الكنيسة الأرثوذكسية في مصر.. كيف أصبحت فوق الدستور والقانون؟
بينما كانت مشاهد هدم السلطات المصرية لعشرات المساجد في مختلف المحافظات، تملأ وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، تم تداول مقاطع أخرى لقساوسة يحذرون ويتوعدون أنه "لا أحد قادر على المساس بالكنائس".
خلال حملة الإزالات الأخيرة، للأبنية المخالفة، التي طالت سائر محافظات مصر، ووسط حطام كامل للأبنية والمنشآت من الاتجاهات الأربعة، بقيت "الكنيسة" وحدها هي القائمة، لم يطلها معول الهدم.
المسلمون الغاضبون من هدم مساجدهم بدعوى أنها مخالفة لقوانين البناء، عقدوا مقارنة مع الكنائس التي ظلت باقية رغم أنها مخالفة أيضا لقوانين البناء باعتراف مسؤولين كنسيين.
فلماذا تغاضت أجهزة السيسي عن تطبيق القوانين على الكنائس وطبقتها فقط على المساجد وبيوت الفقراء والبسطاء من عامة الشعب؟ ولماذا لا يتم فتح ملف أراضي الأديرة المخالفة والممتدة على أراض شاسعة بطول وعرض محافظات مصر؟ كل تلك الأسئلة باتت مطروحة على الملأ، في ظل الحديث عن تغول الكنيسة كمنظومة سياسية تتجاوز الأبعاد الدينية والعقائدية.
مكاشفات قس
مقطع مصور انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا، تضمن كلمة للأنبا يؤانس أسقف أسيوط وهو يقول: "ما يقارب 80 % من كنائسنا، بنيت على أراضي زراعية، وبوضع اليد، وأراضي ليست لها ملكية، وبدون ترخيص، والقانون يقول إن (أي مكان تمت الصلاة فيه) سوف يتم تقنينه ككنيسة".
وأضاف: أن "قانون بناء الكنائس، يجعل من كل الكنائس التي نصلي فيها، سواء 100 متر أو 200 متر أو 1000 متر، واللي (التي) من غير ورق، واللي من غير طلبات، ده فيه كنيستين في القاهرة تم بناؤهم بالتليفون (فقط) ولا لها ورق، ولم نقدم ورقا أو طلبا، وكل هذا سوف يتم تقنينه، فكم يساوي هذا الأمر!".
وأردف: "وكل هذا الأمر (خد وهات)، أنا آسف لقول هذا والتلفزيونات شغالة"، وفي إشارة للتعامل بين الكنيسة والنظام ضرب الأنبا يؤانس مثلا: "عندما يطلب مني طلب وأنفذه على الفور، فسيتم رد هذا لي، وسوف يعطيني عينيه، أما لو تقاعست فلن يتم تنفيذ طلباتي وستحال للدراسة والتأجيل".
مساحات شاسعة
سطوة الكنيسة كمنظومة سياسية واقتصادية، تتجاوز مجرد كونها هيئة دينية للمسيحيين الأرثوذكس في مصر، وهو ما ظهر في الحجم الهائل للأديرة الممتدة في طول البلاد وعرضها، والتي يصل مساحة بعضها إلى مساحة دول كاملة.
وهو ما أظهرته العديد من الدراسات التي تناولت أماكن ومساحات تلك الأديرة، ففي 31 أغسطس/ آب 2016، أظهرت إحصائية رسمية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي)، عن عدد الكنائس المقامة في مصر حيث بلغت نحو (3126 كنيسة)، بالإضافة إلى عشرات الأديرة المنتشرة في ربوع مصر، موضحة أنها تتسع لنحو 24 مليون مصل، أي ما يقارب (ربع سكان مصر).
وفي مارس/ آذار 2014، كشفت دراسة للمستشار حسين أبو عيسي المحامي بالنقض، والمستشار السابق بالمحاكم العسكرية، أن أكبر الأديرة في مصر هو دير "أبو مقار" بالمنيا، الذي تبلغ مساحته نحو (2700 فدان)، أي ما يعادل (11.340.000 متر مربع) تقريبا، ويتسع لنحو (11 مليونا و340 ألف مصل)، كحد أدني، و23.9 مليون مصل كحد أقصي، طبقا للاعتبارات الأممية التي تنص علي أن حق الفرد 0.46 مترا مربعا للتعبد كحد أدنى، أي حوالي ضعف عدد الأقباط في مصر.
