باحث سياسي لـ"الاستقلال": لهذا فشلت الإمارات في اختراق المغرب ثقافيا
أعلنت مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" مطلع أبريل/ نيسان الماضي تجميد كل أنشطتها في المغرب، حيث مقرها المركزي، لكن الجدل لا يزال مستمرا بعد إصدار المؤسسة بيانا في 12 يوليو/ تموز 2020، تنفي من خلاله أن يكون سبب الإغلاق سياسيا.
الجدل أعاد إلى الواجهة التساؤلات حول الدور الذي كانت تلعبه المؤسسة الإماراتية في المملكة، واختيارها للمغرب دون غيره من الدول العربية لممارسة أنشطتها وفعالياتها، وأيضا علاقة قرار الإغلاق بالأزمة الدبلوماسية بين المملكة والإمارات.
"الاستقلال" أجرت حوارا مع الباحث السياسي المغربي، المتخصص في الحركات الإسلامية والتحولات الديمقراطية في العالم العربي، بلال التليدي، للبحث عن إجابة على هذه التساؤلات وغيرها.
الإسلام العلماني
-
لماذا اختارت "مؤمنون بلا حدود" المغرب دون غيره من الدول العربية لتنشئ مقرها المركزي؟
الحديث عن كون المغرب الدولة الوحيدة التي تفتح فيها "مؤمنون بلا حدود" مقرا لها، غير صحيح لأن المؤسسة تشتغل أيضا في تونس، وفي المغرب لا تشتغل بصفتها مؤسسة "مؤمنون بلا حدود"، بل إحدى الجمعيات التي تنشط في المجال الثقافي، دون أن تحمل أي دلالات على كونها تحمل صفة الواحدية أو صفة الامتياز التي يسمح لها بأن تكون المؤسسة الوحيدة في المغرب.
في المملكة، هناك مجال للتعددية ونوع من الانفتاح وهناك عدد من المؤسسات الدولية التي لها فروع في المغرب، سواء كانت تنشط في المجال الثقافي أو الأكاديمي. هذه الجمعية مثلها مثل باقي الجمعيات والمؤسسات جميعا، لا تحمل أي دلالة تجعلها ذات امتياز خاص.
-
ما هو النموذج الإسلامي الذي كانت تحاول المؤسسة الترويج له؟
المؤسسة كانت تشتغل بالأساس على التأسيس للفهم الحداثي والعلماني، وكانت تشتغل على التراث وتركز بالأساس على التراث الفلسفي الذي تقرؤه من زاوية أنه يأسس للبرهان والحداثة.
كانت أيضا تشتغل على كل النصوص والمتون التي تؤسس للفصل ما بين الدين والسياسة وما بين الدين والدولة، وكانت أيضا تشتغل على نقد التراث الديني بكل مستوياته، ليس فقط مجسدا في أدبيات الحركات الإسلامية والدينية، إنما أيضا تشترط على نقد العقل الديني مجسدا في أدبيات العلماء والفقهاء والمحدثين.
وبالنسبة إليها لا خلاف بين عقل الفقهاء والعلماء والعقل التراثي بشكل عام وما بين عقل الحركات الإسلامية. هي ترى بأن نقد الحركات الدينية لا ينبغي أن ينطلق من نقد أدبياتها وإنما ينبغي أن ينطلق من نقد العقل الإسلامي الذي تجسدت مظاهره وتجلياته في التراث الأصولي والفقهي والحديثي، وكل ما يرتبط بالعلوم التي نشأت من دائرة الاحتكاك بالقرآن والسنة النبوية. هذا هو مجال اختصاصها بشكل كبير.
سياسة الاستقطاب
-
لكن الجمعية وُصفت بأنها إحدى أذرع الإمارات لاختراق المملكة، هل في الوصف مبالغة؟
ينبغي أن نحدد بين مستويين الأول هو ما تطمح إليه هذه المؤسسة، والثاني هو واقع فعلها على الأرض. إذا كانت هذه المؤسسة ومن يقوم عليها يتصور أنه بالإمكان أن تقوم بدور الاختراق الثقافي والأكاديمي بهدف الاختراق السياسي، فهذه الطموحات عندما يتم قياسها على واقع الأرض تجد فرقا شاسعا.
صحيح أن هذه المؤسسة حاولت أن تنشط في المجال الأكاديمي وبشكل خاص الاتصال بالأساتذة الجامعيين وعقد شراكات مع مؤسسات جامعية وتنشيط عملية النشر والكتابة على الموقع وفي عدد من المجلات المحكمة، وهذه الإسهامات تكون بمقابل مادي، وفي الأيام الأوائل كانت تعقد مؤتمرات سنوية وهذه المؤتمرات كانت تحتضن وتستقطب عددا هائلا من المثقفين والأساتذة وكانت تعقد في فنادق فخمة وكانت تهيأ فيها كل الأسباب لاستقطاب عدد من المثقفين.
