بيري ريس.. قائد عثماني رسم خريطة للعالم أكدها العلماء بعد 4 قرون

أحمد يحيى | 5 years ago

12

طباعة

مشاركة

في عام 1921 عثر مدير المتاحف الوطنية التركية، خليل أدهم بك، على خرائط بيري ريس لرسم العالم، خلال عملية ترميم قصر طوب كابي سراي في إسطنبول، ليفتح كنزا عن تلك الشخصية الآثرة في التاريخ العثماني.

فهو بحار وقائد عسكري، برع في علم الجغرافيا ورسم الخرائط، تجلت عظمة القائد العثماني الملهم "بيري ريس"، في كونه أحد القيادات العسكرية التي صنعت العصر الذهبي للفتوحات العثمانية، ذلك العصر الذي بدأ بالسلطان محمد الفاتح، ومن بعده بايزيد، ثم سليم الأول، وسليمان القانوني.

بفضل قادة عظام، كان ريس أحدهم، تمددت الدولة العثمانية شرقا وغربا، وسيطرت على البر والبحر، وخاضت حروبا متعددة على جبهات كثيرة، وجابهت الروس والبرتغاليين والإسبان، وبسطت نفوذها على شواطيء العرب وفارس والهند، بالإضافة إلى البحر المتوسط.

تفرد ريس بعبقريته، في مجال الجغرافيا، فكان من أبرع الجغرافيين في التاريخ العثماني، ووصفه علماء التخصص، بأنه من أدق من رسموا الخرائط في التاريخ الإنساني.

برزت عبقرية ريس في كتابه المكتشف حديثا "البحرية"، والذي يحوي مخطوطات دقيقة للمدن والبحار، لا سيما المتعلقة بأميركا الجنوبية التي لم تكن مكتشفة وقتها، وهو ما عبر عنه د. فيصل الكندري في كتابه "الملاح والجغرافي بيري ريس".

الكندري نقل ما قاله بيري ريس عن مخطوطاته قائلا: "إنه بفضل الخرائط المرفقة يستطيع الشخص أن يُبحر ويتجول بين جزر البحر المتوسط دونما حاجة ماسة لدليل أو مرشد يدله إلى الطريق". وهذا ليس بالأمر الهين في ذلك الزمان. 

خريطة إسطنبول التي رسمها بيري ريس بأسلوب مذهل في زمانه

في شبه جزيرة غاليبولي الإستراتيجية على بحر مرمرة بتركيا، عاش بيري حجي محيي الدين ابن الحاج محمد الفاتح الشهير بـ "بيري ريس" في الفترة بين 1456م إلى 1554م.

تلقي بيري ريس تعليمه الأولي بين جنبات مدارس "الصبيان" بمدينة غاليبولي، وهناك تشرب العلوم الدينية، والأبجدية التركية بالإضافة إلى علوم الحساب والفلك.

أثرت جزيرة غاليبولي القاعدة البحرية للدولة العثمانية، في تنشئة ريس، وهو ما وصفه المؤرخ العثماني كمال أوغلو بقوله: "أبناء غاليبولي أمضوا حياتهم في البحر كالتماسيح، وكانت أسرتهم القوارب، وهدهدتهم البحر، والسفن ليلا ونهارا".

أمير البحار

برزت شخصية الفتى "بيري ريس" الذي انصهر في بوتقة جزيرة غاليبولي، متأثرا بمثله الأعلى عمه قائد الأسطول العثماني "كمال ريس".

ظهر هذا التأثر بشدة من خلال مقولة وجدت على إحدى خرائط ريس (حرره الفقير بيري بن حاجي محمد المشتهر بابن أخ "باردر زاده" كمال ريس، في مدينة غاليبولي _ عفا الله عنهما_ في شهر محرم سنة تسعة عشر وتسعمائة). 

كما أورد أيضا في كتابه "البحرية" عبارة مشابهة في قوله (هذا أضعف العباد بيري ريس بن الحاجي محمد بن أخ الريس المرحوم الغازي كمال..).

علاقة ريس بعمه لم تقف عند حد الإعجاب فقط، بل تتلمذ ريس في علم البحار على يد عمّه كمال، الذي استخدم المدافع على السفن لأول مرة في المعارك البحرية، وكان كثيرا ما يشارك معه في الهجمات والمعارك التي يخوضها مع أعداء الدولة العثمانية، بداية من البيزنطيين مرورا بالإسبان والبرتغال.

وصل "بيري ريس" إلى رتبة أمير بحر، تحت قيادة عمه قائد الأسطول العثماني، والذي علم "بيري" فنون الحرب والقتال، بالإضافة إلى علوم البحار المختلفة، وظل مرافقا له حتى العام 1511، وهو العام الذي شهد وفاة "كمال ريس" عندما غرقت سفينته أثناء عودته من حملة في إسبانيا بالقرب من قاعدة غاليبولي.

