سيناريو الانقسام مجددا.. كيف تهدد قبائل "البجا" وحدة السودان؟
تصعيد مستمر يشهده شرق السودان، بين الحكومة المركزية في الخرطوم وقبائل "البجا" التي تهدد بإعلان دولة منفصلة في حال لم يتم الاستجابة لشروطها، مع استمرارها في إغلاق ميناء مدينة "بورتسودان" الإستراتيجي، وجميع الطرق الرئيسة المؤدية إلى العاصمة.
وتبرز قبائل "البجا" وقائدها محمد الأمين ترك، في المشهد، كمحرك رئيس للمظاهرات، ما أثار الفضول للتعرف على تاريخ وجذور هذه القبيلة العريضة المسلحة، التي تضم عشرات المكونات وتحكم قبضتها على شرق البلاد "الحيوي".
وبات السؤال هل يؤدي الحراك الحالي في شرق السودان بمكوناته المتعددة واستقطاباته الحادة بين طرفي الحكومة الانتقالية إلى إحياء سلطة عموم "البجا"، وإعلان دولتهم على غرار ما حدث في جنوب السودان قبل سنوات؟
"دولة البجا"
وفي 4 أكتوبر/شرين الأول 2021، توعد القيادي بالمجلس الأعلى للبجا والعموديات المستقلة، اللواء عثمان الباقر، بأن المجلس بصدد إعلان "دولة البجا" المستقلة عن السودان.
وقال في كلمة جماهيرية إنه "تم تجاوز أي تصعيد مدني في التعاطي مع الخرطوم والانتقال إلى التصعيد الثوري"، مضيفا "نحن في طور الدخول في عصيان مدني".
وتطورت الأحداث في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2021، حيث قال رئيس مجلس نظارات "البجا" والعموديات المستقلة شرق السودان، محمد ترك، إنه لا يمانع في إجراء لقاء مع رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، ولكن بشرط "حل الحكومة أولا"، و"تشكيل حكومة كفاءات وطنية".
وأضاف محذرا أن "الإقليم لن يكون موردا اقتصاديا" تعتمد عليه ما وصفها بـ"حكومة الأحزاب المجهرية الصغيرة".
وأشار ترك إلى رفضه تدخل "الجبهة الثورية" (فصائل مسلحة معارضة) في قضايا شرق السودان، مشددا على أن نظارات البجا والعموديات "لا تحتاج دعما من المكون العسكري، لكن المكون المدني (حكومة قوى الحرية والتغيير)، كان يريد من العسكريين إبادة شعب شرق السودان بأكمله"، على حد تعبيره.
وتأتي الملاسنات في وقت يستمر فيه إغلاق موانئ شرق السودان بأمر من مجلس نظارات البجا؛ بهدف الضغط على الحكومة المركزية لتحقيق عدد من المطالب السياسية، بينها إلغاء مسار شرق السودان (ضمن اتفاق السلام الموقع في جوبا، 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2020)، وحل الحكومة وتشكيل حكومة تكنوقراط.
ودخلت مجموعة الترويكا (الولايات المتحدة، وبريطانيا والنرويج) على الخط، في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وطالبت بإنهاء حصار ميناء بورتسودان والبنية التحتية للنقل شرق السودان، على الفور وبشكل عاجل.
ومنذ 17 سبتمبر/أيلول 2021، خرجت احتجاجات في ميناء بورتسودان ضد اتفاق السلام التاريخي الذي وقعته الحكومة الانتقالية في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، بمدينة جوبا مع عدد من الحركات والقبائل التي حملت السلاح في عهد نظام عمر البشير (1989-2019).
وطالب المحتجون بإلغاء الاتفاق المذكور، معتبرين أنه "لا يضمن تمثيلا عادلا لمنطقة شرق السودان وقبائلها".
أبعاد الأزمة
أزمة شرق السودان ليست وليدة اللحظة الراهنة، بل ممتدة منذ تأسيس الجمهورية نفسها عام 1956، ووصلت إلى المطالبة بالحكم الإقليمي، ثم قيام مؤتمر البجا الذي دعا للكفاح المسلح عام 1964، وصولا إلى تكوين جبهة الشرق في عهد النظام السابق.
