أنفاق المقاومة بغزة.. كيف فشلت إسرائيل في تدميرها طوال عقدين؟
"كانوا كالأشباح، وكنا نراهم يخرجون من تحت الأرض، لا يمكن أن تفهم أو تعرف من أين جاؤوا، يخرجون من فوهات الأنفاق دون إعارة أي اهتمام لدباباتنا، كانوا يتقصدون التوجه لناقلات الجند، ولا ندري لماذا".
هكذا روى أحد أفراد لواء النخبة بالجيش الإسرائيلي "غولاني" كيف وقعت وحدته القتالية في كمين لكتائب القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس، في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، خلال حرب عام 2014 بتاريخ 21 يوليو/تموز.
واعترف الجيش الإسرائيلي في حينه بمقتل 13 من أفراد اللواء، وإصابة 50 آخرين، بينهم ضباط كبار، وكذلك فقدان الجندي آرون شاؤول، في هذا الكمين.
وشكلت سلسلة العمليات التي نفذتها المقاومة الفلسطينية من خلال الأنفاق الأرضية، صدمة كبيرة لدى الاحتلال وأربكت حساباته.
وباتت الأنفاق وسيلة تنقّل آمنة لعناصر المقاومة، مكنتهم من اقتحام مواقع الاحتلال على الحدود بين قطاع غزة والأراضي المحتلة، أو مباغتة الجيش الإسرائيلي لدى توغّله نحو الحدود.
في حين تتخوّف إسرائيل من تحول الأنفاق إلى سلاح يمكّن المقاومين من التسلل للأراضي المحتلة، وتنفيذ عمليات ضد الجنود والمستوطنين، وهو ما دفعها لإعلانها تهديدا إستراتيجيا عام 2014.
تفجير وأسر
بدأت المقاومة الفلسطينية مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000. باستخدام الأنفاق كسلاح ضد الاحتلال منذ قرابة العقدين.
وفجرت المقاومة نفقا أسفل موقع (ترميد) العسكري، داخل الشريط الحدودي الفاصل بين مصر وقطاع غزة بتاريخ 26 سبتمبر/أيلول 2001، وهو ما أسفر عن مقتل جنديين إسرائيليين، وإصابة 5 آخرين بجروح، حسب اعتراف الاحتلال.
وكانت هذه العملية بداية حرب الأنفاق، ليستمر هذا النوع من العمليات، وتشمل مواقع حدودية، ونقاط مراقبة متاخمة لقطاع غزة، حيث بلغت حصيلة قتلى الاحتلال من عمليات الأنفاق 21 قتيلا منذ العام 2005، حسب أرقام إسرائيلية.
ونفذت كتائب القسام وألوية الناصر صلاح الدين (الجناح العسكري للجان المقاومة في فلسطين) في يوليو /تموز 2006. عملية هي الأولى من نوعها، من خلال التسلل عبر نفق داخل تحصينات الاحتلال شرق "رفح"، وهو ما أدى إلى مقتل جنديين إسرائيليين، وجرح 5 وأسر الجندي "جلعاد شاليط".
وبعد 5 سنوات من احتجازه، أفرج عن "شاليط" ضمن صفقة "وفاء الأحرار" والتي حررت المقاومة بموجبها 1027 أسيرا فلسطينيا من سجون الاحتلال، بينهم قيادات وازنة للمقاومة.
مع اندلاع العدوان الإسرائيلي عام 2014، تبين أن المقاومة أعدت بنية تحتية تحت الأرض، حيث حفرت أنفاقا قتالية هجومية متطورة، تستخدم في تنفيذ عمليات الاقتحام العسكري، وتمتد داخل الأراضي المحتلة، وأخرى دفاعية قتالية داخل قطاع غزة، وعلى أطراف المناطق السكنية.
يتفرع من تلك الأنفاق عشرات "العيون" (مخارج ومداخل)، وتستخدم للتصدي للاجتياحات البرية، بجانب أنفاق المدفعية والصواريخ، وهي حفر صغيرة في الأرض مجهزة بمدافع هاون أو راجمات صواريخ.
وجهت المقاومة الفلسطينية ضربات قاسية للاحتلال الإسرائيلي، خلال هجومه البري في الحرب الأخيرة على قطاع غزة عام 2014، حيث انطلقت معظم العمليات من الأنفاق.
وقد تمثلت أهم العمليات العسكرية باستخدام الأنفاق في تفجير نفق أسفل موقع "كرم أبو سالم" العسكري شرق رفح، في 8 يوليو/تموز 2014. وكذلك اقتحام “موقع صوفا” جنوب شرق القطاع في 17 من نفس الشهر، والذي تمكّن خلاله مقاتلو المقاومة من إعطاب منظومة استخبارية، حسب ما قالت كتائب القسام.