ولكي نفهم طبيعة العبقرية الفذة التي التي امتاز بها بيري ريس، لا بد أن نستكشف قدرة البحرية العثمانية في عصره، خاصة وأن المرحلة الزمنية التي تمتد من منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، وحتى منتصف القرن السادس عشر، جديرة بالدراسة والبحث.

كان للبحرية العثمانية دور بارز في وصول الدولة إلى منتصف أوروبا، والسيطرة على المضايق البحرية الإستراتيجية، بالإضافة إلى إسقاط مدينة القسطنطينية الحصينة، وتذكر بعض المراجع التاريخية أن عدد السفن التي أعدها العثمانيون لمعركة القسطنطينية بلغت 400 سفينة من كافة الأنواع والأحجام، وهو دليل على المقدرة الهائلة التي توصلوا إليها في هذا المجال.

المستشرق الإنجليزي هارولد بوين يرى أن السمة المميزة للفترة التي قاد فيها "بيري ريس" الأسطول العثماني، تتمثل في تحويل البحر الأسود إلى بحيرة عثمانية إسلامية، ثم السيطرة الكاملة على خانات القرم، وتوابعها، وبسط ذلك الأسطول الرهيب سيطرته الكاملة على البحر الأسود، والبحر المتوسط، وفتح عشرات المدن في تلك المساحة.

فتح الأسطول العثماني المدن الساحلية والجزر المحيطة بالبلقان، وهاجم جزيرة رودس التابعة لفرسان القديس يوحنا، وخاض معركة بلجراد بـ 200 سفينة، وحرك حملاته ضد إيطاليا، وهاجم مدينة البندقية، وباغت مدينة أوترانتو المهمة في جنوب شرق إيطاليا.

مدينة غرناطة الإسبانية، كما رسمها بيري ريس

أهم معاركه

يؤكد يلماز أوزتونا في كتابه "تاريخ الدولة العثمانية"، أن "بيري ريس" جاء إلى مصر عقب وفاة عمه مباشرة عام 1511، فيقول: "كان كمال ريس قد جاء إلى مصر ونظم الأسطول المملوكي على عهد السلطان قانصوه، وبإذن من السلطان بايزيد الثاني، وبوفاة كمال ريس جاء ابن أخيه بيري ريس، وأصبح كبير ملاحي قبودان".

ويقول الدكتور فيصل الكندري: "حياة بيري ريس لازال يكتنفها الكثير من الغموض ولا نعلم كل شيء عن حياته، فخلال الفترة ما بين الأعوام 1513 إلى 1529، ربما يكون بيري ريس قد شارك في حملات خير الدين بربروسا في شمال إفريقيا وعلى عدة جبهات أخرى".

لكن المؤكد هو أن ريس كان عنصرا أساسيا في حملات السلطان سليم الأول نحو الشرق، بداية من فتح مصر، حيث قاد بيري الأسطول العثماني حتى دخل إلى المياه الإقليمية المصرية في الإسكندرية، وأخضعها بالكامل، بالإضافة إلى شمال إفريقيا، مرورا بمعارك الدولة الصفوية، بل قاد "بيري ريس" أسطولا عثمانيا من خليج السويس، للسيطرة على عدن.

ومع ولاية السلطان سليمان القانوني، الذي شهدت الدولة العثمانية في حكمه أوج عظمتها بما في ذلك القوة البحرية، بدأ دور "بيري ريس" يبرز في ذلك المجال، حيث شارك في فتح جزيرة رودس الإستراتيجية، التي أعاقت طويلا تحركات الأسطول العثماني في البحر المتوسط.

في كتابه "تاريخ الأدب الجغرافي العربي"، ذكر كراتشكوفسكي أن المستشرق الألماني "ديتس" يرى بقوة أن أطلس "بيري ريس" الجغرافي، ويقصد خريطته الأولى التي أصدرها في العام 1513 ساعدت بقوة العثمانيين على فتح هذه الجزيرة الإستراتيجية (رودس). 

وأكدت العديد من المصادر التاريخية أن "بيري ريس" شارك في حملة "سليمان باشا" الخادم على اليمن والهند عام 935 هـ، بل إن السلطان سليمان القانوني عين "بيري ريس" برتبة رئيس قبطان مصر والهند، وهو منصب كان يتبع ماليا والي مصر، وإداريا السلطان العثماني مباشرة.