وأضافت الدراسة أن مساحة دير "أبو مقار"، تعادل 25 مرة مساحة دولة الفاتيكان، التي تبلغ مساحتها 440 ألف متر مربع فقط.
وذكرت أنه بمقارنة دير أبو مقار بأكبر المساجد الإسلامية في العالم وهو الحرم المكي الشريف الذي تصل مساحته نحو (356.000 متر مربع)، ويتسع لنحو (773.000 مصل)، باعتبار أن المصلي لا يتحصل في المسجد الحرام إلا على الحد الأدنى لمكان العبادة وهو 0.46 مترا مربعا، تكون مساحة هذا الدير أكبر منه بما يزيد على أكثر من 15 ضعفا.
أما ثاني أكبر الأديرة بحسب الدراسة، فهو دير "أبو فانا" بالمنيا الذي تبلغ مساحته نحو (600 فدان) أي ما يعادل 2 مليون و520 ألف متر مربع)، وهذه المساحة تكفي (2.5 مليون مصل) كحد أدنى و5.5 ملايين مصل كحد أقصى بنفس الحسبة السابقة.
أما مساحة دير ماري مينا، تعادل تقريبا نفس مساحة دير أبو فانا، وما يميز هذا الدير، الذي رصدته دراسة الباحث المصري، أنه "يضم العديد من المصانع مثل مصنع للجبن، والآيس كريم، والمخللات، والعصائر، ومصنع للصلصة"، بجانب مزرعة أبقار، ومزرعة أسماك، وغيرها من الأنشطة الاقتصادية المختلفة.
وأوردت الدراسة أن ذلك، يعني أن مساحة أكبر 3 أديرة في مصر تبلغ نحو 3900 فدان أي ما يعادل (16.380.000 مليون متر مربع) تكفي مساحتها لـ16 مليونا و380 ألف مصل قبطي كحد أدني، أي نحو 3 أضعاف عدد المسيحيين في مصر.
في فبراير/ شباط 2011، قام الرهبان المسؤولون عن دير الأنبا مكاريوس بالاستيلاء على أراض تابعة للمحمية الطبيعية بوادي الريان، بمحافظة الفيوم بالقرب من القاهرة، بما يقارب (13 ألف فدان)، وضمها إلى حرم الدير وبناء سور حولها بامتداد 10 كيلو مترات، مستغلين حالة عدم الاستقرار التي كانت سائدة في البلاد عقب ثورة 25 يناير، والانفلات الأمني الذي حدث حينها.
واضطرت الدولة والكنيسة إلى الاستعانة بالأنبا مكاريوس، أسقف عام المنيا جنوب مصر، للتدخل بعد صدام ومواجهات بين الأهالي والرهبان، وتم حل المشكلة من خلال تخصيص مساحة 3 آلاف فدان وضمها إلى الدير، إضافة إلى ألف فدان أخرى تخصص كمحمية طبيعية، والسماح بشق طريق يصل طريق الإسكندرية بالواحات الغربية مرورا بالفيوم.
فوق الدستور
وقفت الكنيسة الأرثوذكسية في مصر، بشكل صارم معترضة على المادة 212 من دستور 2012، الذي تمت كتابته إبان عهد الثورة، ونصت المادة على أن "تقوم الهيئة العليا لشؤون الوقف بتنظيم مؤسساته العامة، والخاصة وتشرف عليها وتراقبها وتضمن التزامها بأنماط أداء إدارية واقتصادية رشيدة وتنشر ثقافة الوقف في المجتمع".
وفق مراقبين حينها فإن "اعتراض الكنيسة لم يكن بسبب الطابع الإسلامي الذي يميز نظام الوقف، لكن لخشيتها من خضوع الأديرة إلى رقابة الدولة والحكومة والكشف عن حجم الممتلكات والأراضي الشاسعة التي تقوم عليها".
الكنيسة في مصر انتهجت سياسة فرض الأمر الواقع لضم مساحات كبيرة إلى الأديرة من خلال بناء أديرة منفصلة داخل الصحراء تكون بمثابة أماكن لإقامة الرهبان، وبعد فترة يقومون ببناء سور حول تلك الأديرة لتصبح هذه المساحات ضمن أملاك الدير.
