رغم قصوره وطائراته.. ما أسباب فرض السيسي التقشف على المصريين؟

محمد السهيلي | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"التقشف" و"ترشيد الإنفاق"، مصطلحات اقتصادية طالما طبقتها الحكومات المتعاقبة على المصريين؛ لكن يبدو أن معاناة الاقتصاد الوطني دفعت رئيس النظام عبدالفتاح السيسي، وفي خطوة غير مألوفة لضم الجهات الحكومية لقائمة المفروض عليهم تقليص النفقات.

حكومة نظام السيسي أصدرت قرارات بالتقشف "غير مسبوقة" في تاريخ الحكومات المتعاقبة لعقود، على جميع أعمال القطاعات الحكومية، وترشيد الإنفاق بالجهات الداخلة بموازنة الدولة والهيئات الاقتصادية، بل وحبس كبار الموظفين المخالفين لهذه القرارات.

إلا أن خبراء الاقتصاد أكدوا أن هذه القرارات مجرد "إصدارات حبرية"، مشككين في مدى جدية النظام في تطبيق ذلك على كبار الموظفين بالحكومة والدولة العميقة.

تقليم غير مألوف

في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2021، قرر رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، منع إجراء أي تعيينات أو ترقيات بالحكومة، عدا الوظائف القيادية وبقرار من جهات وسلطات الاختصاص، وذلك ضمن قرارات عديدة تخص "الباب الأول" من الموازنة العامة بند "الأجور".

شملت القرارات في هذا الباب، حظر الصرف على المنح التدريبية ومكافآت التدريب والمنح الدراسية بالداخل والخارج، وحظر الصرف على اعتمادات الخدمات والإعانات الاجتماعية الشهرية والموسمية والرياضية والترفيهية للعاملين.

وأيضا، حظرت الحكومة، زيادة عدد الاجتماعات أو حضور الجلسات واللجان عما جرى بالسنة المالية (2020-2021)، مع خفض قيمة بدل حضور الجلسة أو الاجتماع الواحد بنسبة 50 بالمئة.

وفيما يخص "الباب الثاني" من الموازنة العامة والخاص بـ"شراء السلع والخدمات"، يحظر القرار الصرف على تكاليف البرامج التدريبية، ونفقات النشر والإعلان والدعاية والحفلات والاستقبالات، ونفقات الشؤون والعلاقات العامة.

حظر القرار المنشور بالجريدة الرسمية، أيضا، الاعتمادات المخصصة للعلاقات الثقافية بالخارج، ومنع الصرف على الاشتراك بمؤتمرات الداخل والخارج وإيجار الخيام والكراسي، وبدل انتقال السفر للخارج، وتكاليف النقل والانتقالات العامة للسفر بالخارج.

القرار طال الجزء الخاص بـ"الدعم والمنح" بـ"الباب الرابع" من الموازنة، وقرر تجميد 50 بالمئة من المدرج للخدمات والإعانات الاجتماعية، والمعاشات الضمانية، والرياضية لغير العاملين، والإعانات لمراكز الشباب، وحظر الصرف على الجوائز والأوسمة إلا بموافقة رئيس الوزراء.

ووفق القرار، فإن ثبوت مخالفة العاملين بالجهات المخاطبة بأحكام هذا القرار للقواعد والضوابط المشار إليها، يضعهم "قيد المحاسبة التأديبية" دون إخلال بالمساءلة الجنائية إن كان لها مقتضى.

علاج مؤقت

وعن دلالات قرارات ترشيد الاستهلاك وفرض التقشف الحكومي بمصر، يقول الخبير الاقتصادي وأستاذ الاقتصاد بجامعة "أوكلاند" الأميركية، مصطفى شاهين: "قرارات مهمة للغاية، وإن كانت لن تسمن ولن تغني من جوع".

ويضيف لـ"الاستقلال": "لو نظرت لبند المكافآت والمرتبات والمزايا في مصر لوجدته نحو 325 مليار جنيه (الدولار = 15.7 جنيها مصريا) وفق آخر قراءة رسمية للموازنة الأخيرة، وقد يزيد قليلا لنحو 350 مليار جنيه بالموازنة الجديدة، ولو وفرت هذا المبلغ كاملا فإن الديون ستأكله".

