سجون الصحراء.. أوروبا تنشئ "نظاما سريا" في ليبيا للتخلص من المهاجرين
أكدت مجلة "نيويوركر" الأميركية أن الاتحاد الأوروبي الذي سئم التكاليف المالية والسياسية لاستقبال المهاجرين من إفريقيا أنشأ في السنوات الست الماضية أشبه بـ"نظام ظل" لإيقاف اللاجئين عبره قبل وصولهم إلى أوروبا.
وأوضحت في تحقيق مطول للصحفي الاستقصائي إيان أوربينا، أن "أوروبا جهزت ودربت خفر السواحل الليبي، وهو منظمة شبه عسكرية تديرها مليشيات وتجري دوريات في البحر المتوسط، توقف فيها المهاجرين وتحتجزهم إلى أجل غير مسمى في شبكة من السجون غير الإنسانية الهادفة للربح".
وفي سبتمبر/أيلول 2021، وثقت وكالات إغاثة دولية تعرض حوالي ستة آلاف مهاجر في ليبيا لانتهاكات، منها التعذيب بالصدمات الكهربائية وابتزاز العائلات من أجل الحصول على فدية.
ونقلت المجلة عن صلاح المرغني، وزير العدل الليبي من 2012 إلى 2014، قوله إن الاتحاد الأوروبي فعل شيئا فكر فيه بعناية وخطط له لسنوات، أنشأ حفرة جهنم في ليبيا، لردع المهاجرين عن التوجه إلى أوروبا.
واعتبرت أن مركز "المباني" لاحتجاز المهاجرين هو "سجن سري" كان في السابق عبارة عن مخازن مؤقتة تقع على الطريق السريع في حي غوط الشعال بالعاصمة طرابلس، وتنتشر فيه محلات تصليح السيارات والخردة.
وكان المركز في السابق مستودعا لتخزين الإسمنت، وأعيد افتتاحه في يناير/ كانون الثاني 2021، بعد أن تم رفع جدرانه الخارجية وتغطيتها بالأسلاك الشائكة. وعلى البوابة، لافتة كتب عليها "مديرية مكافحة الهجرة غير الشرعية".
أوضاع مأساوية
في فجر 5 فبراير/شباط 2021، وصل إلى السجن أليو كاندي، وهو مهاجر من غينيا بيساو يبلغ من العمر 28 عاما. وكان يحاول الانضمام إلى شقيقين له في أوروبا. لكن أثناء محاولته عبور البحر المتوسط على زورق مطاطي مع أكثر من مئة مهاجر آخر، اعترضهم خفر السواحل الليبي واقتادهم إلى سجن "المباني".
وفي الزنزانة رقم 4، احتجز مع مئتين آخرين، ولم يكن هناك وفق المجلة أي مكان للجلوس بسبب الاكتظاظ، ولم يتهم بارتكاب جريمة، ولم يسمح له بالتحدث إلى محام، ولم يعط أي معلومة عن طول مدة احتجازه.
وأضافت أنه تم احتجاز حوالي 1500 مهاجر في 8 زنزانات بالسجن، تم الفصل بينهم حسب الجنس. وكان هناك مرحاض واحد فقط لكل مائة شخص، وكان على كاندي في كثير من الأحيان التبول في زجاجة ماء.
ويضرب الحراس، المهاجرين الذين عصوا الأوامر بكل ما هو في متناولهم، مجرفة، أو خرطوم، أو كابل، أو غصن شجرة. وعندما يموت شخص ما، تلقى الجثة خلف أحد جدران المركز.
وعرض الحراس على المهاجرين حريتهم مقابل رسم قدره نحو 500 دولار. وأثناء وجبات الطعام، كان الحراس يتجولون حاملين هواتف خلوية، وسمحوا فقط للمحتجزين الذين يمكنهم الدفع بالاتصال بأقاربهم.
أزمة المهاجرين
ولفتت "نيويوركر" إلى بدء ما أطلق عليها اسم "أزمة المهاجرين" في عام 2010، عندما بدأ فارون من العنف والفقر وآثار تغير المناخ في الشرق الأوسط وإفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى في التدفق على أوروبا.
ويتوقع البنك الدولي أن يؤدي الجفاف والتصحر وارتفاع منسوب البحار في السنوات الخمسين المقبلة إلى نزوح 150 مليون شخص، معظمهم من جنوب الكرة الأرضية إلى أوروبا.
وفي عام 2015 وحده، وصل مليون شخص إلى أوروبا من الشرق الأوسط وإفريقيا، ومر معظمهم عبر ليبيا إلى إيطاليا.
ولطالما ضغطت أوروبا على ليبيا للمساعدة في كبح الهجرة. فيما حاول الزعيم الليبي السابق معمر القذافي وفق المجلة استخدم الهجرة أحيانا كورقة مساومة، فهدد في عام 2010 بأنه إذا لم يتحصل على أكثر من ستة مليارات دولار سنويا كمساعدات سيحول القارة إلى "أوروبا السوداء".
وفي عام 2011، أطيح بالقذافي في تمرد بدعم من غزو قادته الولايات المتحدة. ثم انزلقت ليبيا في حالة من الفوضى. أما اليوم، فتتنافس عدة قوى على الشرعية وتعتمد على تحالفات مع مليشيات مسلحة.
وقد اكتظت الشواطئ النائية في ليبيا، التي أصبحت غير خاضعة للرقابة على نحو متزايد، بالمهاجرين الحالمين بالوصول إلى أوروبا.
خفر السواحل الليبي
وذكرت المجلة الأميركية أنه بمجرد حصول خفر السواحل الليبي على الإحداثيات، يهرع إلى القوارب، في محاولة للقبض على المهاجرين قبل وصول سفن الإنقاذ.