من المعروف أن الحركة الثقافية في العالم العربي خصوصا في المناطق التي يكون دخلها منخفضا يكون هناك إقبال على المؤسسات التي تدفع مقابلا ماديا للإسهامات الفكرية والأكاديمية. لكن الأمر لم يلبث أن تغير لأن الوتيرة لم تستمر على الشكل الذي كانت عليه في البداية، فلنا أن نتصور أن المكافآت التي كانت تعطى في الأشهر الأولى كانت مجزية، وبسببها استطاعت المؤسسة أن تجلب عددا كبيرا من المثقفين والأكاديميين.
لكن ما إن تدنت هذه المكافآت بشكل كبير إلى أن وصلت إلى أدنى مستوياتها في السنوات الأخيرة، بل إن هذه المؤسسة أصبحت تعيش في الرباط أزمة مالية خانقة ما جعل عددا كبيرا من المثقفين والأكاديميين الذين يدورون في فلكها يتخذون قرارا بأخذ مسافة عنها لأنها لم تعد تتعامل معهم بنفس التعامل المادي السابق.
هذه السياسات المرتبطة بالمكافأة والإدماج والاستقطاب تتطلب قدرة تمويلية كبيرة وهذه القدرة لم تعد موجودة لدى المؤسسة التي باتت تتحايل الآن وتريد أن تنقل من مقر إلى آخر بهدف التحلل من التزاماتها المادية تجاه الموظفين، وتريد أن تبقي على عدد قليل فقط من المتعاونين وهذا ما جعل أفقها الاستيعابي والاستقطابي ضعيفا ومحدودا.
-
هل يتعلق الأمر فعلا بأزمة مالية أم أن المؤسسة لم تحقق الدور الذي أسست لأجله؟
لا أستطيع أن أجيب على وجه الدقة، فالأمر يحتاج إلى تقييم داخلي لأداء المؤسسة. من الناحية النشرية ومن ناحية تقييم وتيرة التأليف، هذه المؤسسة استطاعت أن تنشر عددا هائلا من الكتب والدراسات والمجلات.
لكن تقييم أثرها يقول بأن واقع بيعها في السوق ضعيف ومحدود جدا، فضلا عن كونه يعالج قضايا نخبوية جدا لا تتمتع بإقبال في السوق، وعلى القائمين على هذه المؤسسات أن يقوموا بعملية القياس بين التمويل الذي يعطونه وبين المردودية التي تحصل جراء هذا النشر الكثيف للأدبيات دون أن يكون هناك عائد ولو في حدوده الدنيا.
هذه المؤسسات تضطر إلى أن تراجع سياساتها التمويلية من باب حفز القائمين عليها لمزيد من الاشتغال والتفكير في توفير قدر من الاعتمادات الذاتية التي تجعل الكتابات ذات إقبال، لأن الجهات التي ترعى هذه المؤسسات ليس قصدها أن ينشر الكتاب أو أن يوجد بنسخ كثيرة في السوق، بل هدفها أن يحدث التأثير على المثقفين والنخب والطلبة وعلى شرائح كثيرة في المجتمع وإذا كانت هذه الكتب تطبع ولا تشترى، فمعناه أن التأثير محدود على مستوى النخب والشرائح المذكورة، إذا ما الداعي لكل هذا الإنفاق إذا كان التأثير محدودا، لذلك اتجهت إلى سياسة التقشف.
قد تكون سياسة التقشف في إحدى جوانبها ناتجة عن ضائقة مالية، وقد تنتج عن فعل إرادي هدفه تحفيز القائمين على هذه المؤسسات على التحرك من أجل توفير تمويل ذاتي وفي نفس الوقت نقل الحركة النشرية من مستوى الكم إلى مستوى الكيف أو مستوى التأثير على المجتمع والشرائح المجتمعية.
"إمارة المؤمنين"
-
كيف كانت علاقة المؤسسة الإماراتية بباقي المؤسسات الدينية في المغرب؟
هناك نوع من الحساسية الشديدة، فالمؤسسات الدينية في المغرب تابعة كما هو معروف لمؤسسة "إمارة المؤمنين" وهذه المؤسسة لها حساسية شديدة من الاشتباك مع المؤسسات غير المغربية، خصوصا إذا كانت لها رهانات تختلف بشكل كبير عن الثوابت التي تحدد الممارسة الدينية في المغرب، الذي تقوم سياسته الدينية على ثوابت معروفة لا تسمح بنقد الموروث الديني بالشكل الذي تمارسه مؤسسة "مؤمنون بلا حدود".