واقتحمت كتائب القسام موقع “أبو مطيبق” شرق المحافظة الوسطى، في 19 يوليو/تموز 2014، حيث أعلنت عن مهاجمة 3 جيبات عسكرية إسرائيلية، والإجهاز على كل من كان بداخلها من مسافة صفر، تلتها عملية "ناحل عوز” شرق الشجاعية، والتي قتل فيها 10 جنود، حسب ما أعلنته الكتائب.
وقد عرضت "كتائب القسام" فيديو يوثّق عملية اقتحام موقع "أبو مطيبيق" وتقديم معلومات أخرى عن العملية.
ومن خلال أحد الأنفاق المفخخة، فجّرت "سرايا القدس" الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، إحدى الآليات العسكرية في بيت حانون من نوع (ميركافاه 4)، في 18 يوليو/تموز ، وفق ما أعلنته.
ونفذت "القسام" عملية تسلل، عبر نفق في منطقة الريان في محيط معبر "صوفا" جنوب القطاع في 19 يوليو/تموز، حيث هاجم مقاتلوه تجمعا للجنود، قتلوا فيه خمسة جنود إسرائيلين، كما هاجمت الكتائب في 24 يوليو/تموز آليات إسرائيلية متوغّلة شرق القرارة بعبوتي (شواظ)، وفجرت عبوة رعدية بقوة راجلة واشتبكت معها، وأسفرت العملية عن مقتل 5 جنود.
وأعلن "القسام" عن عملية تسلل خلف الخطوط شرق حي التفاح 24 يوليو/تموز، قتل فيها 8 جنود إسرائيليين حيث جرى الاشتباك من مسافة صفر، ودمرت خلال العملية ناقلة جند.
وكانت آخر عمليات الأنفاق في حرب 2014، عملية "رفح" أقصى جنوب القطاع، حيث توغلت قوات الاحتلال بعمق يزيد عن كيلومترين شرق المدينة، خلال سريان التهدئة، حيث هاجمت كتائب القسام قوات الاحتلال المتوغلة من خلال نفق من مسافة صفر، وأعلن الاحتلال عن فقدان الجندي هدار جولدن ومقتل وإصابة آخرين.
سلاح إستراتيجي
ومن جانبه، قال الخبير في الشؤون الإسرائيلية "حاتم أبو زايدة": "إن أنفاق المقاومة الفلسطينية باتت سلاحا إستراتيجيا في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وشكلت معضلة عسكرية بالنسبة لقادته، حيث غيرت مسار المواجهة بشكل كامل".
وأوضح في حديث لـ"الاستقلال" أن الأنفاق أوجدت تكتيكا يسهل على عناصر المقاومة الوصول لساحة المعركة، وتنفيذ ضرباتهم وأسر جنود، وهو ما حدث فعلا خلال العدوان الأخير.
وأضاف: "توقفت العمليات الاستشهادية لسنوات في الضفة الغربية، بسبب الخطة الأمنية الإسرائيلية، ولكنها عادت في غزة حيث وفرت الأنفاق طريقا لوصول الاستشهاديين لتجمعات الجنود، سواء داخل الحدود وخارجها، وتنفيذ عملياتهم من مسافة صفر، وهو ما كانت تخشاه إسرائيل".
وأكد أنه، وعلى الرغم من خطط الاحتلال الموضوعة سلفا لاجتياح شامل لقطاع غزة، فإنها ستبقى حبرا على ورق، في ظل وجود مدينة أنفاق مسلحة تحت الأرض، ستجعل لكل تقدم ثمنا باهظا من أرواح الجنود الإسرائيليين، وهو ثمن لا يستطيع تحمله جيش الاحتلال الذي يجند جزءا كبيرا من المدنيين (قوات الاحتياط) خلال كل حرب.
وشدد على أن الأنفاق أضرت كثيرا بفعالية سلاح الطيران، وخصوصا الطائرات بدون طيار خلال الحروب، حيث كانت الطائرات تستهدف بسهولة تجمعات المقاومين ومواقعهم، وكذلك منصات إطلاق الصواريخ، ولكن اليوم باتت حركة المقاومين تحت الأرض، وكذلك إطلاق الصواريخ يتم من خلال الأنفاق المخصصة لذلك، كما قال.
وبدوره قال الباحث الفلسطيني "زكريا أبو سليسل": "إن الأنفاق مكنت قطاع غزة من التغلب على الطبيعة الجغرافية، حيث يمتاز القطاع بأرضه الساحلية المسطحة، وهو ما يقيد تحركات المقاومة، ويمنعها من المناورة فوق الأرض، على خلاف لبنان على سبيل المثال، إذ ساهمت الطبيعة الجبلية في تمكين حزب الله في حرب 2006. من إيقاع ضربات مؤلمة بجيش الاحتلال".