وعقب الإطاحة بحكم البشير عام 2019، بدأت المرحلة الانتقالية، وبدأ معها مسار شرق السودان، ضمن المسارات الخمسة في اتفاق السلام، الذي جرى توقيعه بين الحكومة والجبهة الثورية، بعاصمة جنوب السودان جوبا.
وارتكزت مفاوضات جوبا على 5 مسارات، هي: مسار إقليم دارفور (غربا)، ومسار ولايتي جنوب كردفان (جنوبا) والنيل الأزرق (جنوب شرق)، ومسار شرقي السودان، ومسار شمالي السودان، ومسار وسط السودان.
وشهد 4 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، إغلاق محتجين ميناء "بورتسودان الجنوبي" على البحر الأحمر، احتجاجا على "مسار الشرق" المضمن في اتفاق السلام.
وبدأ التصعيد ضد الاتفاق بإغلاق "منطقة العقبة" في الطريق القومي المؤدي إلى الموانئ الرئيسة بالبحر الأحمر، وبلغ ذروته بإغلاق ميناء سواكن والجنوبي "بورتسودان" الخاص بنقل وتفريغ البضائع في مدينة بورتسودان.
ثم أعلنت نظارات قبائل البجا أن "مسار الشرق لا يمثل أهل شرق السودان، ونحن ضد الارتهان للأجندة الخارجية".
وأكدت "استمرارها في التصعيد حتى تحقيق مطالبها، بإلغاء مسار الشرق في الاتفاق، وعدم الارتهان للأجندة الخارجية".
منطقة إستراتيجية
"شعب البجا" الذي يبشر بدولته ويسعى إلى حكم ذاتي، يعيش من قديم الأزل في إقليم شرق السودان بالغ الأهمية، ويضم ثلاث ولايات هي البحر الأحمر وكسلا والقضارف، ويعتبر إستراتيجيا كونه يحد إريتريا ومصر وإثيوبيا، ويمتد فيه ساحل على البحر الأحمر طوله نحو 500 كلم، وتوجد عليه مرافئ نفطية.
كما يضم الإقليم 5 أنهر، وأكثر من ثلاثة ملايين ونصف مليون هكتار من الأراضي الزراعية.
هذه الموارد تشكل عناصر مهمة للسودان الذي يعاني من اقتصاد متداع؛ نتيجة سوء الإدارة والعقوبات الاقتصادية في عهد البشير.
وحسب دراسة أعدها الباحث السوداني إدريس نور محمد، بعنوان "إخفاقات الماضي شرق السودان.. وطموحات المستقبل"، فإن حدود الإقليم الشرقي هي البحر الأحمر شرقا، وإريتريا، وإثيوبيا جنوبا، والنيل غربا، حتى حدود النيل الأزرق في الجنوب الغربي، ومصر شمالا.
ويمتد من المنحدرات الشمالية للهضبة الإثيوبية في الجنوب إلى الحدود السودانية المصرية شمالا، وتبلغ مساحته 110 آلاف ميل مربع.
ويمتاز الإقليم من الناحية التاريخية باحتضانه لأقدم الحضارات الإنسانية، كما كان من أهم البوابات التي دخلت من خلالها العروبة والإسلام إلى السودان.
وتقدر ثروات قاع ما تحت البحر الأحمر في تلك المنطقة بمليارات الدولارات، مضافا لذلك المعادن من الأحجار الكريمة، كما توجد معادن أخرى بالإقليم، مثل الحديد والنحاس والتنجستن، هذا إلى جانب الرخام والحجر الجيري.
شعب البجا
يصل تعداد "البجا" في السودان وحده إلى أكثر من مليونين ونصف المليون، وبحسب إجماع المؤرخين فإنهم قوم ذو جذور عريقة، يعود تاريخهم في المنطقة إلى 5 آلاف سنة، وهم عصارة أمم متنوعة، دمجتهم اللغة والثقافة والأرض.