ويوضح أن "عجز الموازنة العامة مزمن وسببه الواضح الآن ليس الأجور ولا المكافآت ولا المنح الدراسية، ولكن الفوائد وأقساط الديون التي تجاوزت تريليون جنيه، الداخلية منها تجاوزت 4.2 تريليون جنيه، والخارجية تعدت 137 مليار دولار".

ويلفت شاهين إلى أن "تلك الأرقام تأتي وفقا لتقارير البنك المركزي في أكتوبر/تشرين الأول 2021"، مؤكدا أن "هذه الفوائد لا مناص منها ولا مجال بغير دفعها".

وفي السياق، يعتقد المستشار السياسي والاقتصادي الدولي ورئيس جامعة "كامبردج" المؤسسية، حسام الشاذلي، أن "هذه القرارات ستنعكس على الموازنة العامة في المدى القصير بالإيجاب، فأقصر طريق هو التخفيض الكبير للمصروفات، ولكنه للأسف علاج مؤقت لا علاقة له بسبب الأزمة والمرض".

ويبين لـ"الاستقلال"، أن "إصلاح الموازنة يتطلب التركيز على الصناعة التكنولوجية، والمشاريع الصغيرة والمتوسطة، والنهوض بالتعليم المؤسسي والبحث العلمي، وإعادة هيكلة السوق، وتوفير البنية التحتية، والظروف الأمنية والسياسية الجاذبة للاستثمار الحر البعيد عن الأهداف السياسية". 

وتبلغ الموازنة المصرية لعام (2021/2022) نحو 2.2 تريليون جنيه فيما بلغ الإنفاق الحكومي في يوليو/تموز 2021، نحو 142 مليار جنيه، وفق بيانات رسمية.

والإنفاق الحكومي هو ما تصرفه من معونات، وعلى البنية التحتية، ودعم المناخ الاستثماري العام، وما تدفعه لأي عمل مجاني للشعب، فيما يجري تمويل الإنفاق الحكومي عن طريق رسوم سك العملات، والضرائب، أو الاقتراض الحكومي.

تقرير وزارة المالية بالنصف الأول من العام المالي (2020-2021)، تحدث عن تحسن مؤشرات المالية العامة بسبب ارتفاع الإيرادات لـ16 بالمئة مسجلة 452.9 مليار جنيه بنحو 7 بالمئة من الناتج الإجمالي، منها 334.3 مليار جنيه إيرادات ضريبية.

التقرير، أكد أنه جرى إنفاق 102 مليار جنيه (6.5 مليار دولار) على باب الاستثمارات العامة، و100 مليار جنيه بباب الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية.

و43 مليارا و18 مليون جنيه بقطاع الصحة، و74 مليارا و939 مليون جنيه بقطاع التعليم، 87 مليارا و156 مليون جنيه لبرامج الحماية الاجتماعية.

إنفاق باذخ

قرارات تقشف الجهات الحكومية أمر غير مسبوق بهذا التوسع طوال حكم السيسي، وإن كانت طبيعية ويجري فرضها على "الطبقة الكادحة" الذين يعانون من قرارات التقشف وتقليل الاستهلاك وتقليص الدعم، بينما رأس النظام يمارس جميع أنواع البذخ.

ومبكرا مع انقلابه العسكري في 3 يوليو/تموز 2013، فرض السيسي التقشف على الشعب، فيما كانت أشهر مواقفه حينما طالب المواطنين في 13 أغسطس/آب 2016، بالوقوف بجانب مصر بترشيد الاستهلاك والتقشف بالإنفاق، مخاطبا المرأة المصرية: "من فضلك قفي جنب مصر".

ذلك الحديث تزامن حينها مع ما كشفته صحيفة "لا تريبيون" الفرنسية في 16 أغسطس/آب 2016، عن بذخ السيسي بشرائه 4 طائرات "فالكون إكس 7" فرنسية الصنع، بـ300 مليون يورو لأجل تنقلاته الخارجية.

هذا إلى جانب، ما كشفته تسريبات المقاول والممثل المعارض المقيم في إسبانيا، محمد علي، المتتالية عام 2019، عن بناء السيسي قصورا رئاسية عديدة بتكلفة كبيرة، وهو ما اعترف به السيسي خلال "مؤتمر الشباب" في سبتمبر/أيلول 2020.