لا أعتقد أن هناك أفقا للالتقاء بين الاثنين، ولم يحدث أن حصل تنسيق بين مؤسسة الحقل الديني مجسدة في وزارة الأوقاف أو في المجالس العلمية وبين مؤمنون بلا حدود. لهذه المؤسسة أطروحة معينة هي أن هذا التصوف هو نموذج للانفتاح والتسامح والالتقاء بين الأديان، هي تنظر إلى التصوف من هذا الباب أي أنه يمكن أن يقوم بهذا الدور ولذلك فهي تراهن على إحياء التصوف ودراسته لأداء وظيفتين.
أولا، إن التصوف فعل ديني لا علاقة له بالسياسة وهذا يساعدها في مسار العلمنة. وثانيا، إن التصوف لا يقيم أي حواجز بينه وبين الديانات والعقائد الأخرى، وهذا جزء من رهان هذه المؤسسة لأنها تؤمن بصهر الإسلام في الثقافة الكونية وفي العقائد الأخرى وهذا هو السبب الذي جعلها تركز على التصوف.
لا أعتقد أن أداء المؤسسة قد وصل إلى مستوى الانتقال من الفكرة إلى الفاعل، والمقصود هنا التصوف والزوايا (الطرق الصوفية). الانتقال من مناقشة الفكرة إلى عقد نسيج من العلاقات التفاعلية مع الفاعل الديني ممثلا في الزوايا، هذا يثير حساسية حول دورها السياسي، في حين تريد المؤسسة دائما أن تنأى بنفسها عن أن تؤدي دورا سياسيا مباشرا.
وأعتقد بأنه في المغرب لن يكون مسموحا لها بأن تسير أكثر من الخط المرسوم لها، فهذه مؤسسة أكاديمية فكرية ثقافية ولا يمكن أن تتجاوز هذه الحدود. وأي تجاوز لن يكون مقبولا في المغرب.
لذلك لم يحدث في حدود علمي الدور الثقافي العلمي وأي محاولة للانتقال من عالم الأفكار إلى عالم الالتقاء بالفاعلين سواء كانوا فاعلين دينيين أو سياسيين، فالأمر كان سيطرح علامة استفهام كبيرة على هذه المؤسسة.
أزمة ذاتية
-
ملك المغرب عين مؤخرا سفيرا جديدا بالإمارات ما يوحي بانفراجة في الأزمة الدبلوماسية بين البلدين، فهل يمكن أن تنشط المؤسسة في المغرب من جديد؟
لا أعتقد أنه يمكن الربط بين هذه القضايا، المؤسسة تعيش أزمة ذاتية تحاول أن تخرج منها من خلال التحلل من الالتزامات المادية، والاقتصار على عدد قليل من المتعاونين. المغرب حتى الآن ورغم كل الابتزازات التي تقوم بها الإمارات، لم يتحول إلى رد الفعل، ولم يقم بأي شيء تجاه هذه المؤسسة وذلك يدخل في سياسة ضبط النفس. أما الحديث عن وجود علاقة بين تعيين سفير والانفراجة في العلاقات الثنائية للبلدين، وبالتالي عودة المؤسسة إلى عملها، فهي قضايا لا يمكن الربط بينها.
هذه المؤسسة لم يتوقف عملها مطلقا، وهي تعيش إشكالات ذاتية لا علاقة للدولة المغربية بها، وهناك من يحاول أن ينشر روايات تحاول أن تغطي على هذه الأزمة الداخلية والذاتية من خلال الإيحاء بوجود تدخل للدولة، في حين أن الدولة المغربية لم تتدخل في عمل هذه المؤسسة وأعتقد بأن المغرب حتى الآن لم يتصرف أي تصرف يخرج عن إطار ضبط النفس مع دولة الإمارات.
تعيين السفير هو إجراء عادي لأنه لم يحدث أن وقعت هزة دبلوماسية علنية، الذي حدث هو استدعاء للسفير وأظن بأن المغرب يعطي دائما الإشارات إلى أنه يحاول أن يتجاوز كل المطبات التي يريد الآخرون أن يوقعوه فيها، ويريد أن يبعث برسالة التعقل والحكمة، وأنه ليس من المصلحة أن يتم التعامل بهذه الطريقة.
وعلى الذين يريدون أن يعلقوا فشل هذه المؤسسة على شماعة القضايا الدبلوماسية والإشكالات بين الدول، أعتقد أنه نوع من الهروب إلى الأمام، هذه المؤسسة ينبغي أن نقر بأنها تعيش أزمة وكل ما فعلته إلى الآن لم يؤد إلى أي نتيجة، وتعيش فشلا ذريعا وواقع الانسداد التام، وكل تطلعاتها لاختراق البنية الثقافية داخل المغرب والبنية الأكاديمية، كلها تطلعات أظهرت الوقائع أنها كانت حالمة ولم تصل إلى أي شيء، هذا هو الواقع.