"كاريه".. مسجد تركي عاد إلى أصله بعد 75 عاما من تحويله متحفا

12

طباعة

مشاركة

بعد مرور قرابة شهر من قرار إعادة فتح مسجد "آيا صوفيا"، أصدر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرسوما يقضي بإعادة فتح مسجد "كاريه" في مدينة إسطنبول، بعد أن ظل يستخدم كمتحف ومخزن للبضائع في إحدى زواياه لنحو 75 عاما.

ومثلما حدث مع إعادة افتتاح مسجد آيا صوفيا في إسطنبول من ردود فعل متباينة، تمثلت بترحيب عربي وإسلامي وغضب غربي أوروبي، جاءت ردود الأفعال مماثلة مع "مسجد كاريه".

قرار مجلس الوزراء رقم 3/3054، الصادر بتاريخ 29 أغسطس/آب 1945 قضى بتحويل مسجد كاريه في حي الفاتح الشهير إلى متحف تابع لوزارة التربية الوطنية.

وفي 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، صدر قرار مجلس الدولة التركي (أعلى محكمة إدارية في البلاد)، بإلغاء قرار مجلس الوزراء الصادر في عام 1945، على اعتبار أن قرار التحويل إلى متحف غير قانوني وأن المبنى من أوقاف السلاطين العثمانيين.

عقب ذلك صدر مرسوم للرئيس أردوغان في 22 يونيو/حزيران 2020، ووقعه في 10 يوليو/تموز 2020، يقضي بتبعية المكان لمديرية الشؤون الدينية وفتحه للعبادة، بموجب المادة 35 من قانون إنشاء وواجبات رئاسة الشؤون الدينية رقم 633 الصادر في عام 1965.

وفي 24 أغسطس/آب 2020، دخل المرسوم حيز التنفيذ وهو ذات الشهر الذي تم فيه إغلاقه كمسجد وتحويله إلى متحف في عام 1945.

جستنيان الأول

يعود بناء المسجد إلى القرن السادس الميلادي وتحديدا إلى العام 534، في عهد جستنيان الأول، واستخدم المبنى ككنيسة خلال الفترة البيزنطية، وبعد فتح القسطنطينية عام 1453 واعتناق الإسلام، تم إعادته كمسجد مرة أخرى عام 1511.

بعد مرور نحو 58 عاما على فتح القسطنطينية، تضاعفت الحاجة المجتمعية للمساجد، فأصدر عتيق علي باشا، وهو أحد كبار وزراء السلطان بايزيد، أمرا باعتماده للصلاة، وأصبح يطلق عليه مسجد عتيق باشا أو مسجد كاريه، واستمر كذلك لمدة 435 سنة، قبل أن يتم إغلاقه وتحويله لمتحف في أغسطس/آب 1945.

خضع المسجد لإصلاحات وترميم دائم خلال الفترة العثمانية على مدى نحو 400 سنة، الأمر الذي جعله متماسك البناء حتى الآن.

ويتكون المسجد من 5 وحدات معمارية رئيسية، مبنى مستطيل وله ملحق من طابقين، على الجانب الشمالي، رواق داخلي، وآخر خارجي يوجد به مقبرة.

الهيكل الرئيسي للمبنى مغطى بقبة محمولة على 4 أعمدة، ويتخلل القبة 16 نافذة طويلة، تسمح بدخول الضوء بشكل واسع.

وفي الطرف الشرقي توجد غرف تعتليها قباب صغيرة، مفتوحة على الرواق الرئيسي للجامع، أما الملحق، فيحتوي على مكتبة في الطابق الأول، وخزانة في الطابق الثاني.

تغطى أرضيات الوحدات الرئيسية بالرخام، كما تم تزيين جدران المبنى الرئيسي بألواح رخامية نفيسة حتى مستوى عال من المبنى، في حين تُزين الحوائط بالفسيفساء واللوحات الجدارية بشكل كامل.

وفي العصر العثماني قبل أكثر من 400 عام، تم بناء مئذنة في الجزء الجنوبي الغربي من الرواق الخارجي، كما جرى بناء محراب في الوحدة الرئيسية في ذلك العصر.

أما فتحات النوافذ فهي مطعمة بالزجاج الملون، وهو فن سبق التطور البيزنطي في أوروبا.