وكذلك بناء رأس النظام للعاصمة الإدارية الجديدة، بما فيها أطول برج وساري علم وأكبر مسجد وكنيسة، وغيرها من مظاهر التبذير، بمناطق أخرى مثل مدينة "العلمين الجديدة" على البحر المتوسط، و"الجلالة" على البحر الأحمر، بعد مشروع حفر تفريعة قناة السويس 2015.

ومع توجه نظام السيسي نحو الاقتراض من البنك الدولي، وصندوق النقد الذي فرض إجراءات بينها زيادة الضرائب على السلع والخدمات وتحرير سعر صرف الجنيه ورفع الدعم عن الطاقة، تتابعت خطابات السيسي عن التقشف وتقليل الاستهلاك.

بل توعد المصريين بتقليص الدعم وزيادة أسعار السلع والخدمات، وبينها الكهرباء والغاز والوقود والمياه وغيرها، مقابل الإنفاق الباذخ على مشروعات الطرق والجسور والقطار الكهربائي والسريع في مناطق غير مأهولة، وغيرها.

السيسي قال في فبراير/شباط 2016، إن الدولة "لا يمكنها الاستمرار في تقديم الخدمات والسلع المدعومة بالطريقة ذاتها التي تقدمها حاليا"، مشددا على أن الإمكانيات المالية للحكومة وموارد الدولة أصبحت محدودة للغاية.

ورغم ضغوط النظام الاقتصادية المتوالية على المصريين إلا أنه لم يتخذ قرارا حقيقيا وذا أثر بترشيد الإنفاق الحكومي إلا في أكتوبر/تشرين الأول 2016، حينما أعلنت الحكومة خفض الإنفاق بنسب بين 10 و20 بالمئة، وهي الخطوة التي "لم يجد لها المصريون أثرا إيجابيا بحياتهم".

وفي يونيو/تموز 2018، بدأت الحكومة ترشيد الإنفاق في 3 وزارت، إذ قررت "الزراعة والري" وقف المكافآت للقيادات العليا والمتوسطة إلا بقرار وزاري، وأوقفت "الآثار" صرف بدل السفر والانتقالات.

وفي ظل جائحة "كورونا" أصدرت وزارة المالية أغسطس/آب 2020، كتابا دوريا للوزارات يتضمن تنفيذ خطة تقشفية من 20 إجراء لضبط الإنفاق العام، حتى نهاية النصف الأول من العام المالي (2020-2021)، إلا أنه لم تظهر أية بيانات حجم ما جرى تخفيضه لصالح الموازنة المصرية.

بل على العكس من ذلك وبعيدا عن مشروعات السيسي، فإن حكومة مدبولي، دأبت على الإنفاق الباذخ برغم تداعيات "كورونا"، وأثارت الجدل بمغادرة وزرائها القاهرة وانتقال الاجتماعات لمدينة "العلمين الجديدة" خلال الصيف، ما يكلف الدولة مبالغ طائلة.

ويقول  المستشار السياسي والاقتصادي الدولي الشاذلي: "لا بد لنا عندما ننظر لقرارات التقشف التي اتخذها النظام أن ننظر للصورة الكلية، وألا نحصر التقييم والرؤية في حدود إطارات تلك القرارات".

ويوضح لـ"الاستقلال"، أن "واقع الأمر الذي لا يختلف عليه أحد أن بوصلة أولويات الصرف والإنفاق والاستثمار وبنود الموازنة أصابها خلل كبير بعهد النظام الحالي".

ويشير إلى "الأموال الطائلة التي صرفها بمشروع تفريعة قناة السويس، والمؤتمرات الدولية، والعاصمة الإدارية ذات التكلفة الفلكية والتي مازال خبراء الاقتصاد الدولي غير قادرين على تفسير سبب إنشائها".

وتابع: "والعدد الكبير من الكباري العشوائية، وطرق القطار الكهربائي ذات الاستثمار المهول بعيدا عن الكثافة السكانية، والمؤتمرات التي لا تنتهي والاحتفالات التي لا تتوقف". 

ويضيف: "في ذات الوقت انهيار شبكة النقل العام، والجهاز الصحي، والمدارس، وارتفاع الأسعار المتوالي، ووصول حجم القروض الخارجية لأكثر من 8.34 مليارات دولار".