وفي بعض الأحيان يطلق النار على قوارب المهاجرين أو يوجه طلقات تحذيرية على سفن الإغاثة الإنسانية.
وفي السنوات الأربع الماضية، اعترض خفر السواحل وسلطات ليبية أخرى أكثر من ثمانين ألف مهاجر، وفق المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة.
وفي عام 2017، استجابت سفينة من منظمة "سي واتش" الإغاثية الألمانية لنداءات استغاثة من قارب مهاجرين مهدد بالغرق.
وعندما نشرت طوافي إنقاذ، وصلت سفينة تسمى "رأس جدير" تابعة لخفر السواحل الليبي، بسرعة عالية، وتسببت في سقوط بعض المهاجرين في البحر، ثم سحب ضباط خفر السواحل المهاجرين من الماء وضربهم أثناء صعودهم على متن المركب.
وقال يوهانس باير، رئيس بعثة سي واتش، في وقت لاحق: "كان لدينا شعور بأن خفر السواحل مهتمون فقط بسحب أكبر عدد ممكن من الأشخاص إلى ليبيا، دون الاهتمام بغرق الناس".
وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2020، اعتقلت السلطات الليبية عبد الرحمن ميلاد، قائد وحدة خفر السواحل المتمركزة في مدينة الزاوية غربي البلاد، عقب إضافته إلى قائمة عقوبات مجلس الأمن الدولي لضلوعه المباشر في غرق قوارب المهاجرين بالأسلحة النارية.
وحضر ميلاد اجتماعات مع مسؤولين إيطاليين في روما وصقلية في عام 2017، لطلب المزيد من الأموال. وفي أبريل/ نيسان 2021، أطلقت السلطات سراحه بحجة نقص الأدلة.
ورفض خفر السواحل الليبي وفق المجلة الأميركية التعليق على هذا التحقيق.
غير أنه يؤكد دائما نجاحه في الحد من الهجرة إلى أوروبا، ويجادل بأن المنظمات الإنسانية تعرقل جهوده لمكافحة الاتجار بالبشر.
وتساءل متحدث باسمه لوسائل إعلام إيطالية "لماذا يعلنون الحرب علينا؟ يجب عليهم بدلا من ذلك التعاون معنا إذا كانوا يريدون فعلا العمل لصالح المهاجرين".
وبموجب القانون الليبي، يمكن احتجاز الأجانب غير المصرح لهم -بمن فيهم المهاجرون لأسباب اقتصادية وطالبو اللجوء وضحايا الاتجار غير المشروع- إلى أجل غير مسمى، دون السماح لهم بالاتصال بمحام. ويوجد حاليا حوالي خمسة عشر مركز احتجاز معترفا به في البلاد، أكبرها المباني.
وأكدت ديانا الطحاوي، التي تعمل في قضايا شمال إفريقيا بمنظمة العفو الدولية، في يوليو/تموز 2021، أن "شبكة مراكز احتجاز المهاجرين الليبية بأكملها فاسدة في جوهرها".
استغلال الفساد
وأشارت "نيويوركر" إلى تحميل المهاجرين المقبوض عليهم من قبل خفر السواحل في حافلات، وفر العديد منها من قبل الاتحاد الأوروبي، ثم ينقلون إلى مراكز الاحتجاز. لكن بعض المهاجرين لا يصلون إلى هناك أبدا.
وفي الأشهر السبعة الأولى من عام 2021، قبض على أكثر من خمسة عشر ألف مهاجر من قبل خفر السواحل الليبي وسلطات أخرى، ولكن بحلول نهاية تلك الفترة كان هناك حوالي ستة آلاف فقط محتجزين في منشآت مخصصة.
ويعتقد فريديريكو سودا، رئيس بعثة منظمة الهجرة الدولية في ليبيا أن المهاجرين يختفون في منشآت "غير رسمية" يديرها تجار وميليشيات، حيث لا تستطيع مجموعات الإغاثة الوصول إليهم. وقال: "الأرقام ببساطة لا تتطابق".
ويقر الاتحاد الأوروبي بأن سجون المهاجرين وحشية، حيث أكد المتحدث باسم الصندوق الاستئماني الأوروبي أن "الوضع في هذه المراكز غير مقبول ويجب إنهاء نظام الاحتجاز التعسفي الحالي".
وفي عام 2020، قال جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي، إن "قرار الاحتجاز التعسفي للمهاجرين يقع على عاتق الحكومة الليبية وحدها".
غير أن المجلة الأميركية أكدت أن إيطاليا في اتفاقها الأولي مع ليبيا، وعدت بالمساعدة في تمويل عملية احتجاز المهاجرين وجعلها آمنة. أما اليوم، فيصر المسؤولون الأوروبيون على أنهم لا يمولون المواقع بشكل مباشر.
ولايزال إنفاق الصندوق الاستئماني الأوروبي مبهما، لكن المتحدث باسمه يؤكد أنه يرسل الأموال فقط لتوفير "الدعم لإنقاذ حياة المهاجرين واللاجئين المحتجزين".
عبر وسطاء منهم وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية التي تقدم "الرعاية الصحية والدعم النفسي والاجتماعي والمساعدة النقدية والمواد غير الغذائية".
فيما أكدت تنيكيه ستريك، عضوة البرلمان الأوروبي، أن هذا لا يعفي أوروبا من المسؤولية: "إذا كان الاتحاد الأوروبي لم يمول خفر السواحل الليبي وأصوله، فلن يكون هناك اعتراض، ولن يكون هناك إحالة إلى مراكز الاحتجاز المروعة هذه".