معلم تاريخي

تكمن أهمية المسجد في كونه معلما تاريخيا بني قبل نحو 1500 عام، وزادت تقنيات الزخرفة التي طرزت بها حوائط المسجد من أهميته الفنية.

وتحوز حوائطه على فسيفساء موزعة بدقة متناهية، ولوحات جدارية نموذجية، وقد أعلت الجداريات الإسلامية التي أضيفت لها أثناء العصر العثماني من قيمته الفنية والتاريخية والإسلامية.

وما زاد من جاذبية المعلم أنه محاط بالمقاهي التاريخية وأماكن الاستراحة الرحبة، ما جعله ملتقى للأصدقاء الذين يستنشقون في محيط المسجد خليطا من عبق التاريخ وروحانية الإسلام.

ورغم قدم هذا المعلم التاريخي وجاذبيته، فإنه لم يكن يحظى بزيارة السياح الأوروبيين، بنفس القدر الذي حظي به آيا صوفيا، لأنه لا يمثل نفس الدلالة الرمزية للأخير.

كما أنه يقع في منطقة مكتظة بالسكان في منطقة الفاتح، بالإضافة إلى أنه مبنى صغير إذا ما قورن بآيا صوفيا، غير أنه يحظى بجاذبية فريدة لكل من اعتاد زيارته ولقاء الأصدقاء في محيطه.

وأثار قرار إعادة فتح المسجد غضب اليونان، التي تشهد توترا مع تركيا منذ نحو 6 عقود، وانتقدت الخارجية اليونانية قرار مجلس الدولة في تركيا بإعادة فتح مسجد "كاريه" للعبادة، على غرار ما حدث لآيا صوفيا، ووصفت القرار بـ"المستفز للمؤمنين وللمجتمع الدولي".

ونقلت صحيفة "سوزجو" التركية عن الخارجية اليونانية قولها في بيان رسمي: "القرار يعد استفزازا للمتدينين في جميع أنحاء العالم، ويأتي ضد رغبة المجتمع الدولي الذي يحترم آثار الحضارة العالمية. نحن لا ننوي التدخل في الشؤون الداخلية لتركيا، لكن (آيا صوفيا) و(دير كاريه) أماكن مشتركة لأصحاب الأديان المختلفة".

روافع الإمبراطوريات

يقول محمد إلهامي الباحث المتخصص في التاريخ والحضارة الإسلامية: "ما يجب أن ندركه أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم يأت إلى متحف كان طوال الزمن كذلك، فحوله إلى جامع، وإنما غاية ما هنالك أنه أبطل قرار تحويل الجامع إلى متحف".

يضيف الباحث المصري لـ"الاستقلال": "كل الإمبراطوريات عبر التاريخ قامت على فكرة، عقيدة ورسالة، وأعظم الإمبراطوريات هي التي قامت على الدين، وهذا أمر تقرؤه عند ابن خلدون وكريستوفر داوسون وصمويل هنتنجتون".

وتابع: "لذلك فإن الإمبراطوريات التي قامت على الأديان الكبرى، مارست الفتوحات وتوسعت على حساب ما يليها من الممالك، وكلها كانت حريصة على إدخال الناس في دينها ونظامها، وهي تعتقد في ذلك يقينا أنها تهديهم إلى الحق وتنقذهم من الضلالة".

وعن تحويل الكنائس إلى مساجد عقب الفتح العثماني، يقول إلهامي: "من طبائع الأمور أن يزيل الفاتح المنتصر نظام المهزوم المغلوب".

وأردف: "إذا كانت الحروب والفتوح تقوم على صراع الأفكار أو حتى تتلبس بها، ثم إذا كانت الإمبراطوريات العظيمة قامت على الأديان، فإن أهم ما يلزم من إزالة نظام المغلوب هو إزالة قلاعه الفكرية ورموزه الدينية".

يتابع إلهامي: "هكذا انقلبت المساجد إلى كنائس، والكنائس إلى مساجد، والكنُس إلى كنائس، والكنائس إلى كُنُس، كما انقلبت دور العبادة إلى حظائر خنازير أو حانات خمور أو مراقص أو ما شاء لها المنتصر من أشكال الإهانة والإذلال، أو حتى هُدِمَت دور العبادة على الجملة، وتحطمت المشاهد العظيمة على يد المنتصر".