الشاذلي، يؤكد، أن "كل هذه وغيرها الكثير تثبت أنه نظام بعيد تماما عن فكر وإستراتيجيات ترشيد الإنفاق".

أزمة حقيقة

ويرى الشاذلي أن "السبب الحقيقي لقرارات فرض التقشف الحكومي يعود لحجم القروض في مصر وفوائدها، والتي ما زالت تسدد بقروض من قروض، وغياب أي بادرة تدعم نمو الصناعة والسوق بحجم قد يضمن إمكانية سداد تلك القروض"،.

ويؤكد أنه "ولأن المؤسسات الدولية المقرضة تشترط دائما مراقبة مؤشرات الصرف الحكومية، فهذه القرارات الآن هي نتيجة حتمية لهذه المراقبة، والتي تستوجب ترشيد أوجه الصرف الحكومي".

ويتابع: "في حين تدل المؤشرات على عجز الدولة عن سداد القروض وفوائدها حاليا أو على المديين المتوسط والبعيد، وهذا يحمل أيضا مؤشرات حمراء فيما يتعلق بخطر الإفلاس العام والذي عندما تعلو مؤشرات إمكانية حدوثه".

"يتطلب الأمر الدخول الفوري في عملية تخفيض المصاريف وبصورة كبيرة، كما يحدث الآن فتلك الأرقام والنسب المصحوبة بهذه السياسة الإنفاقية الجديدة ليست سياسة ترشيد، ولكنها سياسة قطع وإلغاء"، وفق الشاذلي. 

من جانبه، يقول الخبير الاقتصادي شاهين: "قلت قبل 8 سنوات إن التوسع الحكومي في الاقتراض حتما سيضاعف بنود الفائدة وأقساطها في الموازنة العامة للدولة، وأشرت لاحتمال تجاوز الفوائد والأقساط الـ1000 مليار جنيه (تريليون جنيه) وقد حدث".

ويؤكد أنه "الآن هناك نحو 1200 مليار جنيه فوائد وأقساط ديون، والباقي من الموازنة عبارة عن تكملة الأجور والرواتب والدعم والمنح والإنفاق على التعليم والصحة وغيرها".

ويتابع: "إذن هذا التقشف الحكومي لن يسمن ولن يغني من جوع"، ملمحا إلى أن "أزمة لبنان الاقتصادية الحالية نتيجة توسع حكوماتها برواتب علية القوم، فانهار الاقتصاد والعملة وفقدت النقد الأجنبي نتيجة لتهريبه للخارج"، متوقعا أن "يحدث هذا بمصر وبدايته ستكون فقاعة عقارية".

ويجزم شاهين، بأن النظام "لا يمكنه فرض هذا التقشف أو تقليل النفقات والرواتب على الوزارات والأجهزة السيادية"، مشيرا إلى تأكيد مصادر أن أقل راتب لوكيل النيابة نحو 20 ألف جنيه، وأن هناك قضاة يتقاضون 120 ألف جنيه شهريا.

ويقول الشاذلي: "القرار سيؤثر على جميع الأجهزة السيادية مع الأخذ في الاعتبار أن هناك أجهزة متعددة لا تناقش ميزانيتها ولا تعلن ولا حتى لمجلس النواب، ما يثير أسئلة متعددة بشأن مدى جدية تنفيذ تلك القرارات على جهات لا يمكن مراقبتها ولا تدقيقها ماليا، وهي مهزلة لا تعرفها معايير الاقتصاد الدولي". 

ويضيف "أما كبار الموظفين بالحكومة والدولة العميقة فستولد تلك القرارات لديهم غضبا كبيرا؛ نظرا لما اعتادوا عليه من بذخ وإسراف واستغلال للمناصب وفساد مؤسسي مستشر منذ أمد بعيد".

وختم الشاذلي حديثه بالقول: "ولأن نوعية الموظفين الكبار بالدولة ورعاياهم من منسوبي الدولة العميقة يعلمون جيدا بأن النظام لا يتردد في قطع رأس من يثير البلبلة؛ فلن تسمع لغضبهم صوتا ولن يكون تعليقهم إلا همسا، بل سيقبلون الأيادي التي أصدرت القرارات ويهتفون بحكمتها في المقالات والمنتديات".