وتضم هذه القبيلة، مكونات رئيسة على رأسهم "الهدندوة، البني عامر، والحلنقة، والبشاريين، الأشراف، الأرتيقة، الشياياب، العبابدة، الكميلاب، الملهيتنكناب".
والسمة التي تغلب على قبائل البجا الطابع البدوي، وما يمتاز به من بساطة وكرم، كما أنهم يعرفون بالشجاعة والميل المستمر إلى القتال، بينما تلتزم نساؤهم بغطاء الوجه، ولا يذهبن للتسوق.
وذكرهم المؤرخ الإسلامي، تقي الدين المقريزي، في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار".
وقال "بعد الإسلام تدفقت سيول من الهجرات العربية والقرشية والأموية والجهنية والرفاعية والبلوية إلى ساحل البجا، واختلطت بهم وتزاوجت معهم، ولكن اللهجة البجاوية والطابع البجاوي هو الشيء الوحيد الذي بقي حتى الآن وورثته كل القبائل المهاجرة لأرض البجا".
وأوضح المقريزي أن "أغلب قبائل البجا اليوم عربية محضة، وبعضها الآخر مختلط بالعرب، فالبجا لها عربية من جهينة ورفاعة وهوازن وكاهل، وثلاثة من بطونها قرشية شريفة".
وطالما اشتكت قبائل البجا من التهميش السياسي والتنموي، وقادت حروبا ضارية ضد الحكومة المركزية في الخرطوم خلال حقبة تسعينيات القرن الماضي، وفي الوقت الراهن تبدأ العصيان من جديد، واحتمالية الدخول في طور يؤدي إلى تفكك الشرق بأكمله عن الوطن الأم.
دولة غائبة
وقال السياسي السوداني أمين عبد الرازق إن "الأزمة التي يشهدها شرق السودان تنذر بعواقب وخيمة على البلاد، خاصة وأنه في سياق هشاشة الحكومة، وتحديات المرحلة الانتقالية المتعثرة، قد تؤدي إلى تكرار سيناريو دارفور في الشرق، وربما يصل إلى أبعد من ذلك مع إمكانيات تكرار السيناريو الكارثي الذي انتهى بانفصال جنوب السودان".
وأضاف في حديث مع "الاستقلال": "يبدو أن أصل المعضلات هي سياسة توظيف الأجندات الخاصة، لخدمة مصالح أيديولوجية أو فئوية ضيقة لمكونات الحكومة الجديدة، ويبدو أن جميعهم يقرؤون من نفس كتاب الفشل الأوحد".
وتابع: "وهو ما يفسر تكرار تهاوي السودان المستمر، وانقسامه إلى دول ودويلات ثم قبائل وحركات، الدولة الوطنية والشعب العريق بمكوناته وأطيافه اجتمعت عليه ويلات التهميش، وفي نفس الوقت تتدافع قوى إقليمية ودولية لممارسة الدور واكتساب النفوذ، والهيمنة على خيرات السودان شرقا وغربا".
واعتبر عبد الرازق أن "المراحل الانتقالية هي الثغرة الكبرى ونقطة الضعف في حياة الأمم، وكان على دولة مترهلة مثل السودان مثقلة بأزمات داخلية وخارجية أن تتجاوز المرحلة سريعا، وتعقد انتخابات تأتي بحكومة تمثل أطياف الشعب، وتبدأ بحل المشكلات سريعا مثل مسار شرق، ودارفور، بالإضافة إلى الحركات المسلحة".
وشدد على أن "اشتعال الشرق بهذه الطريقة مرة أخرى ينذر فعليا بكارثة قد تؤدي إلى فصله وإعلان دولة البجا كما يبشر بها، أو حتى قد تزرع بذور تلك المرحلة لاحقا".
وختم عبد الرازق حديثه بالتأكيد على أن "الحكومة القائمة لن تستطيع التعامل مع أزمة الشرق الراهنة، وليس لها ثقل سياسي أو قدرة على لعب ذلك الدور المركب، وعلى جميع القوى الوطنية التدخل والانخراط في مشروع جديد ينتشل السودان من محنته، ويعيد اللحمة بين أطياف شعبه، ويمنع الحروب الأهلية أو النزعات القبلية".