وأضاف في حديث لـ "الاستقلال": "سلاح الأنفاق أثبت فاعليته؛ كما أنها لم تنهر في الحرب الأخيرة، وتم تنفيذ عمليات منها ضد الاحتلال، على الرغم من سياسة الأرض المحروقة التي تطبقها إسرائيل، والتي تتمثل في قصف شامل للمناطق التي ستتوغل فيها".
وعقب الهزائم العسكرية التي تلقتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة خلال الحرب الأخيرة، تفجرت موجة من الغضب الشعبي والسياسي، حيث قررت لجنة برلمانية في "الكنيست" فتح تحقيق في القرارات التي اتخذتها الحكومة والمجلس الوزاري المصغر خلال الحرب، خاصة ما يتعلق بإستراتيجية الأنفاق.
بعد انتهاء الحرب قال الخبير الإستراتيجي الإسرائيلي "يوآف شاروني"، في مقال معنون بـ"هزيمة جيشنا المدلل العزيز" نشرته صحيفة هآرتس عام 2014: "مثلت الأنفاق تحديا كبيرا لجيشنا، ومنحت الفصائل الفلسطينية الفرصة ليظهر مقاتلوها في "مشهد هوليودي" من عين النفق، ويتحركوا باتجاه مواقعنا، ويقوموا في أقل من دقيقتين بقتل جنودنا"، حسب وصفه.
وبعد العدوان الإسرائيلي، سادت حالة من الرعب لدى المستوطنين فيما يعرف بـ"مستوطنات غلاف غزة"، حيث أبلغوا مرات عديدة عن سماعهم هدير حفر أسفل منازلهم وسجلوا الأصوات، وهجر بعضهم تلك المناطق خوفا من أنفاق المقاومة التي يعتقدون أنها باتت أسفل منازلهم.
وأظهر تقرير للقناة الإسرائيلية العاشرة عام 2016، لجوء أحد مستوطني الغلاف للنوم وبيده سكين، خوفا من مباغتته من مجموعة مقاومة قادمة من غزة عبر الأنفاق.
محاولات الإعاقة
وتبذل إسرائيل حاليا جهودا كبيرة لتجاوز خطر الأنفاق الهجومية العابرة للحدود، حيث بدأت بعدة مشاريع هندسية ضخمة تهدف لاكتشافها وتدميرها.
وأنهى جيش الاحتلال مطلع عام 2018. تثبيت نظام مجسّات استشعارية لكشف الأنفاق على طول الحدود مع غزة، من شأنها تمكينه من الحصول على إنذارات بشأن أعمال الحفر وتحديد مكانها، حيث تم تثبيت ذات النظام على الحدود بين دولة الاحتلال ولبنان لاكتشاف أنفاق حزب الله.
وبجانب نظام المجسات، تبني إسرائيل حاليا عائقا أرضيا بطول 60 كيلو مترا، جزء منه تحت الأرض، والآخر فوقها، على طول الحدود مع قطاع غزة لمنع حفر الأنفاق.
تقدر تكلفة المشروع بثلاثة مليارات شيكل إسرائيلي. وقد تم تزويد العائق بتكنولوجيا متطورة، بهدف الإخطار في حالة حفر أنفاق، أو كانت هناك نية لتخريب العائق نفسه.
وادعت إسرائيل اكتشافها في 19 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، نفقا للمقاومة الفلسطينية ينطلق من مدينة "خانيونس" جنوب قطاع غزة، ويخترق الحدود بنحو عشرات الأمتار ، ورجح الاحتلال أنه حفر بعد حرب 2014 .
ويزعم الجيش الإسرائيلي أنه اكتشف 20 نفقا منذ تلك الحرب الأخيرة، حيث كشفت صحيفة "هآرتس" أن التقديرات تشير إلى وجود مزيد من الأنفاق العابرة للحدود باتجاه مستوطنات الغلاف، رغم استكمال بناء الجدار الأرضي تقريبا.
واستشهد العديد من المقاومين الفلسطينيين أثناء العمل بالأنفاق، حيث تحدُث انهيارات خلال عمليات الحفر؛ كان آخرها ارتقاء مقاوم من كتائب القسام في سبتمبر /أيلول 2020. شمال قطاع غزة.
وفي بعض الحوادث يرتقي عدد كبير من المقاومين، كاستشهاد سبعة منهم في انهيار نفق شرق غزة في يناير/كانون الثاني 2016.
وبجانب التكلفة الكبيرة في الأرواح، فإن حفر النفق الواحد مكلف جدا، بالنسبة للإمكانيات المادية المتواضعة لدى المقاومة في غزة، حيث يتطلب توفير كميات كبيرة من الفولاذ، وحديد الزهر وكذلك الخرسانة المسلحة كتبطين للنفق داخليا، وفي المقابل تمنع إسرائيل إدخال أي مكونات من الممكن أن يتم استخدامها في الأنفاق.