وعندما تقوم الحكومة بإزالة هذه التعديات يتم إظهار الحدث على أنه اضطهاد ديني للمسيحيين، وغالبا ما يقوم أقباط المهجر، بدافع من الكنيسة بالتظاهر في الخارج كوسيلة ضغط على الحكومة المصرية للتراجع، وغالبا ما تتم تسوية الأمور بالتوافق وقبول الأمر الواقع.
سلاح بالكنائس
الحديث عن قوة "الكنيسة" الأرثوذكسية في منظومة الحياة السياسية المصرية، لم تكن مستجدة، ولا أسيرة وقائع الاستيلاء على أراضي الدولة، بل هناك ما هو أخطر من ذلك، خاصة ما يتعلق بوجود أسلحة ومليشيات داخل الكنائس تهدد أمن الدولة.
في 16 سبتمبر/ أيلول 2010، تحدث المفكر الإسلامي الدكتور محمد سليم العوا عن ذلك صراحة بقوله: "الكنيسة تحولت إلى إمبراطورية موازية للجمهورية المصرية، ولا يستطيع أحد التدخل فيما تفعله، مستدلا بتصريحات الأنبا بيشوي التي أكد فيها على أن ما يحدث داخل الكنيسة لا يحق لأحد التدخل فيه".
كما أعرب العوا عن أسفه "لتورط جوزيف نجل وكيل مطرانية بور سعيد (شمالا) بطرس الجبلاوي ونجل الأنبا اثناسيوس مطران كنيسة (مارمينا) في جلب سلاح من إسرائيل بموجب ما ضبطته أجهزة الأمن لتخزينها في الكنائس، لمحاربة أبناء وطنه من المسلمين".
وقال: "ضبط هذه الشحنة تعني كارثة محققة، خاصة وأن عرف أجهزة الأمن يؤكد أن ضبط شحنة تعني مرور 20 شحنة سابقة غيرها".
وسبق للأنبا بيشوي، رئيس المجلس الإكليريكي في الكنيسة المصرية، الحديث عن رفض خضوع الكنائس للدولة والتفتيش، وهاجم المسلمين بأنهم مجرد ضيوف على المسيحيين.
العوا رد عليه غاضبا: "الكنائس دي مؤسسات من مؤسسات الدولة المصرية القضاء المصري مستقر على أنها مرفق عام يقوم على شأن الديانة المسيحية تحاسب بقوانين مصر. يأتي رجل زي ده ويقول عن المسلمين ضيوفا وهم 96% ولا 94% ويقول إن هؤلاء ضيوف نحن رحبنا بهم ودلوقت يريدون أن يحكموا كنائسنا".
وعن علاقة الكنيسة بالدولة في مصر، قال المفكر الإسلامي: إنها "تعمل عملا سياسيا واضحا، ليس فيه كلام. هذا عمل سياسي واضح مخالف لما يقولون إنه العقيدة الكنسية، العقيدة الكنسية أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ولكن الكنيسة في مصر لا تفعل ذلك".
دولة مستقلة
الداعية الإسلامي الشيخ عصام تليمة، قال لـ"الاستقلال": "لو عقدنا مقارنة بين تدخل النظام الحاكم في شؤون الأزهر، في كل صغيرة وكبيرة فيه، بينما يترك إدارة الأديرة للكنيسة خالصة لا يتدخل فيها أحد، حتى أصبحت دولة مستقلة داخل الدولة، وكلما حدثت حادثة في دير من الأديرة كلما فتح أعين الناس على المسكوت عنه داخل هذه الأديرة".
وأضاف: "هل يستطيع مسؤول في مصر فتح ملفات الأديرة والكنائس؟! حتى أنه عندما تحدث الدكتور محمد سليم العوا سنة 2010، عن وجود أسلحة داخل بعض الكنائس والأديرة، اشتعل الرأي العام في مصر، إذ كيف يتجرأ على هذا الاتهام الخطير، وأنه كلام كذب لا أساس له من الصحة، بينما ترمى المساجد بكل نقيصة وبتهم تتعلق بالإرهاب والعنف".
وتابع: "ضعف الدولة يظهر في تلك المسألة، من وجود مؤسسات وكيانات تتخطى دورها، وتكون غير خاضعة لسيطرة الحكومة والأجهزة، تلك الأجهزة التي تنكل بالمواطن البسيط من خلال السجن والإجهاز على حقوقه، لكن في القضايا المصيرية، والحفاظ على الأمن العام نجدها تولي ظهرها تجاه فئة بعينها، بينما تغض الطرف عن الآخر بحكم المصلحة أو الضغوط الخارجية".