvp5nq
— Dr. David Govrin (@DavidGovrin) November 26, 2021
لماذا أزمور؟
أزمور واحدة من أهم وأعرق المدن المغربية، وترتبط بمراحل تاريخية عتيقة، ويتجاوز تعدادها السكاني 40 ألف مواطن، ومن الأماكن التي يتخذها الإسرائيليون كـ"مسمار جحا" داخل المغرب.
وتقع المدينة على ضفاف نهر "أم الربيع"، وتبعد عن مدينة الدار البيضاء قرابة 80 كيلومترا جنوبا.
عاش اليهود في أزمور بداية من 1496 ميلادي، بعد سقوط الأندلس على يد الممالك المسيحية، واضطهاد المسلمين واليهود على سواء، فلجؤوا إلى المدن المغربية، وقصدت مجموعات يهودية أزمور، وعاشت فيها.
لذلك تقوم العديد من العائلات اليهودية برحلة إلى أزمور كل عام تقريبا، لرؤية "الملاح" (اسم كان يطلق على الأحياء اليهودية هناك، لأنهم تميزوا بتجارة الملح)، وللاحتفال في ضريح الحاخام اليهودي، أبراهام مول نيس.
ولهذه الأسباب وضعت أزمور من قبل إسرائيل ضمن قائمة أهم المدن المغربية، التي تريد دولة الاحتلال تطوير علاقتها بها، والانخراط أكثر مع سكانها.
المغرب والتطبيع
منذ عام 2002، كانت العلاقات المغربية الإسرائيلية شبه مقطوعة على الصعيد الرسمي، بعد جرائم الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، إبان انتفاضة الأقصى الثانية عام 2000.
هذا الأمر تبدل تماما نهاية عام 2020، مع التطور الدراماتيكي لبعض الأنظمة العربية وعلاقتها المتقدمة بإسرائيل، بداية من الإمارات والبحرين، ثم المغرب والسودان تبعا.
وبالفعل في أغسطس/آب 2021، تم افتتاح سفارة للاحتلال بالمغرب خلال زيارة قام بها وزير الخارجية يائير لابيد، وبناء عليه أعيد افتتاح مكتب الاتصال المغربي في تل أبيب وتدشين خط طيران مباشر بين البلدين.
وقد ذهب النظام المغربي إلى أبعد من ذلك في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، عندما وقع "اتفاقا إطاريا" للتعاون الأمني مع الجانب الإسرائيلي.
حينها نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية تقريرها عن ذلك التعاون المتطور، وقالت إن "الاتفاق بين المغرب وإسرائيل يأتي في الوقت الذي تعرف فيه الرباط برودا في العلاقات مع جارتها الجزائر".
وأضافت "جرى استقبال وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس من قبل الوزير المسؤول عن إدارة الدفاع الوطني المغربي، عبد اللطيف لوديي، ثم التقاه وزير الخارجية ناصر بوريطة".
وذكرت لوموند أنه "خلال الزيارة وقع الجانبان مذكرات تفاهم للتعاون في مجالات عديدة، منها الاستخبارات والصناعات الدفاعية والأمن السيبراني والتدريب المشترك".
فيما أوردت صحيفة "معاريف" العبرية، في تقريرها عن ذلك التعاون والزيارة في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، أنه "في ضوء تعزيز قوة إيران وحزب الله في إفريقيا، فإن جهاز أمن إسرائيل يرى أهمية كبيرة في تعزيز العلاقة مع المغرب، وهذا الأمر شرع به غانتس بوضع إكليل على ضريح محمد الخامس عقب وصوله الرباط في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2021".
وذكرت أنه "بعد التوقيع على اتفاق التفاهم، فقد التقى غانتس ورئيس الأركان ورئيس الموساد، مع بوريطة، وبشكل غير مسبوق على وليمة الغذاء مع الوفد الإسرائيلي وكل القيادة الأمنية وكبار الجنرالات في الجيش المغربي".
استنكار واسع
لم يقف الشعب المغربي صامتا إزاء تلك التطورات، ففي 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، أعلنت "الجبهة المغربية لدعم فلسطين" عن تنظيم احتجاجات ضد التطبيع.
وقالت الجبهة في بيانها "إنه بالتزامن مع اليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، أعلنت أكثر من 27 مدينة مغربية استجابتها لنداء الجبهة".
وذكرت أنه "سيتم تنظيم وقفات وأشكال احتجاجية ونضالية، تحت شعار المعركة متواصلة للتصدي للتطبيع الزاحف ولدعم الشعب الفلسطيني".
وأوردت الجبهة المغربية أن الحدث "هو دعم لكفاح الشعب الفلسطيني من أجل تحرير فلسطين من الصهيونية وإقامة دولته الديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني وعاصمتها القدس".
وأوضح البيان أن الهدف هو "التعبير الشعبي عن رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب، والمطالبة بإلغائه وإلغاء كل الاتفاقيات المنبثقة عنه".
ومن بين المدن التي شاركت في الاحتجاج، العاصمة الرباط، والدار البيضاء، والجديدة، وتارودانت، وبركان، وتطوان، وأغادير.
عضو اتحاد المحامين العرب، المحامي المغربي يوسف زيان، قال إن "الشعب المغربي كسائر الشعوب العربية، يرفض بشكل قاطع إقامة علاقات من أي نوع مع الكيان الصهيوني، سواء علاقات رسمية عبر الأنظمة، أو علاقات مدنية بين الشعوب، تتم بطريقة مستترة مثل الوفود الثقافية والسياحية، أو اتفاقيات التوأمة بين المدن".
وأكد زيان لـ"الاستقلال" أنه "لا يمكن أن يرضى أهل مدينة أزمور بتبادل أيا كان نوعه مع الاحتلال".
وشدد على أن "المغرب يعتز بتاريخه النضالي انتصارا لفلسطين والعرب، ونحن الذين درسنا ورأينا كيف شارك المغرب في حرب 1973، على مختلف الجبهات المصرية والسورية، عبر التجريدة المغربية، وأسطول الطائرات والدبابات التي شاركت الجيوش العربية انتصارها".
وتابع: "هناك شهداء من المغرب أريقت دماؤهم في الحرب، ولا زالت قبورهم شاهدة عليهم وعلى نضال الشعب المغربي".
واستطرد المحامي: "قد يكون للمغرب خصوصيته في جميع الأحوال، لأنه حوى طائفة يهودية كبيرة في الماضي، وما زال هناك يهود يعيشون في المغرب بسلام وأمان كجزء أصيل من الشعب المغربي، لكن علينا أن نفرق بين هؤلاء الذين هاجروا إلى إسرائيل وتركوا بلادهم، وبين المواطنين المغاربة الأصليين".
وختم زيان بالتأكيد: "نحن نحتفظ بهويتنا المغاربية وقوميتنا العربية، وديننا الإسلامي، وكل ذلك في طريق معاكس لدعوات التطبيع، ومحاولة فرضه على المغرب وشعبه المتسامح بطبعه، إلا فيما يخالف وطنيته وعقيدته".