فتح عدن، كانت من أبرز أعمال بيري ريس، بعد معارك شرسة ضد والي عدن علي بن سليمان، الذي استعان بقوة من البرتغاليين، لكن ريس استطاع إحكام سيطرته وإخضاع المدينة يوم الجمعة الموافق 3 فبراير/ شباط 1549، وعندها منحت الإدارة العثمانية "بيري ريس" هدايا بلغت قيمتها 100 آقجه (العملة  القديمة للدولة العثمانية)، وتم ترقية البحارة والجنود الذين شاركوا في هذا الفتح.

خرائط مذهلة 

في عام 1513، رسم بيري ريس خريطة دقيقة ومذهلة للعالم، وتعتبر أقدم خريطة موجودة لقارة أميركا على سطح الأرض، ومع ضياع خريطة كولومبوس، حيث لم يعثر لها على أثر، بقيت خرائط بيري ريس شاهدة على عبقرية ذلك العالم الجغرافي العثماني. 

رسم بيري خريطته على جلود الغزال مستخدما 9 ألوان، أما الإبهار في تلك الرسومات، فلكونها  تظهر تفاصيل دقيقة مثل جبال في نقوش بارزة، وأنهار بخطوط سميكة، ومسطحات بنقاط حمراء، ومناطق حجرية تتضمن رسومات لنباتات شائعة وصور حيوانات، إضافة إلى ملاحظات حول مختلف المناطق. 

أما الجزء المتبقي من الخريطة فيشمل السواحل الشرقية والغربية للمحيط الأطلسي، وتتضمن الخطوط الساحلية للأميركتين الشمالية والجنوبية، وجزر الأنتيل وشمال غرب إفريقيا وفرنسا وإسبانيا. 

خرائط بيري ريس، أبهرت علماء الجغرافيا، لما اتسمت به رسوماتها من دقة كبيرة مقارنة بالأدوات العلمية المتاحة آنذاك، ليأتي العلماء في العصر الحديث ويأكدوا أنه "بمقارنة صور الأرض التي تم التقاطها من مركبات الفضاء بالخرائط التي رسمها بيري ريس اتضح التشابه المذهل بينهما"، وهو ما جعلها تحظى بقيمة تاريخية وعلمية كبيرة.

خريطة بيري ريس التي تضع رسما دقيقا لأمريكا الجنوبية

كتاب البحرية

الحياة العريضة التي عاشها بيري ريس، وتنقلاته وحروبه في عالم البحار، دونها في كتاب "البحرية" الذي أتمه عام 1521، وهو من أهم الكتب في مجال الملاحة، ومن الأعمال الرائدة في علم الجغرافيا ورسم الخرائط التاريخية في التاريخ العالمي.

يحوي كتاب "البحرية" معلومات قيمة عن بحر الصين، والمحيط الهندي، والخليج العربي، وسواحل الحبشة في إثيوبيا وجزر القمر، والبحر الأبيض المتوسط، ومضيق هرمز، وجزر الأنتيل، واكتشاف أميركا، والبحارة البرتغاليين الذين أبحروا إلى المحيط الهندي.

وصف بيري ببراعة بحر إيجة، واليونان، وسواحل البحر الأدرياتيكي، وسواحل البحر الأبيض المتوسط في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وشمال إفريقيا ومصر، وساحل شرق المتوسط، وقبرص وموانئ ساحل الأناضول المطلة على بحر إيجة.

كما ناقش الكتاب مواضيع علمية عن أهمية علوم الملاحة للبحارة، وأسماء الرياح والعواصف، ومقدمة في الخرائط، وعلامات الخرائط، وأسماء البحار.

رسم أوروبا وشمال أفريقيا في كتاب البحرية لبيري ريس

العالم يكرمه

في عام 2013 أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)،  أن ذلك العام سيكون لإحياء ذكرى بيري ريس، بمناسبة مرور 500 عام على خريطة العالم التي رسمها.

أُقيم معرض تضمن أعمالا تُظهر التصورات المختلفة عن العالم ما قبل خريطة بيري ريس، تحت عنوان "بيري ريس وخريطة العالم.. 500 عام من الغموض"، وذلك  في مركز "توبهانه أميري للثقافة والفنون" التابع لجامعة معمار سنان للفنون الجميلة في مدينة إسطنبول.

وفي 22 ديسمبر/كانون الأول 2019، دشن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان غواصة تركية حديثة الصنع، أطلق عليها "بيري ريس" تكريما وتخليدا للدور التاريخي الذي لعبه أمير البحار العثماني، حيث تم إنزالها إلى المياه بولاية كوجالي في إطار مشروع محلي، يهدف إلى المساهمة في زيادة قدرات البحرية التركية وتطوير الصناعات الدفاعية بهذا المجال.